فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة، ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103]

باب { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة: 103] { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ { وَإِذْ} هَا هُنَا صِلَةٌ ( الْمَائِدَةُ) أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ: كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَالْمَعْنَى مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ: مَادَنِي يَمِيدُنِي،.

     وَقَالَ  ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَوَفِّيكَ مُمِيتُكَ.

هذا ( باب) بالتنوين في قوله تعالى: ( { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ) [المائدة: 103] ويجوز كون جعل بمعنى سمى فيتعدى لاثنين أحدهما محذوف أي ما سمى الله حيوانًا بحيرة، ومنع أبو حيان كون جعل هنا بمعنى شرع أو وضع أو أمر، وخرج الآية على التصيير وجعل المفعول الثاني محذوفًا أي ما صير الله بحيرة مشروعة.

( { وإذ قال الله} ) { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} [المائدة: 116] معناه ( يقول قال الله) غرضه أن لفظ قال الذي هو ماض بمعنى يقول المضارع لأن الله تعالى إنما يقول هذا القول يوم القيامة توبيخًا للنصارى وتقريعًا، ويؤيده قوله: { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وذلك في القيامة ( { وإذ} هاهنا صلة) أي زادة لأن إذ للماضي والقول في المستقبل، وقال غيره إذ قد تجيء
بمعنى إذا كقوله: { ولو ترى إذ فزعوا} [سبأ: 51] وقوله:
ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السماوات العلا
وصوّب ابن جرير قول السدي أن هذا كان في الدنيا حين رفع إلى السماء الدنيا.

( المائدة) في قوله: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} [المائدة: 112] ( أصلها مفعولة) ، مراده أن لفظ المائدة وإن كان على لفظ فاعلة فهو بمعنى مفعولة يعني ميمودة لأن ماد أصله ميد قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها والمفعول منها للمؤنث مميودة ( كعيشة راضية) وإن كانت على وزن فاعلة فهي بمعنى مرضية لامتناع وصف المعيشة بكونها راضية وإنما الرضا وصف صاحبها ( وتطليقة بائنة) التمثيل بهذه غير واضح لأن لفظ بائنة هنا على أصله بمعنى قاطعة لأن التطليقة البائنة تقطع حكم العقد ( والمعنى) من حيث اللغة ( ميد بها صاحبها من خير) ، يعني امتير بها لأن ماده يميده لغة في ماره يميره من الميرة ومن حيث الاشتقاق ( يقال مادني يميدني) .
من باب فعل يفعل بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل وقال أبو حاتم المائدة الطعام نفسه والناس يظنونها الخوان.
اهـ.

لكن قال في الصحاح: المائدة خوان عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة وإنما هو خوان.

( وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: { يا عيسى إني} ( { متوفيك} ) [آل عمران: 55] معناه ( مميتك) وهذه الآية من سورة آل عمران.
قيل: وذكرها هنا لمناسبة { فلما توفيتني} وكلاهما في قصة عيسى.


[ قــ :4370 ... غــ : 4623 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ لاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ:.

     وَقَالَ  أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّى بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهُمْ لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِ فَحْلُ الإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَمِعْتُ سَعِيدًا قَالَ: يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ:.

     وَقَالَ  أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي البصري قال: ( حدّثنا إبراهيم بن سعد)
بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو إسحاق المدني نزيل بغداد ( عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف المدني مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي قال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه أنه ( قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت) أي لبنها لأجل الأصنام ( فلا يحلبها أحد من الناس) ذكر أو أنثى، وخص أبو عبيدة المنع بالنساء دون الرجال، وقال غيره: البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة واشتقاقها من البحر وهو الشق يقال بحر ناقته إذا شق أذنها، واختلف فيها فقيل: هي الناقة تنتج خمسة أبطن آخرها ذكر فتشق أذنها وتترك فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء.

( والسائبة) بوزن فاعلة بمعنى مسيبة ( كانوا يسيبونها لآلهتهم) لأجلها تذهب حيث شاءت ( لا يحمل عليها شيء) ولا تحبس عن مرعى ولا ماء، وذلك أن الرجل كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر إن شفاه الله أو مريضه أو قدم غائبه فناقته سائبة فهي بمنزلة البحيرة، وقيل: هي من جميع الأنعام.

( قال) أي سعيد بن المسيب بالسند المذكور ( وقال أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه ( قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي، وسبق في باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة ورأيت فيها عمرو بن لحيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة.
قال الكرماني: عامر اسم ولحيّ لقب أو بالعكس أو أحدهما اسم الجدّ، وقال البرماوي: إنما هو عمرو بن لحيّ اسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو اهـ.

وعند أحمد من حديث ابن مسعود مرفوعًا: إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وعند عبد الرزاق من حديث زيد بن أسلم مرفوعًا: عمرو بن لحي أخو بني كعب.
قال ابن كثير: فعمرو هذا ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم.

وعند ابن جرير عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لأكتم بن الجون "يا أكتم رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف" ( يجر قصبه) بضم القاف وسكون الصاد المهملة وبعدها موحدة يعني أمعاءه ( في النار كان أوّل من سيب السوائب) .
قال سعيد بن المسيب: مما هو موقوف مدرج لا مرفوع ( والوصيلة) فعيلة بمعنى فاعلة هي ( الناقة البكر تبكر) أي تبادر ( في أوّل نتاج الإبل) بأنثى ( ثم تثنى) بفتح المثلثة وتشديد النون المكسورة ( بعد بأنثى) ليس بينهما ذكر ( وكانوا يسيبونهم) ولأبي ذر يسيبونها أي الوصيلة ( لطواغيتهم) بالمثناة الفوقية من أجل ( أن وصلت) بفتح الواو في الفرع كأصله وفي نسخة بضمها ( إحداهما) أي إحدى الأنثيين ( بـ) الأنثى ( الأخرى ليس بينهما ذكر) ويجوز كسر الهمز من أن وصلت وهو الذي في الفرع ولم يضبطها في الأصل، وقيل
الوصيلة من جنس الغنم فقيل هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في آخرها عناقًا وجديًا قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة وقيل غير ذلك.

( والحام) هو ( فحل الإبل يضرب الضراب المعدود) فينتج من صلبه بطن بعد بطن إلى عشرة أبطن ( فإذا قضى ضرابه ودعوه) بتخفيف الدال ولأبي ذر ودّعوه بتشديدها ( للطواغيت) أي تركوه لأجل الطواغيت ( وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي) لأنه حمى ظهره وقيل الحام الفحل يولد لولده، وقيل الذي يضرب في إبل الرجل عشر سنين.

( وقال أبو اليمان) الحكم بن نافع ولأبي ذر وقال لي أبو اليمان ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: ( سمعت سعيدًا) يعني ابن المسيب ( قال يخبره بهذا) بتحتية مضمومة فحاء معجمة ساكنة فموحدة من الإخبار أي سعيد بن المسيب يخبر الزهري، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قال: بحيرة بهذا بموحدة مفتوحة فحاء مهملة فتحتية ساكنة إشارة إلى تفسير البحيرة وغيرها كما في رواية إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري.
( قال) : أي سعيد بن المسيب ( وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- ( سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحوه) أي المذكور في الرواية السابقة وهو قوله البحيرة التي يمنع درها للطواغيت.

( ورواه) أي الحديث المذكور ( ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي ( عن ابن شهاب) الزهري ( عن سعيد) هو ابن المسيب ( عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أنه قال: ( سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا رواه ابن مردويه من طريق حميد بن خالد المهري عن ابن الهاد ولفظه: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب، والسائبة التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء إلى آخر التفسير المذكور، وقال الحافظ ابن كثير فيما رأيته في تفسيره قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف وسكت ولم ينبه عليه، وفيما قاله الحاكم نظر فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه والله أعلم.




[ قــ :4371 ... غــ : 464 ]
- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ».

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد ( محمد بن أبي يعقوب) إسحاق ( أبو عبد الله الكرماني) بكسر الكاف وضبطه النووي بفتحها والأول هو المشهور قال: ( حدّثنا حسان بن إبراهيم) بن عبد الله الكرماني أبو هشام العنزي بنون مفتوحة بعدها زاي مكسورة قال: ( حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي
( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( عن عروة) بن الزبير بن العوّام ( أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( رأيت جهنم) حقيقة أو عرض عليه مثالها وكان ذلك في كسوف الشمس ( يحطم) بكسر الطاء أي يأكل ( بعضها بعضًا ورأيت عمرًا) هو ابن عامر الخزاعي ( يجر قصبه) بضم القاف وسكون المهملة أمعاءه أي في النار وسقط للعلم به ( وهو أول من سيّب السوائب) .

وقد سبق هذا الحديث مطوّلًا في أبواب العمل في الصلاة من وجه آخر عن يونس بن يزيد.