فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85]

باب: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]
هذا ( باب) بالتنوين في قوله تعالى: ( { ويسألونك عن الروح} ) [الإسراء: 85] وسقط باب لغير أبي ذر.


[ قــ :4465 ... غــ : 4721 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرْثٍ وَهْوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ؟.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ
لاَ يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْىُ قَالَ: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بكسر الغين المعجمة وآخره مثلثة ابن طلق بفتح الطاء وسكون اللام الكوفي قال: ( حدّثنا أبي) حفص قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: ( حدّثني) بالإفراد ( إبراهيم) النخعي ( عن علقمة) بن قيس النخعي ( عن عبد الله) بن مسعود ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال بينا) بغير ميم ( أنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حرث) بفتح الحاء المهملة آخره مثلثة وفي العلم من وجه آخر في قرب المدينة بخاء معجمة ثم موحدة آخره بدل المثلثة، وعند مسلم في نخل ( وهو متكئ على عسيب) بفتح العين وكسر السين المهملتين وبعد التحتية الساكنة وحدة عصًا من جريد النخل ( إذ مرّ اليهود) رفع على الفاعلية ( فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح) الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره أو جبريل أو القرآن أو الوحي أو ملك يقوم وحده صفًّا يوم القيامة أو ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه أو ملك له سبعون ألف لسان أو خلق كخلق بني آدم يقال لهم الروح يأكلون ويشربون أو سلوه عن كيفية مسلك الروح في البدن وامتزاجها به أو عن ماهيتها وهل هي متحيزة أم لا وهل هي حالة في متحيز أم لا وهل هي قديمة أو حادثة وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها قال الإمام فخر الدين وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهيّة وهل الروح قديمة أو حادثة ( فقال) أي بعضهم ( ما رأبكم إليه) بلفظ الفعل الماضي من غير همز من الريب ولأبي ذر عن الحموي كما قال في فتح الباري ما رأبكم بهمزة مفتوحة وضم الموحدة من الرأب وهو الإصلاح يقال فيه رأب بين القوم إذا أصلح بينهم قال وفي توجيهه هنا بعد.
وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري كذلك، وذكر ابن التين أن في رواية القابسي كرواية الحموي لكن بتحتية بدل الموحدة ما رأيكم أي بسكون الهمزة من الرأي انتهى.
وهذا الذي حكاه عن رواية القابسي رأيته كذلك في فرع اليونينية كأصله عن أبي ذر عن الحموي.

( وقال بعضهم لا يستقبلكم بشيء) بالرفع على الاستئناف ويجوز الجزم على النهي وفي العلم وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء ( تكرهونه) إن لم يفسره لأنهم قالوا إن فسره فليس بنبي وذلك أن في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ولا يطلع عليه أحدًا من عباده فإذا لم يفسره دل على نبوّته وهم يكرهونها وفيه قيام الحجة عليهم في نبوّته ( فقالوا: سلوه فسألوه عن الروح، فأمسك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يرد عليهم) ولأبي ذر عن الكشميهني فلم يرد عليه ( شيئًا) بالإفراد أي على
السائل وفي العلم فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ قال ابن مسعود ( فعلمت أنه يوحى إليه) في التوحيد فظننت بدل فعلمت وإطلاق الظن على العلم معروف ( فقمت مقامي) أي في مقامي أي لأحول بينه وبين السائلين أو فقمت عنه أي لئلا يتشوش بقربي منه وفي الاعتصام فتأخرت عنه ( فلما نزل الوحي) عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( قال: { ويسألونك عن الروح} ) قال البرماوي وغيره ظاهر السياق يقتضي أن الوحي لم يتأخر لكن في مغازي ابن إسحاق أنه تأخر خمس عشرة ليلة، وكذا قال القاضي عياض أنه ثبت كذلك في مسلم أي ما يقتضي الفورية وهو وهم بين لأنه إنما جاء هذا القول عند انكشاف الوحي وفي البخاري في كتاب الاعتصام فلما صعد الوحي وهو صحيح، قال في المصابيح: هذه الإطلاقات صعبة في الأحاديث لا سيما ما اجتمع على تخريجه الشيخان ولا أدري ما هذا الوهم ولا كيف هو ولما حرف وجود لوجود أي أن مضمون الجملة الثانية وجد لأجل مضمون الأولى كما تقول لما جاءني زيد أكرمته فالإكرام وجد لوجود المجيء كذلك تلاوته عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: { ويسألونك عن الروح} الآية كانت لأجل وجود إنزالها ولا يضر في ذلك كون الإنزال تأخر عن وقت السؤال وأما قوله أن هذا القول إنما كان بعد انكشاف الوحي فمسلم إذ هو لا يتكلم بالمنزل عليه في نفس وقت الإنزال، وإنما يتكلم به بعد انقضاء زمن الوحي واتحاد زمني الفعلين الواقعين في جملتي لما غير شرط كما إذا قلت لما جاءني زيد أكرمته فلا يشترط في صحة هذا الكلام أن يكون الإكرام والمجيء واقعين في زمن واحد لا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يتأخر بل هذا التركيب صحيح إذا كان الإكرام متعقبًا للمجيء.

فإن قلت: لعله بناه على رأي الفارسي ومن تبعه في أن لما ظرف بمعنى حين فيلزم أن يكون الفعل الثاني واقعًا في حين الفعل الأول؟ قلت: ليس مراد الفارسي ولا غيره من كونها بمعنى حين ما فهمته من اتحاد الزمنين باعتبار الابتداء والانتهاء إلا أنه يصح أن تقول جئت حين جاء زيد وإن كان ابتداء مجيئك في آخر مجيء زيد ومنتهاه بعد ذلك والمشاحة في مثل هذا والمضايقة فيه مما لم تبن لغة العرب عليه اهـ.

( { قل الروح من أمر ربي} ) أي مما استأثر الله بعلمه فهو من أمر رب لا من أمري فلا أقول لكم ما هي والأمر بمعنى الشأن أي معرفة الروح من شأن الله لا من شأن غيره ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهيتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويؤيده قوله تعالى: ( { وما أوتيتم من العلم إلا} ) علمًا أو إيتاءً ( { قليلًا} ) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وما أوتوا بضمير الغائب وهي قراءة شاذة مروية عن الأعمش مخالفة للمصحف ليست من طرق كتابي الذي جمعته في القراءات الأربعة عشر وإنما رأيتها في كتب التفسير قيل: وليس في الآية دلالة على أن الله تعالى لم يطلع نبيه على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا فالله أعلم.

وقد قرر السهيلي فيما ذكره ابن كثير أن الروح هي ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر وإن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء كما أن الماء حياة الشجر ثم يكتسب بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا فماذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار ماء مصطارًا وخمرًا ولا يقال له ماء حينئذٍ إلا على سبيل المجاز وهكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو وكذلك لا يقال للروح نفس إلا على هذا النحو باعتبار ما تؤول إليه فحاصل ما نقول إن الروح هي أصل النفس ومادّتها والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن انتهى.
ثم إن ظاهر سياق هذا الحديث يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن نزولها إنما كان حين سأل اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية وقد يجاب باحتمال أن تكون نزلت مرة ثانية بالمدينة كما نزلت بمكة قبل.

وهذا الحديث سبق في كتاب العلم وأخرجه أيضًا في التوحيد والاعتصام ومسلم في التوبة والترمذي والنسائي في التفسير.