فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]

باب قَوْلِهِ: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
هذا ( باب) بالتنوين ( قوله: { قل يا عبادي الذين أسرفوا} ) في المعاصي ( { على أنفسهم لا تقنطوا} ) لا تيأسوا ( { من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} ) الكبائر وغيرها الصادرة عن المؤمنين ( { إنه هو الغفور} ) لمن تاب ( { الرحيم} ) [الزمر: 53] بعد التوبة لمن أناب، لكن قال القاضي ناصر الدين تقييده بالتوبة خلاف الظاهر وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين كما هو عرف القرآن، وفي الآية من أنواع المعاني والبيان إقباله عليهم ونداؤهم وإضافتهم إليه إضافة تشريف والالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله من رحمة الله وإضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى وإعادة الظاهر بلفظه في قوله إن الله وإبراز الجملة من قوله: { إنه هو الغفور الرحيم} مؤكدة بأن إعادة الصفتين السابقتين والذين أسرفوا عامّ في جميع المسرفين ويغفر الذنوب جميعًا شامل لكبائرها وصغائرها فتغفر مع التوبة أو بدونها خلافًا للمعتزلة حيث ذهبوا إلى أنه يعفو عن الصغائر قبل التوبة وعن الكبائر بعدها، وجمهور أصحابنا أنه يعفو عن بعض الكبائر مطلقًا ويعذب ببعضها إلا أنه لا علم لنا الآن بشيء من هذين البعضين بعينه.
وقال كثير منهم لا نقطع بعفوه عن الكبائر بلا توبة بل نجوّزه واحتج الجمهور بوجهين الأول أن العفو لا يعذب على الذنب مع استحقاق العذاب ولا تقول المعتزلة بذلك الاستحقاق في غير صورة النزاع إذ لا استحقاق بالصغائر أصلًا بالكبائر بعد التوبة فلم يبق إلا الكبائر قبلها فهو يعفو عنها كما ذهبنا إليه الثاني الآيات الدالّة على العفو عن الكبيرة قبل التوبة نحو قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] فإن ما عدا الشرك داخل فيه ولا يمكن التقييد بالتوبة لأن الكفر معفوّ معها فيلزم تساوي ما نفي عنه الغفران وما أثبت له وذلك مما لا يليق بكلام عاقل فضلًا عن كلام الله تعالى وقوله: { إن الله يغفر الذنوب جميعًا} [الزمر: 53] عامّ للكل فلا يخرج عنه إلا ما أجمع عليه وسقط قوله: { إن الله يغفر الذنوب جميعًا} الخ لأبي ذر ولفظ باب لغيره.


[ قــ :4550 ... غــ : 4810 ]
- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ:
يَعْلَى: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً.
فَنَزَلَ { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 86] .
وَنَزَلَ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] .

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا ( إبراهيم بن موسى) الفراء الرازي الصغير قال: ( أخبرنا هشام بن يوسف) الصنعاني ( أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز ( أخبرهم) قال: ( قال يعلى) هو ابن مسلم بن هرمز كما في مسلم ( أن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ناسًا من أهل الشرك) سمى الواقدي منهم وحشي بن حرب قاتل حمزة وكذا هو عند الطبراني عن ابن عباس من وجه آخر ( كانوا قد قتلوا وأكثروا) من القتل ( وزنوا وأكثروا) من الزنا ( فأتوا محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه) من الإسلام ( لحسن) وفي نسخة به بدل إليه ( لو تخبرنا إن لما) أي للذي ( عملنا) من الكبائر ( كفارة فنزل { والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله} ) أي حرّم قتلها ( { إلا بالحق ولا يزنون} ) [الفرقان: 68] قال في الأنوار نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما أثبت لهم أصول الطاعات إظهار الكمال إيمانهم وإشعارًا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك وتعريضًا للكفرة بأضداده ( ونزل) ولأبي ذر: ونزلت بتاء التأنيث ( { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} ) .

وعند الإمام أحمد من حديث ثوبان مرفوعًا: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} إلى آخرها فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك: فسكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال: "إلا ومن أشرك" ثلاث مرات.
وعنده أيضًا عن أسماء بنت يزيد قالت سمعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} ولا يبالي.
قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، ولما أسلم وحشي بن حرب فقال الناس: يا رسول الله إنّا أصبنا ما أصاب وحشي فقال هي للمسلمين عامة.
وقال ابن عباس: قد دعا الله سبحانه وتعالى إلى توبته مَن قال: { أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وقال ما علمت لكم من إله غيري فمن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن إذا تاب الله على العبد تاب.