فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} "

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} رَجَعُوا { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 و227]
( باب قول الله تعالى: { للذين يؤلون} ) يقسمون وهي قراءة ابن عباس -رضي الله عنهما- ومن في ( { من نسائهم} ) متعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول: لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمولين من نسائهم ( { تربص أربعة أشهر} ) أي استقر للمولين ترقب أربعة أشهر لا بيؤلون لأن آلى يعدّى بعلى يقال: آلى فلان على امرأته، ويجوز أن يقال عدّي بمن لما في هذا القاسم من معنى البعد فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مولين، وتربص مبتدأ خبره للذين، وآلى أصله أألى فأبدلت الثانية ألفًا لسكونها وانفتاح ما قبلها نحو آمن وإضافة التربص اللاحقة من إضافة المصدر لمفعوله على الاتساع في الظرف حتى صار مفعولًا به، وكان الإيلاء في الجاهلية طلاقًا فغيّر الشرع حكمه وخصّه بالحلف على الامتناع من وطء الزوجة مطلقًا أو أكثر من أربعة أشهر وهو
حرام لما فيه من منع حق الزوجة في الوطء وأركانه حالف ومحلوف به ومحلوف عليه ومدة وصيغة وزوجة.

فالحالف شرطه زوج مكلف مختار يتصور منه الجماع فلا يصح من أجنبي كسيد ولا من غير مكلف إلا السكران ولا من مكره ولا ممن لم يتصور منه الجماع كمجبوب.

وشرطه في المحلوف به كونه اسمًا أو صفة الله تعالى كقوله: والله أو والرحمن لا أطؤك أو كونه التزام ما يلزم بنذر أو تعليق طلاق أو عتق كقوله: إن وطئتك فلله عليّ صلاة أو حج أو صوم أو عتق، أو إن وطئتك فضُرّتك طالق أو فعبدي حر.

وشرطه في المحلوف عليه ترك وطء شرعي فلا إيلاء بحلفه على امتناعه من تمتعه بها بغير وطء.
وفي المدة زيادة على أربعة أشهر بأن يطلق كأن يقول والله لا أطؤك أو يؤبد كقوله: والله لا أطؤك أبدًا أو يقيد بزيادة على أربعة أشهر كقوله: والله لا أطؤك خمسة أشهر أو يقيد بمستبعد الحصول فيها كقوله: والله لا أطؤك حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أو حتى أموت، فلو قيد بالأربعة أو نقص عنها لا يكون إيلاء بل مجرد حلف لأن المرأة تصبر عن الزوج أربعة أشهر وبعدها يفنى صبرها أو يقل.

وفي الصيغة لفظ يشعر بالإيلاء إما صريح كتغييب حشفة الرجل بفرج وجماع كقوله: والله لا أغيب حشفتي بفرجك أو لا أطؤك أو كناية كملامسة ومباضعة كقوله، والله لا ألامسك أو لا أباضعك.

وفي الزوجة تصوّر وطء فلا يصح من رتقاء وقرناء ( { فإن فاؤوا} ) أي ( رجعوا) إلى الوطء عن الإصرار بتركه ( { فإن الله غفور رحيم} ) حيث شرع الكفارة ( { وإن عزموا الطلاق} ) بترك الفيء ( { فإن الله سميع} ) لإيلائه ( { عليم} ) [البقرة: 226 و227] بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، والمعنى عند إمامنا الشافعي رحمة الله عليه فإن فاؤوا وإن عزموا بعد مضيّ المدة لأن الفاء للتعقيب فيكون الفيء قبل مضيّ المدة وبعدها وعند مضيها يوقف إلى أن يفيء أو يطلق، وعبارته كما في المعرفة للبيهقي ظاهر كتاب الله يدل على أنه له أربعة أشهر ومن كانت له أربعة أشهر أجلًا له فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي الأربعة الأشهر كما لو أجلتني أربعة أشهر لم يكن لك أخذ حقك مني حتى تنقضي الأربعة الأشهر، ودل على أن عليه إذا مضت الأربعة الأشهر واحدًا من حكمين إما أن يفيء أو يطلق فقلنا بهذا وقلنا لا يلزمه طلاق بمضيّ أربعة أشهر حتى يحدث فيئة أو طلاقًا.
قال: والفيئة الجماع إلا من عذر انتهى.

وعند الحنفية الفيء في المدة لا غير، وأجاب الشيخ كمال الدين: بأن الفاء لتعقيب المعنى في الزمان في عطف المفرد كجاء زيد فعمرو وتدخل الجمل لتفصيل مجمل قبلها وغيره، فإن كانت
للأوّل نحو: { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} [النساء: 153] { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي} [هود: 45] ونحو: توضأ فغسل وجهه ويديه ورجليه ومسح رأسه فلا تفيد ذلك التعقيب بل التعقيب الذكري بأن ذكر التفصيل بعد الإجمال وإن كانت لغيره، فكالأول كجاء زيد فقام عمرو، فكلٌّ من التعقيبين جائز الإرادة في الآية المعنوي بالنسبة إلى الايلاء، فإن فاؤوا بعد الإيلاء والذكري فإنه لما ذكر تعالى أن لهم من نسائهم أن يتربصوا أربعة أشهر من غير بينونة مع عدم الوطء كان موضع تفصيل الحال في الأمرين فقوله تعالى: { فإن فاؤوا} إلى قوله: { سميع عليم} واقع لهذا الغرض فيصح كون المراد فإن فاؤوا أي رجعوا عما استمروا عليه بالوطء في المدة المعدة تعقيبًا على الإيلاء التعقيب الذكري أو بعدها تعقيبًا على التربص فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم وعقد القلب انتهى.
وسياق الآية كله لابن عساكر، وقال في الفتح، لكريمة ولغيرهما بعد قوله: { تربص أربعة أشهر} إلى قوله: { سميع عليم} لكنه في الفرع رقم عليه علامة السقوط لأبي ذر.


[ قــ :5003 ... غــ : 5289 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ».

وبه قال: ( حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس) ابن أخت إمام دار الهجرة مالك بن أنس ( عن أخيه) عبد الحميد بن أبي أويس ( عن سليمان) بن بلال ( عن حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وسقط لابن عساكر ابن مالك ( يقول: آلى) بمد الهمز حلف ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي شهرًا ( من نسائه) .
وفي حديث ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا، وعند الترمذي برجال موثقين عن مسروق عن عائشة قالت: آلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالًا، لكن رجح الترمذي إرساله على وصله، وقد يتمسك بقوله فيه حرم من ادّعى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتنع من جماعهن وبه جزم ابن بطال وجماعة لكنه مردود بأن المراد بالتحريم تحريم شرب العسل أو تحريم وطء مارية.
قال في الفتح: ولم أقف على نقل صريح أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتنع من جماع نسائه وليس هذا من الإيلاء المقرر كما مرّ، ولذا استشكل إيراد المصنف لهذا الحديث هنا إذ إنه ليس من هذا الباب وقوّى ذلك ما أبداه البلقيني في تدريبه بأن الإيلاء المعقود له الباب حرام يأثم به من علم حاله فلا تجوز نسبته إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وأجيب: بأنه مبني على اشتراط ترك الجماع فيه، وقد روي عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة عدم اشتراط ترك الجماع.
( وكانت انفكت رجله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فأقام في مشربة) بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء بعدها موحدة في غرفة ( له تسعًا وعشرين) ليلة ( ثم نزل) من الغرفة ودخل على أزواجه ( فقالوا: يا رسول الله آليت) حلفت ( شهرًا) ولأبي ذر عن الكشميهني ألبثت بهمزة الاستفهام وبعد اللام موحدة مكسورة فمثلثة ففوقية من الليث ( فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( الشهر) المعهود ( تسع وعشرون) .




[ قــ :5005 ... غــ : 590 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلاَءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى: لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلاَّ أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاَقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
.

     وَقَالَ  لِي إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ حَتَّى يُطَلِّقَ.
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: ( حدّثنا الليث) بن سعد الإمام ( عن نافع) مولى ابن عمر ( أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى) في الآية السابقة ( لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف) بأن يطأ ( أو يعزم بالطلاق) ولأبي ذر وابن عساكر: الطلاق بإسقاط الجار ( كما أمر الله عز وجل) بقوله: { وإن عزموا الطلاق} [البقرة: 7] فإن امتنع من الفيئة والطلاق طلق عليه القاضي نيابة عنه على الأظهر والثاني لا يطلق عليه لأن الطلاق في الآية مضاف إليه بل يكرهه ليفيء أو يطلق، وقال الحنفية: إن فاء بالجماع قبل انقضاء المدة استمرت عصمته وإن مضت المدة وقع الطلاق بنفس مضي المدة قال المؤلّف:
( وقال لي إسماعيل) بن أبي أويس المذكور ( حدّثني) بالإفراد ( مالك) الإمام ( عن نافع عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- أنه قال: ( إذا مضت أربعة أشهر) من حين الإيلاء ( يوقف) الحكم والكشميهني يوقفه ( حتى) يفيء أو ( يطلق) بنفسه ( ولا يقع عليه الطلاق) بانقضاء المدة ( حتى يطلق) هو ( ويذكر) بضم أوّله وفتح الكاف ( ذلك) المذكور من الوقف حتى يطلق ( عن عثمان) فيما وصله الشافعي وابن أبي شيبة من طريق طاوس عنه لكن في سماع طاوس من عثمان نظر نعم ورد ما يعضده إلا أنه جاء عن عثمان خلافه عند عبد الرزاق والدارقطني ( وعلي) فيما وصله الشافعي وابن أبي شيبة بسند صحيح ( وأبي الدرداء) فيما وصله ابن أبي شيبة وإسماعيل القاضي بسند صحيح إن ثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء ( وعائشة) فيما أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح ( واثني عشر رجلًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما أخرجه المؤلّف في تاريخه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وسائر أصحاب الحديث.

وأجاب الشيخ كمال الدين عن حديثي الباب بما أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا آلى فلم يفيء حتى مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة قال: ورجال هذا السند كلهم أخرج لهم الشيخان فهم رجال الصحيح فينتهض معارضًا ولم يبق إلا قول من قال بأن أصح الحديث ما في الصحيحين ثم ما كان على شرطهما إلى آخر ما عرف.
قال: وهذا تحكم محض لأنه إذا كان الفرض أن المروي
على نفس الشرط المعتبر عندهما فلم يفته إلا كونه لم يكتب في خصوص أوراق معينة ولا أثر لذلك وقول البخاري أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر لم يوافق عليه فقد قال غيره غيره، وقال المحققون: إن ذلك يتعذر الحكم به وإنما يمكن بالنسبة إلى صحاب وبلد فيقال أصحها عن ابن عمر: مالك عن نافع عنه، وعن أبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب عنه، وأصح أسانيد الشاميين الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة ونحو ذلك وأحسن من هذا الوقوف عن اقتحام هذه فإن في خصوص الموارد ما قد يلزم الوقوف عن ذلك.
نعم قد يكون الراوي المعين أكثر ملازمة لمعين من غيره فيصير أدرى بحديثه وأحفظ له منه على معنى أنه أكثر إحاطة بأفراد متونه وأعلم بعادته في تحديثه وعند تدليسه إن كان وبقصده عند إبهامه وإرساله ممن لم يلازمه تلك الملازمة أما في فرد معين فرض أن غيره ممن هو مثله في ملكة النفس والضبط أو أرفع سمعه منه فأتقنه وحافظ عليه كما حافظ على سائر محفوظاته، ويكون ذلك مقدمًا عليه في روايته بمعارضة فما هو إلا محض تحكم فإن بعد هذا الفرض لم تبق زيادة الآخر إلا بالملازمة وأثرها الذي يزيد به على الآخر إنما هو بالنسبة إلى مجموع متونه لا بالنسبة إلى خصوص متن انتهى.

وقد سبق ما احتجّ به الإمام الشافعي من ظاهر الآية مع قول أكثر الصحابة والترجيح يقع بالأكثر مع موافقة ظاهر القرآن وقد نقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال: لم نجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقًا ولو جاز لكان العزم على الفيء يكون فيئًا ولا قائل به، وليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوى بها الطلاق تقتضي طلاقًا والعطف بالفاء على الأربعة الأشهر يدل على أن التخيير بعد مضي المدة وحينئذٍ فلا يتجه وقوع الطلاق بمجرد مضي المدة والجواب السابق عن ذلك وإن كان بديعًا لكنه لا يخلو عن شيء من التعسف، ولئن سلمنا انتهاض حديث ابن أبي شيبة السابق لحديثي الباب فيبقى النظر في هل يستدل بذلك والآية أظهر في الدلالة لنا على ما لا يخفى.