فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {قل: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]

باب { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
هذا ( باب) بالتنوين في قوله تعالى: ( { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ) [آل عمران: 93] لما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا على ملة إبراهيم" قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "كان حلالًا لإبراهيم فنحن نحله" فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه كان محرمًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى تكذيبًا لهم وردًّا عليهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم من البغي والظلم والصد عن سبيل الله وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعًا من الطيبات عقوبة لهم في قوله تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} إلى قوله: { عذابًا أليمًا} [النساء: 160] وفي قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} إلى قوله: { ذلك جزيناهم ببغيهم} [الأنعام: 147] .
كل الطعام أي المطعومات كان حلاًّ أي حلالًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه من قبل أن تنزل التوراة وهو لحوم الإبل وألبانها وكان ذلك سائغًا في شرعهم، قيل كان به عرق النسا فندر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه، وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء، واحتج به من جوّز للنبي أن يجتهد وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فهو كتحريمه ابتداء، ثم أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحاج اليهود بكتابهم فقال: { قل} أي لليهود { فأتوا بالتوراة فاتلوها} أي فاقرؤوها فإنها ناطقة بما قلناه إذ فيها أن يعقوب حرم ذلك على نفسه قبل أن تنزل وأن تحريم ما حرم عليهم حادث بظلمهم فلم يحضروها فثبت صدق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه وجواز النسخ الذي ينكرونه هذا ما يقتضيه سياق هذه الآية التي أوردها البخاري في هذا الباب وعليه المفسرون.


[ قــ :4303 ... غــ : 4556 ]
- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ» قَالُوا: نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا فَقَالَ: «لاَ تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ» فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا وَلاَ يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ: "مَا هَذِهِ؟ " فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ قَالَ: فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَجْنَأُ عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد ( إبراهيم بن المنذر) أبو إسحاق الحزامي قال: ( حدّثنا أبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض الليثي قال: ( حدّثنا موسى بن عقبة) الإمام في المغازي ( عن نافع) مولى ابن عمر ( عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) سقط لأبي ذر لفظ عبد الله ( أن اليهود) يهود خيبر ( جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في ذي القعدة من السنة الرابعة ( برجل منهم) لم يسم ( وامرأة) اسمها بسرة ( قد زنيا) قال النووي: وكانا من أهل العهد ( فقال لهم) عليه الصلاة والسلام:
( كيف تفعلون) ولأبي ذر عن الكشميهني كيف تعملون ( بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما) بضم النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم الأولى مشددة من التحميم يعني نسوّد وجوههما بالحمم وهو الفحم ( ونضربهما فقال) عليه الصلاة والسلام لهم: ( لا تجدون في التوراة الرجم؟) على من زنى إذا أحصن ( فقالوا: لا نجد فيها شيئًا) وإنما سألهم عليه الصلاة والسلام ليلزمهم بما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإسلام إقامة للحجة عليهم لا لتقليدهم ومعرفة الحكم منهم.

( فقال لهم عبد الله بن سلام) -رضي الله عنه- ( كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كتم صادقين) فإن ذلك موجود فيها لم يغير، واستدلّ به ابن عبد البر على أن التوراة صحيحة بأيديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها ولا دعا بها.
وأجيب: بأن سؤاله عنها يدل على صحة جميع ما فيها وإنما يدل على صحة المسؤول عنه منها، وقد علم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك بوحي أو إخبار من أسلم منهم فأراد بذلك تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم في مخالفتهم كتابهم وكذبهم عليه وإخبارهم بما ليس فيه وإنكارهم ما هو فيه فأتوا بالتوراة فنشروها ( فوضع) عبد الله بن صوريا ( مدراسها) بكسر الميم مفعال من أبنية المبالغة أي صاحب دراسة كتبهم وكان أعلم من بقي من الأحبار بالتوراة وزعم السهيلي أنه أسلم، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مدارسها بضم الميم على وزن المفاعلة من المدارسة.
قال في الفتح: والأول أوجه وهو ( الذي يدرسها منهم) بضم التحتية وفتح الدال المهملة
وتشديد الراء مكسورة وفي نسخة يدرسها بفتح أوله وسكون الدال وضم الراء مخففة ( كفه على آية الرجم فطفق) بكسر الفاء أي فجعل ( يقرأ) من التوراة ( ما دون يده) أي قبلها ( وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع) عبد الله بن سلام ( يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك) أي اليهود ( قالوا) : ولأبي ذر عن الكشميهني فلما رأى ذلك أي المدراس قال: ( هي آية الرجم فأمر بهما) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فرجما) بحكم شرعه ( قريبًا من حيث موضع الجنائز) برفع موضع في الفرع كأصله وغيرهما لأن حيث لا تضاف إلى ما بعدها إلا أن يكون جملة ( عند المسجد) .

وفي هذه القصة من حديث جابر عند أبي داود في سننه: أنه شهد عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة.
قال النووي: فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر، وإن كانوا كفارًا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرّا بالزنا، فلذا حكم عليه الصلاة والسلام برجمهما.

( قال) أي ابن عمر ( فرأيت صاحبها) أي صاحب المرأة الذي زنى بها ( يجنأ) بفتح أوله وسكون الجيم وبعد النون المفتوحة همزة مضمومة أي أكب، ولأبي ذر عن الكشميهني يحني بفتح حرف المضارعة وسكون الحاء المهملة وكسر النون بعدها تحتية أي يميل وينعطف ( عليها) حال كونه ( يقيها الحجارة) .

وفي هذا الحديث من الفوائد وجوب حدّ الزنا على الكافر، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والجمهور خلافًا لمالك حيث قال: لا حدّ عليه وأنه ليس من شرط الإحصان المقتضي للرجم الإسلام وهو مذهب الشافعي وأحمد خلافًا لمالك وأبي حنيفة حيث قالا: لا يرجم الذمي لأن من شرط الإحصان الإسلام وأن أنكحة الكفار صحيحة وإلاّ لما ثبت إحصانهم وأنهم مخاطبون بالفروع خلافًا للحنفية.

وهذا الحديث قد سبق مختصرًا في الجنائز ويأتي إن شاء الله في الحدود.