فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قصة فاطمة بنت قيس

باب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} .
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} -إِلَى قَوْلِهِ- { بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} .

( باب قصة فاطمة بنت قيس) أي ابن خالد الأكبر الفهرية أخت الضحاك من المهاجرات الأول ( وقوله عز وجل) ولأبي ذر وقول الله عز وجل: ( { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن} ) أي لا تخرجوا المطلقات طلاقًا بائنًا بخلع أو ثلاث حاملًا كانت أو حائلًا غضبًا عليهن وكراهية لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذانًا بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ( { من بيوتهن} ) مساكنهن التي يسكنها قبل العدّة وهي بيوت الأزواج وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى ( { ولا يخرجن} ) بأنفسهن إن أردن ذلك، ولو وافق الزوج وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقًّا لله تعالى، وقد وجبت في ذلك المسكن.
وفي الحاوي والمهذّب وغيرهما، من كتب العراقيين أن للزوج أن يسكنها حيث شاء لأنها في حكم الزوجة، وبه جزم النووي في نكته، قال السبكي: والأول أولى لإطلاق الآية، والأذرعي أنه المذهب المشهور والزركشي أنه الصواب ( { إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} ) قيل: هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهن قاله ابن مسعود، وبه أخذ أبو يوسف وقيل خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه قاله النخعي، وبه أخذ أبو حنيفة، وقال ابن عباس: الفاحشة نشوزها وأن تكون بذيّة اللسان على أحمائها.
قال الشيخ كمال الدين بن الهمام: وقول ابن مسعود أظهر من جهة وضع اللفظ له لأن إلا أن غاية والشيء لا يكون غاية لنفسه وما قاله النخعي أبدع وأعذب في الكلام كما يقال في الخطابيات لا تزن إلا أن تكون فاسقًا ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم ونحوه وهو بديع بليغ جدًّا ( { وتلك حدود الله} ) أي الأحكام المذكورة ( { ومن يتعد حدود الله فقد ظل نفسه لا تدري} ) أيها المخاطب ( { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} ) [الطلاق: 1] بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها أو من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها أو من عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدّة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون.
ثم ابتدأ المصنف بآية أخرى من سورة الطلاق فقال:
( { أسكنوهن من حيث سكنتم} ) من للتبعيض حذف مبعضها أي أسكنوهن مكانًا من حين سكنتم أي بعض مكان سكناكم ( { من وجدكم} ) عطف بيان لقوله: { من حيث سكنتم} وتفسير له كأنه قيل أسكنوهن مكانًا من مسكنكم مما تطيقونه والوجد الوسع والطاقة ( { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} ) من المسكن ببعض الأسباب حتى تضطروهن إلى الخروج ( { وإن كن} ) أي المطلقات
( { أولات حمل} ) ذوات الأحمال ( { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} -إلى قوله-) تعالى: ( { بعد عسر يسرًا} ) [الطلاق: 6، 7] أي بعد ضيق في المعيشة سعة وهو وعد لذي العسر باليسر والنفقة للحامل شاملة للأدم والكسوة إذ إنها مشغولة بمائه فهو مستمتع برحمها فصار كالاستمتاع بها في حال الزوجية، إذ الغسل مقصود بالنكاح كما أن الوطء مقصود به والنفقة للحامل بسبب الحمل لا للحمل لأنها لو كانت له لتقدرت بقدر كفايته ومفهوم الآية أن غير الحمل لا نفقة لها، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى.
والسياق يفهم أنها في غير الرجعية لأن نفقة الرجعية واجبة ولو لم تكن حاملًا.
وذهب الإمام إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة وإنما وجبت السكنى لمعتدة وفاة وطلاق بائن وهي حائل دون النفقة لأنها لصيانة ماء الزوج وهي تحتاج إليها بعد الفرقة كما تحتاج إليها قبلها والنفقة لسلطنته عليها، وقد انقطعت.
وسياق هذه الآيات كلها ثابت في رواية كريمة، وقال أبو ذر في روايته بعد قوله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية، وهو نصب بفعل مقدر.


[ قــ :5035 ... غــ : 5321 - 5322 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُما يَذْكُران أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَرْوَانَ، وَهْوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ: اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا.
قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي.
.

     وَقَالَ  الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَ مَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ.
فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ.
[الحديث 5321 - أطرافه في: 5323، 5325، 5327] .
[الحديث 5322 - أطرافه في: 5324، 5326، 5328]
وبه قال: ( حدّثنا) بالجمع ( إسماعيل) بن أبي أويس قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد ( مالك) الإمام الأعظم ( عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق ( وسليمان بن يسار) بالتحتية والسين المهملة المخففة مولى ميمونة ( أنه) أي أن يحيى بن سعيد الأنصاري ( سمعهما) أبي القاسم بن محمد وسليمان بن يسار ( يذكران أن يحيى بن سعيد بن العاص) أخا عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق ( طلق بنت عبد الرحمن بن الحكم) بفتحتين عمرة الطلاق البتة ( فانتقلها) أي نقلها ( عبد الرحمن) أبوها من مسكنها الذي طلقت فيه، فسمعت عائشة بنقل عبد الرحمن ابنته من مسكنها الذي طلقت فيه ( فأرسلت عائشة أم المؤمنين) -رضي الله عنها- ( إلى) عم عمرة بنت عبد الرحمن بن الحكم ( مروان) ولأبي ذر زيادة ابن الحكم ( وهو أمير المدينة) يومئذٍ من قبل معاوية وولي الخلافة بعد تقول له ( اتق الله) يا مروان ( وارددها إلى بيتها) الذي طلقت فيه ( قال مروان) مجيبًا لعائشة كما ( في حديث سليمان) بن يسار ( أن
عبد الرحمن بن الحكم)
يعني أخاه والد عمرة ( غلبني) فلم أقدر على منعه من نقلتها ( وقال القاسم بن محمد) في حديثه قال مروان مجيبًا لعائشة أيضًا: ( أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس) ؟ حيث لم تعتد في بيت زوجها وانتقلت إلى غيره ( قالت) عائشة -رضي الله عنها- لمروان ( لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة) لأنه لا حجة فيه لجواز انتقال المطلقة من منزلها بسبب قاله في الفتح، وقال في الكواكب: كان لعلة وهو أن مكانها كان وحشًا مخوفًا عليه أو لأنها كانت لسنة استطالت على أحمائها ( فقال مروان بن الحكم) لعائشة ( إن كان بك شر) أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة بنت قيس ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر ( فحسبك) فيكفيك في جواز انتقال عمرة ( ما بين هذين) عمرة زوجها يحيى بن سعيد ( من الشر) .
ومفهومه جواز النقلة من المسكن الذي طلقت فيه بشرط وجود عارض يقتضي جواز خروجها منه، كأن يكون المنزل مستعارًا ورجع المعير ولم يرض بإجارته بأجرة المثل، أو امتنع المكري من تجديد الإجارة بذلك، أو كان ملكًا لها ولم تختر الاستمرار فيه بإجارة بل اختارت الانتقال منه إذ لا يلزمها بذله بإعارة ولا إجارة كما لو كان المسكن خسيًسا وطلبت النقلة منه إلى اللائق بها، فإن كان نفيسًا فللزوج نقلها إلى غيره لائق بها ويتحرى المنزل الأقرب إلى المنقول عنه بحسب الإمكان.
وقال المرداوي من الحنابلة: تعتد بائن حيث شاءت من البلد في مكان مأمون ولا تسافر ولا تبيت إلا في منزلها، وإن أراد إسكانها في منزله أو غيره مما يحصل لها تحصينًا لفراشه ولا محذور فيه لزمها ذلك ولو لم تلزمه نفقة.




[ قــ :5036 ... غــ : 533 - 534 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ، أَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ؟ يَعْنِي فِي قَوْلِهَا لاَ سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةَ.

وبه قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد ( محمد بن بشار) بندار قال: ( حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ( عن عائشة) -رضي الله عنها- ( أنها قالت: ما لفاطمة) بنت قيس أي ما شأنها ( ألا) بالتخفيف ( تتقي الله يعني في قوله) ولأبي ذر في قولها ( لا سكنى ولا نفقة) للمطلقة البائن على زوجها والحال أنها تعرف قصتها يقينًا من أنها إنما أمرت بالانتقال لعذر وعلة كانت بها فأخبرت بما أباح لها الشارع من الانتقال ولم تخبر بالعلة.

وهذا الحديث أخرجه مسلم.




[ قــ :5037 ... غــ : 535 - 536 ]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْنَ إِلَى فُلاَنَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ؟ فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ.
قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي فِي قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَزَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: عَابَتْ
عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ .

     وَقَالَتْ : إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحِشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: ( حدّثنا عمرو بن عباس) بفتح العين وعباس بالموحدة آخره سين مهملة البصري قال: ( حدّثنا ابن مهدي) عبد الرحمن قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنه ( قال: قال عروة بن الزبير لعائشة) -رضي الله عنها-: ( ألم ترين) بالنون ولأبي ذر ألم تري ( إلى فلانة) عمرة ( بنت الحكم) نسبها لجدها وإلاّ فاسم أبيها عبد الرحمن كما مرّ ( طلّقها زوجها) يحيى بن سعيد بن العاص الطلاق ( البتة فخرجت) من المنزل الذي طلقها فيه إلى غيره ( فقالت) عائشة: ( بئسما صنعت) ولأبي ذر عن الكشميهني بئسما صنع أي زوجها من تمكينه لها من ذلك أو بئسما صنع أبوها في موافقتها لذلك ( قال) عروة لعائشة: ( ألم تسمعي في قول فاطمة) بنت قيس حيث أذن لها بالانتقال من المنزل الذي طلقت فيه ( قالت) عائشة ( أما) بالتخفيف ( أنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث) إذ هو موهم للتعميم وقد كان خاصًّا بها لعذر كان بها ولما فيه من الغضاضة ( وزاد ابن أبي الزناد) بالنون بعد الزاي عبد الرحمن واسم أبي الزناد عبد الله فيما وصله أبو داود ( عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير أنه قال: ( عابت عائشة) على فاطمة بنت قيس ( أشد العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش) بفتح الواو وسكون الحاء المهملة بعدها شين معجمة أي خال ليس به أنيس ( فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الانتقال وعند النسائي من طريق ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فقلت لسعيد بن المسيب إن فاطمة بنت قيس خرجت عن بيتها فقال: إنها كانت لَسِنة، ولأبي ذر من طريق سليمان بن يسار: إنما كان ذلك من سوء الخلق.