فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]

باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]
هذا ( باب) بالتنوين في قوله تعالى: ( {وكنت عليهم شهيدًا}) رقيبًا كالشاهد لم أمكنهم من هذا القول الشنيع وهو المذكور في قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فضلًا عن أن يعتقدوه ( {ما دمت فيهم فلما توفيتني}) أي بالرفع إلى السماء لقوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك} [آل عمران: 55] والمتوفى أخذ الشيء وافيًا والموت نوع منه ( {كنت أنت الرقيب عليهم}) المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته بأدلة العقل والآيات التي أنزلت إليهم ( {وأنت على كل شيء شهيد}) [المائدة: 117] مطلع عليه مراقب له.

قال في فتوح الغيب: فإن قلت: إذا كان الشهيد بمعنى الرقيب فلمَ عدل عنه إلى الرقيب في قوله تعالى: {كنت أنت الرقيب عليهم} مع أنه ذيل الكلام بقوله: {وأنت على كل شيء شهيد}؟ وأجاب: بأنه خولف بين العبارتين ليميز بين الشهيدين والرقيبين فيكون عيسى عليه السلام رقيبًا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم بل هو كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول، وأنه تعالى هو الذي يمنع منع إلزام بنصب الأدلة وإنزال البينات وإرسال الرسل، وسقط لأبي ذر قوله: {فلما توفيتني} الخ ... وقال بعد قوله: {ما دمت فيهم} الآية.


[ قــ :4372 ... غــ : 4625 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثُمَّ قَالَ: «{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}» إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: كَمَا قَالَ: الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ».

وبه قال: ( حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: ( أخبرنا المغيرة بن النعمان) النخعي الكوفي ( قال: سمعت سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي ( عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما) أنه ( قال: خطب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) :
( يا أيها الناس إنكم محشورون) أي مجموعون يوم القيامة ( إلى الله) تعالى حال كونكم ( حفاة عراة غرلًا) بضم الغين وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف، والغرلة القلفة التي تقطع من ذكر الصبي.
قال ابن عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع له شيء يرد حتى الأقلف.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: حشفة الأقلف موقاة بالقلفة فلما أزالوها في الدنيا أعادها الله في الآخرة ليذيقها من حلاوة فضله، وسقط لأبي ذر: عراة ( ثم قال) عليه الصلاة والسلام: ولأبي ذر عن الكشميهني ثم قرأ: ( {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين}) [الأنبياء: 104] ( إلى آخر الآية) .
قال في شرح المشكاة: إن قيل سياق الآية في إثبات الحشر والنشر لأن المعنى نوجدكم عن العدم كما أوجدناكم أولًا عن العدم فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور؟ وأجاب: بأن سياق الآية دل على إثبات الحشر وأشارتها على المعنى المراد من الحديث فهو من باب الإدماج.

( ثم قال) عليه الصلاة والسلام: ( ألا) بالتخفيف للاستفتاح ( وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) الخليل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه أول من عري في ذات الله حين أرادوا إلقاءه في النار ولا يلزم من أوليته لذلك تفضيله على نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنا نقول إذا استأثر الله عبدًا بفضيلة على آخر واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة بغيرها أفضل منها كانت الفضيلة له، فحلة نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي يكساها بعد الخليل حلة خضراء وهي حلة الكرامة بقرينة إجلاسه عند ساق العرش فهي أعلى وأكمل فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية ولا خفاء بأن منصب الشفاعة حيث لا يؤذن لأحد غير نبينا فيه لم يبق سابقة لأولي السابقة ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أتت عليها وكم له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ولم يشارك فيها ( ألا) بالتخفيف أيضًا ( وإنه يجاء) بضم الياء وفتح الجيم ( برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) جهة النار ( فأقول: يا رب أصيحابي) بضم الهمزة وفتح المهملة مصغرًا والتصغير يدل على التقليل والمراد أنهم تأخروا عن بعض الحقوق وقصروا فيها أو من ارتد من جفاة الأعراب ولأبي ذر عن الكشميهني أصحابي بالتكبير ( فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: كما قال العبد الصالح) عيسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) وزاد أبو ذر {وأنت على كل شيء شهيد}.

وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.

( فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ) بالنون لأبي ذر عن الكشميهني مذ ( فارقتهم) لم يرد به خواص الصحابة الذين لزموه وعرفوا بصحبته فقد صانهم الله تعالى وعصمهم من ذلك وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب من المؤلّفة قلوبهم ممن لا بصيرة له في الدين.

وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في الرقاق بعون الله تعالى وقوته.