فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات، بأنفسهم خيرا} [النور: 12] إلى قوله: {الكاذبون} [النحل: 105]

باب: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} -إِلَى قَوْلِهِ- {الْكَاذِبُونَ} [النور: 12، 13]
هذا ( باب) بالتنوين في قوله عز وجل: ( {لولا}) تحضيضية أي هلا ( {إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} -إلى قوله- {الكاذبون}) [النور: 12، 13] بأنفسهم أي الذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11] .

فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله وقالوا هذا إفك ولم يقل وقلتم وعن المضمر إلى المظهر والخطاب إلى الغيبة والمفرد إلى الجمع في قوله ( ظن المؤمنون والمؤمنات) ولم يقل ظننتم بها أي بعائشة على الأصل لأن المخاطب من بحضرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وخلاصة الجواب كما قال في مفاتيح الغيب أن في العدول من الخطاب إلى الغيبة توبيخ المخاطبين بطريق الالتفات ومعاتبة شديدة وإبعادًا من مقام الزلفى أي كيف سمعوا ما لا ينبغي الإصغاء إليه، فضلًا عن أن يتفوّهوا به، وفي العدول من المضمر إلى المظهر الدلالة على أن صفة الإيمان جامعة لهم فينبغي لمن اشترك فيها أن لا يسمع فيمن شاركه فيها قول عائب ولا طعن طاعن لأن عيب أخيه عيبه والطعن في أخيه طعن فيه.

وسياق هذه الآية هنا ثابت لأبي ذر فقط وفي رواية غيره ولولا وهلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أي ما ينبغي وما يصح لنا أن نتكلم بهذا القول المخصوص أو بنوعه فإن قذف آحاد الناس محرم شرعًا لا سيما الصدّيقة ابنة الصدّيق حرمة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبحانك معناه التعجب {هذا بهتان عظيم} [النور: 16] أي كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته لولا هلا جاؤوا عليه أي على ما زعموا بأربعة شهداء يشهدون على معاينتهم ما رموها به فإذا لم يأتوا بالشهداء يشهدون على ما قالوا فأولئك عند الله أي في حكمه هم الكاذبون فيما قالوه، وهذا ساقط لأبي ذر.


[ قــ :4494 ... غــ : 4750 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ.
فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ
آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ.
وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ.
فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِى كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهْوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ» ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهْوَ مُتَبَرَّزُنَا وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا.
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهْيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْنِى سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ»؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِي أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَتْ فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَكَ، وَمَا نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا.
.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ»؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا.
وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي».
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ.
قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهْوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهْوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ.
فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَمَكُثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.
قَالَتْ: فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي: قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا قَالَ: قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ.

قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ
لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي.
قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يبرئني بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا.
قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ وَهْوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُرِّيَ عَنْهُ وَهْوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ».
فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ: فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ} [النور: 11] الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي.
فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ : وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ»؟ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ وَهْيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْكِ.

وبه قال: ( حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرًا المخزومي مولاهم المصري قال: ( حدّثنا الليث) هو ابن سعد الإمام ( عن يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( عروة بن الزبير) بن العوام ( وسعيد بن المسيب) بفتح التحتية المشدّدة ( وعلقمة بن وقاص) الليثي ( وعبيد الله) بضم العين ( ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لها أهل الإفك) بكسر الهمزة وسكون الفاء الكذب التشديد والافتراء المزيد ( ما قالوا فبرأها الله مما قالوا) بما أنزله في كتابه.

قال الزهري: ( وكل) من الأربعة ( حدّثني) بالإفراد ( طائفة من الحديث) أي بعضه فجميعه عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم ( وبعض حديثهم يصدق بعضًا) قال في الفتح:
كأنه مقلوب والمقام يقتضي أن يقول وحديث بعضهم يصدق بعضًا، ويحتمل أن يكون على ظاهره أي أن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي في بقية حديثه لحسن سياقه وجودة حفظه ( وإن كان بعضهم أوعى) أي أحفظ ( له) أي للحديث المذكور خاصة ( من بعض الذي حدّثني عروة) بن الزبير ( عن عائشة) -رضي الله عنها- أي عن حديث عائشة في قصة أهل الإفك ( أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-إذا أراد أن يخرج) زاد معمر عند ابن ماجه سفرًا أي سفر ( أقرع بين أزواجه) تطييبًا لقلوبهنّ ( فأيتهنّ) بتاء التأنيث ( خرج سهمها خرج بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معه) في السفر ( قالت عائشة فأقرع بيننا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( في غزوة غزاها) هي غزوة بني المصطلق ( فخرج سهمي) وعند ابن إسحاق فخرج سهمي عليهنّ وهو يشعر بأنه لم يخرج معه حينئذٍ غيرها ( فخرجت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ما نزل الحجاب) أي الأمر به ( فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه) بضم همزة أحمل وأنزل مع التخفيف مبنيًا للمفعول فيهما ( فسرنا) إلى بني المصطلق ( حتى إذا فرغ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غزوته تلك) وغنم أموالهم وأنفسهم ( وقفل) أي رجع ( ودنونا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي دنونا بغير واو أي قربنا ( من المدينة) حال كوننا ( قافلين) أي راجعين ( آذن) بالمدّ والتخفيف أعلم ( ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت) لقضاء حاجتي منفردة ( حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني) الذي توجهت له ( أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي) بكسر العين ( من جزع ظفار) بفتح الجيم وسكون الزاي المعجمة مضافًا لظفار وهو بالظاء المعجمة والفاء وبعد الألف راء مكسورة مبنيًّا كحضار مدينة باليمن وفي رواية أبي ذر أظفار بالهمزة المفتوحة وتنوين الراء ( قد انقطع) زاد في رواية فرجعت إلى المكان الذي ذهبت إليه ( فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه) أي طلبه ( وأقبل) ولأبي ذر فأقبل بالفاء بدل الواو ( الرهط الذين كانوا يرحلون لي) بفتح التحتية وسكون الراء وفتح الحاء المهملة مع التخفيف أي يشدون الرحل على بعيري سمى الواقدي منهم أبا مويهبة مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فاحتملوا هودجي فرحلوه) بالتخفيف ( على بعيري الذي كنت ركبت) أي عليه ( وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم) بضم التحتية وكسر القاف ( إنما تأكل) المرأة منهن ( العلقة) بضم العين وسكون اللام وبالقاف القليل ( من الطعام) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي يأكلهن أي النساء وفي نسخة نأكل بنون أوّله ولام آخره فقط وعزاها في الفتح للكشميهني ( فلم يستنكر القوم) بالرفع ( خفة الهودج) وفي رواية فليح في الشهادات: ثقل الهودج والأوّل أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه فكأنها تقول كانت لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها.
( حين رفعوه) وفي الفرع حتى ولعلها سبق قلم فإن الذي في اليونينية حين وهو ظاهر.

( وكنت جارية حديثة السن) لأنها إذ ذاك لم تبلغ خمس عشرة سنة أي أنها مع نحافتها صغيرة السن ففيه إشارة إلى المبالغة في خفتها أو إلى بيان عذرها فيما وقع منها من الحرص على العقد الذي انقطع واشتغلت بالتماسه من غير أن تعلم أهلها بذلك وذلك لصغر سنها وعدم تجاربها
( فبعثوا الجمل) أي أثاروه ( وساروا) أي وهم يظنون أنها عليه ( فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش) استفعل من مر ( فجئت منازلهم) بالجمع التي كانوا نازلين بها ( وليس بها داع ولا مجيب) وفي رواية فليح فجئت منزلهم وليس فيه أحد ( فأممت) بتشديد الميم الأولى في الفرع وفي اليونينية كشط موضع الشدة.
قال الحافظ ابن حجر: وهي رواية أبي ذر هنا وفي نسخة فأممت بتخفيفها أي قصدت ( منزلي الذي كنت به) قبل ( وظننت أنهم سيفقدوني) بكسر القاف ونون واحدة والظن هنا بمعنى العلم لأن فقدهم إياها محقق قطعًا وهو معلوم عندها وفي نسخة سيفقدوني بفتح القاف ولأبي ذر سيفقدونني بنونين لعدم الناصب والجازم والأولى لغة ( فيرجعون إليّ فبينا) بغير ميم ( أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت) بسبب شدة الغم إذ من شأن الغم وهو وقوع ما يكره غلبة النوم بخلاف الهم وهو توقع ما يكره فإنه يقتضي السهر.

( وكان صفوان بن المعطل) بتشديد الطاء المفتوحة ( السلمي) بضم السين وفتح اللام ( ثم الدكواني) بفتح الذال المعجمة الصحابي الفاضل ( من وراء الجيش) وفي رواية معمر قد عرس من وراء الجيش ( فأدلج) بسكون الدال المهملة أي سار من أوّل الليل وبتشديدها من آخره وحينئذٍ فالذي هنا ينبغي أن يكون بالتشديد لأنه كان في آخر الليل لكن التخفيف هو الذي رويناه ( فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم) لا يدري أهو رجل أو امرأة ( فأتاني فعرفني حين رآني) لعلها انكشف وجهها لما نامت ( وكان يراني) ولأبي ذر وكان رآني ( قبل) نزول ( الحجاب فاستيقظت باسترجاعه) بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون ( حين عرفني فخمرت) بالخاء المعجمة والميم المشدّدة أي غطيت ( وجهي بجلبابي) تعني الثوب الذي كان عليها وهو بكسر الجيم ( والله) ولأبي ذر ووالله ( ما كلمني كلمة) ولأبي ذر ما يكلمني بصيغة المضارع إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة وهو أحسن من الأولى إذ الماضي يخص النفي بحال الاستيقاظ ( ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته) فيه نفي لكلامه لها بغير الاسترجاع إلى أن أناخ ولا يمنع ما بعد الإناخة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي حين فالنفي مقيد بحال إناخة الراحلة فلا يمنع ما قبل الإناخة ولا ما بعدها وفي رواية ابن إسحاق أنه قال لها ما خلفك وأنه قال لها اركبي واستأخر.
وفي حديث ابن عمر عند الطبراني وابن مردويه: فلما رآني ظن أني رجل فقال يا نومان قم فقد سار الناس، وفي مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم فاسترجع ونزل عن بعيره وقال ما شأنك يا أم المؤمنين فحدثته بأمر القلادة.

( فوطئ على يديها) بالتثنية أي يدي الناقة ليكون أسهل لركوبها ولأبي ذر على يدها ( فركبتها فانطلق) حال كونه ( يقود بي الراحلة) وفي مرسل مقاتل بن حيان بالمهملة والتحتية عند الحاكم في الإكليل أنه ركب معها مردفًا لها وما في الصحيح هو الصحيح ( حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا) حال كونهم ( موغرين) بضم الميم وكسر الغين المعجمة والراء المهملة أي نازلين في وقت الوغرة بفتح الواو وسكون الغين المعجمة شدة الحر وقت كون الشمس في كبد السماء ( في نحر الظهيرة) بالحاء المهملة والظهيرة بفتح المعجمة وكسر الهاء حيث تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع كأنها
وصلت إلى النحر وهو أعلى المصدر وهو تأكيد لقوله موغرين ( فهلك) أي بسبب الإفك ( من هلك) أي في شأني وفي رواية أبي أويس عند الطبراني فهنالك قال فيّ وفيه أهل الإفك ما قالوا ( وكان الذين تولى الإفك) رأس المنافقين ( عبد الله بن أبي) بالتنوين ( ابن سلول) بنصب ابن صفة لعبد الله وسلول بفتح السين غير منصرف للعلمية والتأنيث ( فقدمنا المدينة فاشتكيت) أي مرضت ( حين قدمت شهرًا والناس يفيضون) بضم أوّله ( في قول أصحاب الإفك) أي يشيعونه ( لا أشعر بشيء من ذلك) وفي رواية ابن إسحاق: وقد انتهى الحديث إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى أبويّ ولا يذكرون لي شيئًا من ذلك ( وهو يريبني) بفتح أوّله من الثلاثي وبضمه من الرباعي يقال رابه وأرابه أي يشككني ويوهمني ( في وجعي أني لا أعرف من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللطف) بفتح اللام والطاء المهملة والفاء ولأبي ذر اللطف بضم اللام وسكون الطاء أي الرفق ( الذي كنت أرى منه حين أشتكي) أمرض ( إنما يدخل علي) بتشديد الياء ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيسلم ثم يقول) :
( كيف تيكم) بكسر الفوقية وهو للمؤنث مثل ذاكم للمذكر ولابن إسحاق فكان إذا دخل قال لأمي وهي تمرضني كيف تيكم وفهمت أم المؤمنين من ذلك بعض الجفاء منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنها لم تكن تدري السبب ( ثم ينصرف فذاك الذي يريبني) بفتح أوّله وكسر ثانيه ( ولا أشعر بالشر) الذي تقوله أهل الإفك وسقط لفظ الشر لغير أبي ذر ( حتى خرجت بعد ما نقهت) بفتح النون والقاف ويجوز كسرها أي أفقت من مرضي ولم تكمل لي الصحة ( فخرجت معي أم مسطح) بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء بعدها حاء مهملات واسمها سلمى ( قبل المناصع) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة المناصع بفتح الميم والنون وبعد الألف صاد وعين مهملتان موضع خارج المدينة ( وهو متبرزنا) بفتح الراء المشددة أي موضع قضاء حاجتنا ( وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف) بضم الكاف والنون مواضع قضاء الحاجة ( قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل) بضم الهمزة وتخفيف الواو نعت للعرب ( في التبرز قبل الغائط) وفي رواية فليح في البرية أي خارج المدينة بعيدًا عن المنازل ( فكنا نتأذى بالكنف) برائحتها ( أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح) بكسر الميم ( وهي ابنة أبي رهم) أنيس ( بن عبد مناف) بضم الراء وسكون الهاء وفي رواية صالح عند المؤلّف في المغازي وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف قال الحافظ ابن حجر وهو الصواب ( وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق) واسمها رائطة فيما ذكره أبو نعيم ( وابنها مسطح بن أثاثة) بضم الهمزة ومثلثتين بينهما ألف من غير تشديد ابن عباد بن المطلب ( فأقبلت أنا وأم مسطح قبل) أي جهة ( بيتي قد) ولأبي ذر وقد ( فرغنا من شأننا فعثرت) بالفاء والعين والراء المفتوحات ( أم مسطح في مرطها) بكسر الميم كسائها وهو من صوف أو خز أو كتان أو إزار ( فقالت: تعس مسطح) بفتح العين قيده الجوهري وكلام ابن الأثير يقتضي أن الأعرف كسرها أي أكبه الله لوجهه أو هلك قالت عائشة ( فقلت لها: بئسما قلت أتسبين رجلًا شهد بدرًا قالت: أي هنتاه) بفتح الهاء الأولى وسكون الأخيرة أي يا هذه ( أو لم تسمعي ما قال؟ قالت) أي عائشة: ( قلت: وما قال؟ قالت) أي عائشة: ( فأخبرتني) أم مسطح ( بقول أهل الإفك
فازددت مرضًا على مرضي قالت: فلما رجعت إلى بيتي)
وسقط لغير أبي ذر لفظ قالت من قوله قالت فأخبرتني ومن قوله قالت فلما رجعت إلى بيتي أي واستقريت فيه ( ودخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعني) أي عائشة ( سلم) وسقط تعني سلم لأبي ذر ( ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت) له عليه الصلاة والسلام: ( أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما) من جهتهما ( قالت: فأذن لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجئت أبوي فقلت لأمي) أم رومان ( يا أمتاه) بسكون الهاء ( ما يتحدث الناس) أي به ويتحدث بفتح أوّله ( قالت: يا بنية هوّني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة) بالنصب على الحال ولأبي ذر وضيئة بالرفع صفة امرأة واللام في لقل للتأكيد أي حسنة جميلة ( عند رجل يحبها ولها ضرائر) وسقطت الواو لأبي ذر ( إلا كثّرن) بتشديد المثلثة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إلا أكثرن نساء الزمان ( عليها) القول في نقصها فالاستثناء منقطع أو إشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب، فإن الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة أختها فالاستثناء متصل ولم تقصد أم رومان بقولها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قصة عائشة بنفسها وإنما ذكرت شأن الضرائر عائشة وإن لم يصدر منهن شيء فلم يعدم ذلك ممن هو من أتباعهن كحمنة.

( قالت) عائشة: ( فقلت سبحان الله) تعجبت من وقوع مثل ذلك في حقها مع تحققها براءتها ( ولقد) ولأبي ذر أو لقد ( تحدث الناس بهذا قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ) بالقاف والهمزة أي لا ينقطع ( لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي) لأن الهموم موجبة للسهر وسيلان الدموع ( فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حين استلبث الوحي) بالرفع أي طال لبثه أو بالنصب أي استبطأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الوحي ( يستأمرهما) أي يستشيرهما ( في فراق أهله) تعني نفسها ( قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالذي يعلم من براءة أهله) مما يذكر ( وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله) أمسك ( أهلك) بالنصب ولأبي ذر أهلك بالرفع أي هم أهلك ( وما) ولأبي ذر ولا ( نعلم إلا خيرًا.

وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير)
بلفظ التذكير على إرادة الجنس وفعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث أفرادًا وجميعًا، وقال ذلك لما رأى منه عليه الصلاة والسلام من شدة القلق فرأى أن بفراقها يسكن ما عنده بسببها فإذا تحقق براءتها فيراجعها ( وإن تسأل الجارية) بريرة ( تصدقك) الخبر بالجزم على الجزاء.

( قالت) عائشة ( فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريرة) واستشكل قوله الجارية بريرة بأن قصة الإفك قبل شراء بريرة وعتقها لأنه كان بعد فتح مكة وهو قبله لأن حديث الإفك كان في سنة ست أو أربع وعتق بريرة كان بعد فتح مكة في السنة التاسعة أو العاشرة لأن بريرة لما خيرت واختارت نفسها كان زوجها مغيث يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة" والعباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من الطائف في أواخر سنة ثمان وفي ذلك ردّ على ابن القيم حيث قال تسميتها بريرة وهم من بعض الرواة فإن
عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح، ولما كاتبتها عقيب شرائها وعتقت خيرت فاختارت نفسها فظن الراوي أن قول علي وإن تسأل الجارية تصدقك أنها بريرة فغلط قال: وهذا نوع خاص غامض لا يتنبه له إلا الحذاق.
اهـ.

وتبعه الزركشي فقال إن تسمية الجارية بريرة مدرجة من بعض الرواة وإنها جارية أخرى، وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي بأجوبة أحسنها احتمال أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ.

( فقال) عليه الصلاة والسلام: ( أي بريرة هل رأيت) عليها ( من شيء يريبك؟) بفتح أوله من جنس ما قال أهل الإفك ( قالت بريرة) مجيبة له على العموم نافية عنها كل نقص ( لا والذي بعثك بالحق إن رأيت) بكسر الهمزة أي ما رأيت ( عليها أمرًا أغمصه) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الميم وصاد مهملة صفة لأمر أي أعيبه ( عليها) في جميع أحوالها ( أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها) لصغر سنها ورطوبة بدنها ( فتأتي الداجن) بدال مهملة وبعد الألف جيم مكسورة فنون الشاة التي تقتنى في البيت وتعلف وقد يطلق على غيرها مما يألف البيوت من الطير وغيره ( فتأكله) قال ابن المنير في الحاشية: هذا من الاستثناء البديع الذي يراد به المبالغة في نفي العيب كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رميت به وأقرب إلى أن تكون به من المحصنات الغافلات المؤمنات، وتعقبه البدر الدماميني فقال ليس في الحديث صورة استثناء بسوى ولا غيرها من أدواته وإنما فيه إن رأيت عليها أمرًا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية الخ لكن معنى هذا قريب من معنى الاستثناء.
اهـ.

نعم قولها في رواية هشام بن عروة فيما يأتي إن شاء الله تعالى قريبًا فى هذه السورة ما علمت منها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر استثناء صريح في نفي العيب عنها وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة عند الطبراني فقالت الجارية الحبشية والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله قال فعجب الناس من فقهها.

( فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستعذر) بالذال المعجمة ( يومئذٍ من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت) عائشة ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على المنبر: يا معشر المسلمين) بسكون العين ( من يعذرني) بفتح أوله وكسر المعجمة أي من يقيم عذري إن كافأته على قبح فعله أو من ينصرني ( من رجل) يريد ابن أبيّ ( قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على) ولأبي ذر في ( أهلي إلا خيرًا ولقد ذكروا رجلًا) صفوان بن المعطل ( ما علمت عليه إلا خيرًا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري) .

واستشكل ذكر سعد بن معاذ هنا بأن حديث الإفك كان سنة ست في غزوة المريسيع وسعد مات من الرمية التي رميها بالخندق سنة أربع.
وأجيب: بأنه اختلف في المريسيع، ففي البخاري عن موسى بن عقبة أنها سنة أربع وكذلك الخندق، وقد جزم ابن إسحاق بأن المريسيع كانت في شعبان والخندق في شوّال وإن كانا في سنة فلا يمتنع أن يشهدها ابن معاذ، لكن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع سنة خمس، فالذي في البخاري حملوه على أنه سبق قلم والراجح أيضًا أن الخندق أيضًا سنة خمس فيصح الجواب.

( فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه) بفتح الهمزة وكسر المعجمة ( إن كان من الأوس) قبيلتنا ( ضربت عنقه) لأن حكمه فيهم نافذ إذ كان سيدهم ولأن من آذاه عليه الصلاة والسلام وجب قتله ( وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت) عائشة: ( فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج) بعد فراغ ابن معاذ من مقالته ( وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا) كامل الصلاح لم يسبق منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية ( ولكن احتملته) من مقالة ابن معاذ ( الحمية) أي أغضبته وفي رواية معمر عند مسلم اجتهلته بجيم ففوقية فهاء وصوّبها التوربشتي أي حملته على الجهل ( فقال لسعد) هو ابن معاذ: ( كذبت لعمر الله) بفتح العين أي وبقاء الله ( لا تقتله ولا تقدر على قتله) لأنا نمنعك منه ولم يرد ابن عبادة الرضا بقول ابن أبي لكن كان بين الحيين مشاحنة زالت بالإسلام وبقي بعضها بحكم الأنفة فتكلم ابن عبادة بحكم الأنفة ونفى أن يحكم فيه ابن معاذ ( فقام أسيد بن حضير) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وحضير بضم المهملة وفتح المعجمة مصغرين ولأبي ذر ابن الحضير ( وهو ابن عم سعد) ولأبي ذر زيادة ابن معاذ أي من رهطه ( فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه) بالنون ولو كان من الخزرج إذا أمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فإنك منافق تجادل عن المنافقين) تفسير لقوله فإنك منافق فليس المراد نفاق الكفر ( فتثاور) بفوقية فمثلثة ( الحيان الأوس والخزرج) أي نهض بعضهم إلى بعض من الغضب ( حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم على المنبر فلم يزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخفضهم حتى سكتوا) بالفوقية والواو ولأبي ذر سكت بحذف الواو أي سكت القوم ( وسكت) عليه الصلاة والسلام.

( قالت) عائشة ( فمكثت) بالميم وضم الكاف من المكث ولأبي ذر عن الكشميهني فبكيت من البكاء ( يومي ذلك لا يرقأ) بالهمزة أي لا ينقطع ( لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت فأصبح أبواي) أبو بكر وأم رومان ( عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا) الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح بالخبر واليوم الذي خطب فيه عليه الصلاة والسلام الناس والليلة التي تليه ( لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظنان) أبي وأمي ( أن البكاء فالق كبدي قالت) عائشة: ( فبينما) بالميم ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فبينا ( هما جالسان) ولأبي ذر جالسين ( عندي وأنا أبكي) جملة حالية ( فاستأذنت علي امرأة من الأنصار) لم تسم ( فأذنت لها فجلست تبكي معي) تحزّنًا عليّ.

( قالت) عائشة ( فبينا) بغير ميم ( نحن على ذلك) وللكشميهني نحن كذلك ( دخل علينا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسلم ثم جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني)
أي بشيء ( قالت: فتشهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين جلس ثم قال) :
( أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا) كناية عما رماها به أهل الإفك ( فإن كنت بريئة) من ذلك ( فسيبرئك الله) بوحي ينزله ( وإن كنت ألممت بذنب) أي وقع منك مخالفًا لعادتك ( فاستغفري الله وتوبي إليه) منه ( فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله) منه ( تاب الله عليه) وسقط لفظ الجلالة لأبي ذر ( قالت: فلما قضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقالته قلص) بالقاف واللام والصاد المهملة المفتوحات انقطع ( دمعي حتى ما أحس) أجد ( منه قطرة) لأن الحزن والغضب إذا أخذ أحدهما فقد الدمع لفرط حرارة المصيبة ( فقلت لأبي أجب) عني ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما قال قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي أويس فقال لا أفعل هو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والوحي يأتيه ( فقلت لأمي: أجيبي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت)
عائشة: ( فقلت) ولأبي ذر قلت ( وأنا جارية حديثة السن لا يقرأ كثيرًا من القرآن) هذا توطئة لعذرها في عدم استحضارها اسم يعقوب عليه السلام ( إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به) قيل مرادها من صدق به من أصحاب الإفك وضمت إليهم من لم يكذبهم تغليبًا ( فلئن) بفتح اللام وكسر الهمزة ( قلت لكم إني بريئة والله يعلم أي بريئة لا تصدقوني) ولأبي ذر لا تصدقونني ( بذلك) أي لا تقطعون بصدقي ( ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني) بضم القاف وتشديد النون والأصل تصدقونني فأدغمت النون في الأخرى ( والله ما أجد لكم) وفي رواية فليح في الشهادات لي ولكم ( مثلًا إلا قول أبي يوسف) وفي رواية أبي أويس نسيت اسم يعقوب لما بي من البكاء واحتراق الجوف إذ ( قال {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي قالت وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي) يبرئني فعل مضارع في الفرع وغيره، والذي في اليونينية مصحح عليه مبرئي بميم مضمومة فموحدة مفتوحة فراء مشددة فهمزة مكسورتين فتحتية، وكذا هو في الفتح وعند السفاقسي مبرئني بنون بعد الهمزة المضمومة واستشكله بأن نون الوقاية إنما تدخل في الأفعال لتسلم من الكسر والأسماء تكسر فلا يحتاج إليها قال الحافظ ابن حجر: والذي وقفنا عليه مبرئي بغير نون وعلى تقدير وجود ما ذكر السفاقسي فقد سمع ذلك في بعض اللغات في اسم الفعل اهـ.
نحو دراكني وتراكني وعليكني بمعنى أدركني واتركني والزمني وفي الحرف نحو انني.

( ولكن) بتخفيف النون ( والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن) بتخفيف النون ولأبي ذر عن الكشميهني ولكنني وله عن الحموي والمستملي ولكني بالإدغام ( كنت أرجو أن يرى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما رام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ما فارق مجلسه ( ولا خرج أحد من أهل البيت) الذين كانوا حاضرين حينئذٍ ( حتى أنزل عليه) الوحي ( فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء)
من العرق من شدة الوحي ( حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق) بكسر الميم وسكون المثلثة مرفوعًا والجمان بضم الجيم وتخفيف الميم الدر قال:
كجمانة البحري جاء بها ... غوّاصها من لجة البحر
وقال الداودي: هو شيء كاللؤلؤ يصنع من الفضة والأول هو المعروف: ( وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه) بضم الياء وسكون النون وفتح الزاي وثقل بكسر المثلثة وفتح القاف.

( قالت: فلما سري) بضم المهملة وكسر الراء مشدّدة كشف ( عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سري عنه وهو يضحك) سرورًا والجملة حالية ( فكانت) ولأبي ذر عن الكشميهني فكان ( أول) لم يضبط اللام من أوّل في الفرع ولا في أصله ( كلمة تكلم بها يا عائشة أما الله عز وجل) بتشديد ميم أما ( فقد برأك) بالقرآن مما قاله أهل الإفك فيك ( فقالت) ولأبي ذر قالت ( أمي) أم رومان ( قومي إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجل ما بشرك به ( قالت) عائشة ( فقلت والله) ولأبي ذر لا والله ( لا أقوم إليه) وإلى الله صلاته وسلامه عليه ( ولا أحمد إلا الله عز وجل) الذي أنزل براءتي ( وأنزل الله) بالواو ولأبي ذر فأنزل الله ( عز وجل {وإن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه} العشر الآيات كلها) قال ابن حجر آخر العشر والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
اهـ.

وأقول بل هي تسعة ولعله عد قوله: {لهم عذاب أليم} رأس آية وليس كذلك بل تشبه فاصلة وليس بفاصلة كما نص عليه غير واحد من العادّين وحينئذٍ فآخر العشر {رؤوف رحيم} وفي رواية عطاء الخراساني عن الزهري فأنزل الله {إن الذين جاؤوا بالإفك} -إلى قوله- {أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} وقول ابن حجر أن عدد الآي إلى هذا الموضع ثلاث عشرة آية فلعل في قولها العشر الآيات مجازًا بطريق إلغاء الكسر بناه على عد أليم كما مر فالصواب أنها اثنتا عشر.
اهـ.

فتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها نفسها حيث قالت ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي الخ فهذه صدّيقة الأمة تعلم أنها بريئة مظلومة وأن قاذفيها ظالمون لها مفترون عليها وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لنفسها فما ظنك بمن صام يومًا أو يومين أو شهرًا أو شهرين أو قام ليلة أو ليلتين فظهر عليه شيء من الأحوال فلوحظ باستحقاق الكرامات والمكاشفات وإجابة الدعوات وأنه ممن يترك بلقائه ويغتنم صالح دعائه ويتمسح بأثوابه ويقبل ثرى أعتابه فعجب من جهله بنفسه وغفل عن جرمه واغتر بإمهال الله عليه، فينبغي للعبد أن يستعيذ الله أن يكون عند نفسه عظيمًا وهو عند الله حقير وسقط لا تحسبوه لأبي ذر.

( فلما أنزل الله) تعالى ( هذا في براءتي) وأقيم الحد على من أقيم عليه ( قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه) كان ابن خالته ( وفقره) أي لأجلهما
والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال: فأنزل الله ( {ولا يأتل}) لا يحلف ( {أولو الفضل منكم}) في الدين أبو بكر ( {والسعة}) في المال ( {أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله}) ، صفات لموصوف واحد وهو مسطح لأنه كان مسكينًا مهاجرًا بدريًا ( {وليعفوا وليصفحوا}) عنهم خوضهم في أمر عائشة ( {ألا تحبون}) خطاب لأبي بكر ( {أن يغفر الله لكم}) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم ( {والله غفور رحيم) فتخلقوا بأخلاقه تعالى ( قال أبو بكر) لما قرأ عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الآية ( بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع) بالتخفيف ( إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه) قبل ( وقال والله لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل)
بصيغة المضارع ولأبي ذر سأل بصيغة الماضي ( زينب ابنة جحش) أم المؤمنين -رضي الله عنها- ( عن أمري فقال يا زينب ماذا علمت) على عائشة ( أو رأيت) منها ( فقالت) ولأبي ذر وقالت ( يا رسول الله أحمي) بفتح الهمزة ( سمعي) من أن أقول سمعت ولم أسمع ( وبصري) من أن أقول أبصرت ولم أبصر ( ما علمت) عليها ( إلا خيرًا قالت) عائشة ( وهي) أي زينب ( التي كانت تساميني من أزواج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الفوقية وبالمهملة من السموّ وهو العلوّ والارتفاع أي تطلب من العلوّ والارتفاع والحظوة عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أطلب أو تعتقد أن لها مثل الذي لي عنده ( فعصمها الله) أي حفظها ( بالورع) أن تقول يقول أهل الإفك ( وطفقت) بكسر الفاء جعلت أو شرعت ( أختها حمنة) بفتح الحاء المهملة وبعد الميم الساكنة نون مفتوحة فهاء تأنيث ( تحارب لها) أي لأختها زينب وتحكي مقالة أهل الإفك لتخفض منزلة عائشة وتعلي منزلة أختها زينب ( فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك) فحدّت فيمن حُدَّ أو أثمت مع من أثم.

وهذا الحديث سبق في كتاب الشهادات ..