فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى

باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
هذا ( باب) بالتنوين ( من هاجر) إلى دار الإسلام ( أو عمل خيرًا) كصلاة أو حج أو صدقة أو هجرة ( لتزويج امرأة) قال الكرماني: ليجعلها زوجة نفسه أو التفعيل بمعنى التفعل واللام للتعليل ( فله ما نوى) .


[ قــ :4800 ... غــ : 5070 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسوله فهجرته إلى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

وبه قال: ( حدّثنا يحيى بن قزعة) بفتح القاف والزاي والعين المهملة الحجازي قال: ( حدّثنا مالك) الإمام ( عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) التيمي ( عن علقمة بن وقاص) الليثي ( عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-) أنه ( قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( العمل) صحيح أو صحة العمل ( بالنية) بالإفراد فيهما فالعمل مبتدأ أو الخبر الاستقرار الذي يتعلق به حرف الجر فإن قلت: العامل المقدر في المجرور يقتضي النصب وقد قيل إنه الخبر فكيف يكون في محل نصب.
وأجيب: بأن الذي في موضع النصب قوله النية لأنه المفعول الذي وصل إليه العامل بواسطة الباء، والذي في موضع الرفع مجموع بالنية لأنه الذي ناب عن الاستقرار، وكذلك القول في كل مبتدأ خبره ظرف أو مجرور نحو قولك: زيد في الدار وزيد عندك ولفظ إنما ساقط هنا والباء في بالنية للإلصاق لأن كل عمل تلصق به نيته أو للسببية بمعنى أنها مقوّمة للعمل فكأنها سبب في إيجاده وسبق مزيد بحث في ذلك أول الكتاب ( وإنما لامرئ) رجل أو امرأة ( ما نوى) هذه الجملة مؤكدة للسابقة أو مفيدة غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.
وقال ابن عبد السلام: الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها وأفادت أن النية إنما تشترط في العبادات التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأودعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح لمتعجب فلا ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابًا، ولذا قال في الإحياء: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة خير من حركة اللسان بالغيبة بل هو خير من السكوت مطلقًا أي المجرد عن التفكّر.
قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) أي إلى طاعة الله أو إلى عبادة الله من مكة إلى المدينة قبل الفتح ( فهجرته إلى الله ورسوله) جواب الشرط وجواب الشرط إذا كان جملة اسمية فلا بد من الفاء أو وإذا قوله تعالى: { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} [الروم: 36] والفاء في جواب الشرط للسببية أو التعقيب وظاهره اتحاد الشرط مع الجزاء والقاعدة اختلافهما نحو من أطاع الله أثيب ومن عصاه عوقب واتحادهما غير مفيد لأنه من تحصيل الحاصل وأجاب ابن دقيق العيد بأن التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجْرًا حكمًا وشرعًا.

قال ابن مالك: من ذلك قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث حذيفة: ولو مت مت على غير الفطرة وجاز ذلك لتوقف الفائدة على الفضلة ومنه قوله تعالى: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7] فلولا قوله في الأول على غير الفطرة وفي الثاني لأنفسكم ما صح ولم يكن في الكلام فائدة.

قال في العدّة: وإعراب قصد أو نيّة يصح أن يكون خبر كان أي ذات قصد وذات نية
وتتعلق إلى بالمصدر ويصح أن يكون إلى الله الخبر وقصدًا مصدر في موضع الحال وأما قوله ثوابًا فلا يصح فيه إلا الحال من الضمير في الخبر انتهى.

وأعاد المجرور ظاهرًا لا مضمرًا لأنه لم يقل فهجرته إليهما ولم يذكره بلفظ الموصول كالذي بعده لقصد الاستلذاذ بذكر الله ورسوله بخلاف الدنيا والمرأة فإن الاحتقار والإبهام فيهما أولى ( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) يحصلها استعارة من إصابة الغرض والدنيا عند المتكلمين ما على الأرض والهواء والأظهر أنها كل مخلوق من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة والمراد بها في الحديث المال ونحوه بدليل ذكر المرأة في قوله ( أو امرأة ينكحها) وإفرادها بعد دخولها في لفظ دنيا من باب ذكر الخاص بعد العامّ لأن الواقعة المذكورة في قصة المهاجر لتزويج امرأة فذكرت الدنيا مع القصة زيادة في التحذير قالوا: وفيه رد على ابن مالك حيث زعم في شرح عمدته أن عطف الخاص على العام لا يكون إلا بالواو والقصة المذكورة رواها سعيد بن منصور بإسناد صحيح على شرط الشيخين قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: من هاجر يبتغي شيئًا فإنما له ذلك.
هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس.
وليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ( فهجرته إلى ما هاجر إليه) ، من الدنيا والمرأة حكمًا وشرعًا كما مرّ بما فيه من البحث أوّلًا أو الخبر محذوف في الثاني والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه من الدنيا والمرأة قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة ولا نصيب له في الآخرة، وعورض بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا وليس كذلك فإن من ينوي بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوّج المرأة معًا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يُثاب لكن دون ثواب من أخلص وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يُثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف، كما وقع في قصة إسلام أبي طلحة المروية عند النسائي عن أنس قال: تزوّج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام.
أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت فإن أسلمت تزوجتك فأسلم فتزوجته.

قال في الفتح: وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء فإن كان في ابتدائه لله خالصًا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره والله أعلم.