فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من خير نساءه

باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
( باب من خير نساءه) وفي نسخة: أزواجه أي بين أن يطلقن أنفسهن أو يستمرنّ في العصمة.
( وقول الله تعالى) لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( { قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} ) أي السعة في الدنيا وزهرتها ( { فتعالين} ) أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن ( { أمتعكن} ) أعطكن متعة الطلاق ( { وأسرحكن} ) وأطلقكن ( { سراحًا جميلًا} ) [الأحزاب: 28] لا ضرر فيه، وهذا أمر من الله تعالى لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخيّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الدنيا وزخرفها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن رضا الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خيري الدنيا وسعادة الآخرة.


[ قــ :4981 ... غــ : 5262 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا.
[الحديث 5262 - أطرافه في: 5263] .

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص) قال: ( حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان قال ( حدّثنا مسلم) أبو الضحى بن صبيح ( عن مسروق) هو ابن الأجدع ( عن عائشة رضي الله عنها) أنها ( قالت: خيّرنا) أي أمهات المؤمنين ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بين الدنيا والآخرة فإن اخترن الدنيا طلّقهن طلاق السُّنَّة ( فاخترنا الله ورسوله فلم يعد) بضم أوله وفتح العين والدال المهملة المشددة ( ذلك) التخيير ( علينا شيئًا) من الطلاق.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في الطلاق والترمذي في النكاح والنسائي فيه وفي الطلاق وابن ماجة في الطلاق.




[ قــ :498 ... غــ : 563 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ
عَائِشَةَ عَنِ الْخِيَرَةِ فَقَالَتْ: خَيَّرَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَكَانَ طَلاَقًا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لاَ أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي.

وبه قال: ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: ( حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان ( عن إسماعيل) بن أبي خالد قال: ( حدّثنا عامر) هو ابن شراحيل الشعبي ( عن مسروق) أو ( قال: سألت عائشة) -رضي الله عنها- ( عن الخيرة) بكسر الخاء المعجمة وفتح التحتية والراء أي تخيير الرجل زوجته في الطلاق وعدمه ( فقالت) : ليس طلاقًا واستدلت لذلك بقولها ( خيرنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أزواجه فاخترنا ( أفكان) تخييره ( طلاقًا) استفهام على سبيل الإنكار.

( قال مسروق) بالإسناد السابق: ( لا أبالي أخيرتها واحدة أو مائة بعد أن تختارني) .
واختلف فيما إذا اختارت نفسها هل تقع طلقة واحدة رجعية أم بائنًا أو تقع ثلاثًا؟ فقال المالكية: تقع ثلاثًا لأن معنى الخيار بتّ أحد الأمرين إما الأخذ أو الترك، فلو قلنا إذا اختارت نفسها تكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ لأنها تكون بعده في أسر الزوج.
وقال الحنفية: واحدة بائنة.
وقال الشافعية: التخيير كناية فإذا خيّر الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين أن تستمرّ في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت لقول عائشة: فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقًا إذ مقتضاه أنها لو اختارت نفسها كان طلاقًا لكن مفهوم قوله تعالى: { فتعالين أمتعكن وأسرحكن} [الأحزاب: 8] أي بعد الاختيار أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقًا بل لا بدّ من إنشاء الزوج الطلاق فلو قالت لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدّقت، فلو وقع التصريح بالتطليق يقع جزمًا.
واختلفوا في التخيير هل هو بمعنى التمليك أو التوكيل، والصحيح عندنا أنه تمليك فلو قال الرجل لزوجته: طلّقي نفسك إن شئت فتمليك للطلاق لأنه يتعلق بغرضها فنزل منزلة قوله ملّكتك طلاقك، ويشترط أن يكون فورًا لتضمنه القبول وهو على الفور فلو أخّرت بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب ثم طلّقت لم يقع إلا إن قال: طلّقي نفسك متى شئت فلا يشترط الفور وللزوج الرجوع قبل التطليق ولا يصح تعليقه، فلو قال: إذا جاء الغد أو زيد مثلًا فطلّقي نفسك لغا.
وقال المالكية والحنفية: لا يشترط الفور بل متى طلقت نفذ.


باب
مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
.

     وَقَالَ  الْحَسَنُ: نِيَّتُهُ.
.

     وَقَالَ  أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ لأَنَّهُ لاَ يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ،.

     وَقَالَ  فِي الطَّلاَقِ ثَلاَثًا: { لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 30] .

( باب من قال لامرأته: أنت عليّ حرام.
وقال الحسن) البصري فيما وصله عبد الرزاق ( نيته) أي فإن نوى طلاقًا وإن تعدّد أو ظهارًا، وقع المنوي لأن كلاًّ منهما يقتضي التحريم فجاز أن يكنى عنه بالحرام أو نواهما معًا أو مرتبًا تخير وثبت ما اختاره منهما ولا يثبتان جميعًا لأن الطلاق يزيل النكاح والظهار يستدعي بقاءه هذا مذهب الشافعية.
وقال الحنفية: إن نوى واحدة فهي
بائن، وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم ينوِ طلاقًا فهي يمين ويصير موليًا.
وقال المالكية: يقع ثلاثًا ولا يسأل عن نيته ولهم في ذلك تفاصيل يطول ذكرها.

( وقال أهل العلم: إذا طلق ثلاثًا فقد حرمت عليه) أي حتى تنكح زوجًا غيره ( فسموه حرامًا) بالتصريح ( بالطلاق والفراق) بأن يتلفظ بأحدهما أو يقصده فلو أطلق أو نوى غير الطلاق فهو على النظر، وقال صاحب المصابيح من المالكية: يعني فإذا كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا قال: وهذا غير ظاهر لجواز أن يكون بينهما عموم وخصوص كالحيوان والإنسان، وحاول ابن المنير الجواب عن البخاري بأن الشرع عبّر عن الغاية القصوى بالتحريم، وأما تسمية الشيء بما هو أوضح منه فدلّ ذلك على أن الذين كانوا لا يعلمون أن الثلاث محرّمة ولا أنها الغاية يعلمون أن التحريم هو الغاية ولهذا بيّن لهم أن الثلاث تحرم فالمستدل به في الحقيقة إنما هو الإطلاق مع السياق وما من شأن العرب أن تعبّر بالعام عن الخاص، ولو قال القائل لإنسان بين يديه يعرف بشأنه وينبه على قدره: هذا حيوان لكان متهكمًا مستخفًّا فإذا عبّر الشرع عن الثلاث بأنها محرمة فلا يحمل على التعبير عن الخاص بالعام لئلا يكون ركيكًا والشرع منزّه عن ذلك فإذن هما سواء لا عموم بينهما، ويدل هذا على أن التحريم كان أشهر عندهم بالغلظ والشدّة من الثلاث، ولهذا فسّره لهم به قال: وهذا من لطيف الكلام، وأما كون التحريم قد يقصر عن الثلاث فذلك تحريم مقيد، وأما المطلق منه فللثلاث وفرق بين ما يفهم لدى الإطلاق وبين ما لا يفهم إلا بقيد انتهى.

وتعقبه البدر فقال: قوله وما من شأن العرب أن تعبر بالعام عن الخاص مشكل اللهم إلا أن يريد في بعض المقامات الخاصة فيمكن وسياق كلامه يفهم ذلك عند التأمل انتهى.

وقول ابن بطال: إن البخاري يرى أن التحريم ينزل منزلة الطلاق الثلاث للإجماع على أن من طلق امرأته ثلاثًا تحرم عليه فلما كانت الثلاث تحرّمها كان التحريم ثلاثًا، ومن ثم أورد حديث رفاعة محتجًّا به لذلك تعقبه في الفتح فقال الذي يظهر من مذهب البخاري أن الحرام ينصرف إلى نية القائل، ولذا صدّر الباب يقول الحسن، وهذه عادته في موضع الاختلاف مهما صدر به من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره، وحاشا البخاري أن يستدل بكون الثلاث تحرم أن كل تحريم له حكم الثلاث مع ظهور منع الحصر لأن الطلقة الواحدة تحرم غير المدخول بها مطلقًا والبائن تحرّم المدخول بها إلا بعقد جديد وكذا الرجعية إذا انقضت عدتها فلم ينحصر التحريم في الثلاث وأيضًا فالتحريم أعمّ من التطليق ثلاثًا فكيف يستدل بالأعم على الأخص؟.

( وليس هذا) التحريم المذكور في المرأة ( كالذي يحرم الطعام) على نفسه ( لأنه لا يقال لطعام الحل) ولأبي ذر للطعام الحل ( حرام) قال الشافعي: إن حرّم طعامًا وشرابًا فلغو ( ويقال للمطلّقة حرام) خلافًا لما نقل عن أصبغ وغيره ممن سوّى بين الزوجة والطعام والشراب، وقد ظهر أن الشيئين وإن استويا من جهة فقد يفترقان من جهة أخرى فالزوجة إذا حرمها على نفسه وأراد بذلك تطليقها حرمت عليه والطعام والشراب إذا حرّمه على نفسه لم يحرم عليه ولا يلزمه كفارة
لاختصاص الإبضاع بالاحتياط وشدّة قبولها التحريم، ولذا احتج باتفاقهم على أن المرأة بالطلقة الثالثة تحرم على الزوج فقال:
( وقال) تعالى: ( في الطلاق ثلاث) بالرفع في الفرع، وفي اليونينية: ثلاثًا بالنصب ويشبه أن تكون الألف ملحقة بعد المثلثة ( { لا تحل له} ) من بعد ( { حتى تنكح زوجًا غيره} ) [البقرة: 30] .


[ قــ :498 ... غــ : 564 ]
- وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثًا قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَنِي بِهَذَا فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ.

( وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله أبو الجهم العلاء بن موسى الباهلي في جزء له: ( عن نافع) مولى ابن عمر أنه ( قال) : ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد نافع قال: ( كان ابن عمر) -رضي الله عنهما- ( إذا سئل عمن طلق ثلاثًا قال: لو طلقت مرة أو مرتين) لكان لك المراجعة ( فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرني بهذا) لما طلقت امرأتي وهي حائض فقال لما ذكر له عمر ذلك "مره فليراجعها" فكأنه قال للسائل: إن طلقت طلقة أو تطليقتين فأنت مأمور بالمراجعة لأجل الحيض ( فإن طلّقتها ثلاثًا حرمت) عليك ( حتى تنكح زوجًا غيرك) ولأبي ذر عن الكشميهني: فإن طلقها بضمير الغيبة كقوله غيره.