فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} [النور: 8]

باب قَوْلِهِ: { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]
هذا ( باب) بالتنوين في قوله تعالى: ( { ويدرأ عنها} ) أي عن المقذوفة ( { العذاب} ) أي الحد ( { أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} ) [النور: 8] فيما رماني به وسقط لفظ باب لغير أبي ذر.


[ قــ :4491 ... غــ : 4747 ]
- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ هِلاَلٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا.
فَجَاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ.
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ»؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ.
فَمَضَتْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهْوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ» فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ».

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا ( محمد بن بشار) بفتح الموحدة والشين المعجمة المشددة بندار العبدي البصري قال: ( حدّثنا ابن أبي عدي) محمد واسم أبي عدي إبراهيم البصري ( عن هشام بن حسان) منصرف وغير منصرف الأزدي القردوسي بضم القاف وسكون الراء وضم الدال البصري أنه قال: ( حدّثنا عكرمة) بن عبد الله البربري مولى ابن عباس ( عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- ( أن هلال بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية الواقفي بكسر القاف والفاء الأنصاري أحد الثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك وتيب عليهم ( قذف امرأته) خولة بنت عاصم كما رواه ابن منده وكانت حاملًا ( عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشريك ابن سحماء) بفتح السين وسكون الحاء المهملتين ممدودًا اسم أمه.
وفي تفسير مقاتل أنها كانت حبشية وقيل يمانية واسم أبيه عبدة بن معتب أو مغيث ولا يمتنع أن يتهم شريك ابن سحماء بهذه المرأة وامرأة عويمر معًا، وأما قول ابن الصباغ في الشامل أن المزني ذكر في المختصر أن العجلاني قذف زوجته بشريك ابن سحماء وهو سهو في النقل، وإنما القاذف لشريك هلال بن أمية فلعله لم يعرف مستند المزني في ذلك، وقد سبق في الباب الذي قبله مستند ذلك فليلتفت إليه والجمع ممكن فيتعين المصير إليه وهو أولى من التغليظ على ما لا يخفى.

( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: البيّنة) بالنصب بتقدير أحضر البينة ( أو حدّ) بالرفع أي أتحضر البينة أو يقع حد ( في ظهرك) أي على ظهرك كقوله لأصلبنكم في جذوع النخل ( فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق) حال كونه ( يلتمس البينة) أي يطلبها ( فجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: البينة وإلا حدّ في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله) بفتح اللام وضم التحتية وسكون النون ( ما يبرئ ظهري من الحدّ) في موضع نصب بقوله فلينزلن الله ( فنزل جبريل) عليه السلام ( وأنزل عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( { والذين يرمون أزواجهم} ) فقرأ حتى بلغ ( { إن كان من الصادقين} ) أي فيما رماها الزوج به ( فانصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأرسل إليها) أي إلى خولة بنت عاصم زوج هلال فحضرت بين يديه ( فجاء هلال فشهد) أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به.
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في الرمي ( والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب) .

قال القاضي عياض، وتبعه النووي في قوله أحدكما رد على من قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي وعلى من قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف وأنه لا يوضع في موضع واحد ولا يقع موقعه وقد أجازه المبرد وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي بمعنى واحد اهـ.

وتعقب الفاكهاني ذلك فقال: هذا من أعجب ما وقع للقاضي عياض مع براعته وحذقه فإن الذي قاله النحاة إنما هو في أحد التي للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد وأما أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو قل هو الله أحد ونحوه فشهادة أحدهم ونحو أحدكما كاذب.

( فهل منكما تائب) ؟ عرض لهما بالتوبة بلفظ الاستفهام لإبهام الكاذب منهما فلذلك لم يقل لهما توبا ولا لأحدهما بعينه تب ولا قال ليتب الكاذب منكما وزاد جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي فقال هلال: الله إني لصادق ( ثم قامت) أي زوجته ( فشهدت) أي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ( فلما كانت عند) المرّة ( الخامسة وقفوها) بتشديد القاف ولأبي ذر وقفوها بتخفيفها ( وقالوا: إنها موجبة) للعذاب الأليم إن كنت كاذبة.

( قال ابن عباس) بالسند السابق: ( فتلكأت) بهمزة مفتوحة بعد الكاف المشددة بوزن تفعلت أي تباطأت عن ذلك ( ونكصت) أي أحجمت ( حتى ظننا أنها ترجع) عن مقالتها في تكذيب الزوج ودعوى البراءة عما رماها به ( ثم قالت: لا أفضح) بفتح الهمزة والمعجمة ( قومي سائر اليوم) أي جميع الأيام أيام الدهر أو فيما بقي من الأيام بالأعراض عن اللعان والرجوع إلى تصديق الزوج وأريد باليوم الجنس ولذلك أجراه مجرى العام ( فمضت) أي في تمام اللعان ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أبصروها) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وكسر المهملة ( فإن جاءت به) أي الولد ( أكحل العينين) أي شديد سواد جفونهما خلقة من غير اكتحال ( سابغ الأليتين) أي غليظهما ( خدلج الساقين) بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة وبعد اللام المشددة جيم عظيمهما ( فهو لشريك ابن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لولا ما مضى من كتاب الله) في آية اللعان ( لكان لي ولها شأن) في إقامة الحدّ عليها وفي ذكر الشأن وتنكيره تهويل عظيم لما كان يفعل بها أي لفعلت بها لتضاعف ذنبها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين.

قال الكرماني، فإن قلت: الحديث الأول يدل على أن عويمرًا هو الملاعن والآية نزلت فيه والولد شابهه والثاني أن هلالًا هو الملاعن والآية نزلت فيه والولد شابهه.
وأجاب بأن النووي قال: اختلفوا في نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر أم بسبب هلال؟ والأكثرون أنها نزلت في هلال، وأما قوله عليه الصلاة والسلام لعويمر: إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك، فقالوا معناه الإشارة إلى ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعًا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما وسبق هلال باللعان.
اهـ.

قال في الفتح: ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن عبادة كما أخرجه أبو داود والطبري والقائل في قصة عويمر عاصم بن عدي كما في حديث سهل السابق ولا مانع أن تتعدّد القصص ويتحد النزول وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين وأنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن والصحيح ثبوت ذلك وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين بمجرد دعوى لا دليل عليها.
وقول النووي في تهذيبه اختلفوا في الذي وجد مع امرأته رجلًا وتلاعنا على ثلاثة أقوال: هلال بن أمية، أو عاصم بن عدي، أو عويمر العجلاني؟ قال الواحدي: أظهر هذه الأقوال أنه عويمر لكثرة الأحاديث، واتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك ابن سحماء تعقبوه بأن قصتي ملاعنة
عويمر وهلال ثبتتا فكيف يختلف فيهما، وإنما المختلف فيه سبب نزول الآية في أيهما، وقد سبق تقريره وبأن عاصمًا لم يلاعن قط وإنما سأل لعويمر العجلاني عن ذلك وبأن قوله: واتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك ممنوع إذ لم يوجد زانيًا وإنما هم اعتقدوا ذلك ولم يثبت ذلك في حقه في ظاهر الحكم فصواب العبارة أن يقال واتفقوا على أن المرمي به شريك ابن سحماء.

وهذا الحديث قد مرّ في باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البيّنة من كتاب الشهادات.