فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قوله: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91]

باب قَوْلِهِ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
( باب قوله: { وما قدروا الله حق قدره} ) [الزمر: 67] أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره وسقط باب لغير أبي ذر.


[ قــ :4551 ... غــ : 4811 ]
- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ.
فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] .
[الحديث 4811 - أطرافه في: 7414، 7415، 7451، 7513] .

وبه قال: ( حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: ( حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن ( عن منصور) هو ابن المعتمر ( عن إبراهيم) النخعي ( عن عبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة السلماني ( عن عبد الله) بن مسعود ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال: جاء حبر) بفتح الحاء المهملة ( من الأحبار) عالم من علماء اليهود قال الحافظ ابن حجر لم أقف على أسمه ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا محمد إنّا نجد) أي في التوراة ( أن الله يجعل السماوات على إصبع) وفي رواية مسدّد عن يحيى عن سفيان عن منصور في التوحيد أن الله يمسك بدل يجعل ( والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع وسائر الخلائق على إصبع) وفي بعض النسخ والماء على إصبع والثرى على إصبع وسقط في بعضها والماء على إصبع ( فيقول: أنا الملك) المتفرّد بالملك ( فضحك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدت نواجذه) بالجيم والذال المعجمة أي أنيابه وهي الضواحك التي تبدو عند الضحك حال كونه ( تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { وما قدروا الله حق قدره} ) وقراءته عليه الصلاة والسلام هذه الآية تدل على صحة قول الحبر كضحكة قاله النووي.

وفي التوحيد قال يحيى بن سعيد وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله فضحك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعجبًا مما قاله الحبر وتصديقًا له، ورواه الترمذي وقال حسن صحيح، وعند مسلم تعجبًا مما قاله الحبر وتصديقًا له.
وعند ابن خزيمة من رواية إسرائيل عن منصور حتى بدت نواجذه تصديقًا له، وعند الترمذي من حديث ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه وأشار محمد بن الصلت أبو جعفر لخنصره أوّلًا ثم تابع حتى بلغ الإبهام وهذا من شديد الاشتباه، وقد حمله بعضهم على أن اليهود مشبهة ويزعمون فيما أنزل إليهم ألفاظًا تدخل في التشبيه ليس القول بها من مذهب المسلمين، وبهذا قال الخطابي وقال: إنه روى هذا الحديث غير واحد عن عبد الله من طريق عبيدة فلم يذكروا قوله تصديقًا لقول الحبر ولعله من الراوي ظنّ وحسبان، وضحكه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعجب من كذب اليهودي، فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك.

وقال أبو العباس القرطبي في المفهم: هذه الزيادة من قول الراوي باطلة لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا
يصدّق بالمحال لأن نسبة الأصابع إلى الله تعالى محال، وقوله: { وما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوه حق معرفته ولا ريب أن الصحابة كانوا أعلم بما رووه، وقد قالوا إنه ضحك تصديقًا، وقد ثبت في الحديث الصحيح: "ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن" رواه مسلم.
وفي حديث ابن عباس قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أتاني الليلة ربي في أحسن صورة" الحديث.
وفيه فوضع يده بين كتفي، وفي رواية معاذ فرأيته وضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي، فهذه روايات متظافرة على صحة ذكر الأصابع وكيف يطعن في حديث أجمع على إخراجه الشيخان وغيرهما من أئمة النقد والإتقان، لا سيما وقد قال ابن الصلاح ما اتفق عليه الشيخان هو بمنزلة المتواتر وكيف يسمع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف ربه تعالى بما لا يرضاه فيضحك ولم ينكره أشد الإنكار حاشاه الله من ذلك، وإذا تقرر صحة ذلك فهو من المتشابه كغيره كالوجه واليدين والقدم والرجل والجنب في قوله تعالى: { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56] .

واختلف أئمتنا في ذلك هل نؤوّل المشكل أم نفوّض معناه المراد إليه تعالى مع اتفاقهم على أن جعلنا بتفصيله لا يقدح في اعتقادنا المراد منه، والتفويض مذهب السلف وهو أسلم والتأويل مذهب الخلف وهو أعلم أي أحوج إلى مزيد علم فنؤوّل الأصبع هنا بالقدرة إذ إرادة الجارحة مستحيلة، وقد قال الزمخشري في كشافه بعد ذكر نحو حديث الباب إنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه إلا إجراء العبارة وفي مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلّت فيها أقدام وما أتى الزالّون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علمًا لو قدّروه حق قدره لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثّة لأن مَن تأوّل ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ولا يعرف قبيلًا من دبير.

وقال ابن فورك: يحتمل أن يكون المراد أصبع بعض مخلوقاته.

وسيكون لنا عودة إلى الإلمام بشيء من مبحث هذا الحديث إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه.

وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التوحيد ومسلم في التوبة والترمذي والنسائي في التفسير.