فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر

باب مَا يُنْهَى عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]
( باب ما ينهى عن التحاسد) ولأبي ذر عن الكشميهني من التحاسد المذموم وهو تمني زوال النعمة عن المحسود وتكون للحاسد دونه ( و) عن ( التدابر) بضم الموحدة بأن يدبر كل واحد عن صاحبه بأن يعطيه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره.

( وقوله تعالى) : ولأبي ذر وقول الله تعالى: { ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق: 5] أي إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه لأنه إذا لم يظهر فلا ضرر يعود منه على من حسده بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره وهو الأسف على الخير عند الغير والاستعاذة من هذه مع سابقها بعد الاستعاذة من شر ما خلق إشعار بأن شر هؤلاء أشد، وختم بالحسد ليعلم أنه شرها وهو أول ذنب عصي الله به في السماء من إبليس وفي الأرض من قابيل، وأقوى أسباب الحسد العداوة، ومنها خوفه من تكبر غيره عليه بنعمة فيتمنى زوالها عنه ليقع التساوي بينه وبينه، ومنها حب الرياسة فمتى تفرد بفن وأحب الرياسة وصارت حالته إذا سمع في أقصى العالم بنظيره أحب موته أو زوال تلك النعمة عنه وآفاته كثيرة، وربما حسد عالمًا فأحب خطأه في دين الله وانكشافه أو بطلان علمه بخرس أو مرض فليتأمل ما فيه من مشاركة أعداء الله بسخط قضائه وكراهة ما قسمه لعباده ومحبة زوالها عن أخيه المؤمن ونزول البلاء به.

قال بعضهم: الحاسد جاحد لأنه لا يرضى بقضاء الواحد فالعجب من عاقل يسخط ربه بحسد يضره في دينه ودنياه بلا فائدة بل ربما يريد الحاسد زوال نعمة المحسود فتزول عن الحاسد فيزداد المسود نعمة إلى نعمته والحاسد شقاوة على شقاوته.
نسأل الله العفو والعافية.
6064 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا».

وبه قال: ( حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة أبو محمد السختياني المروزي قال: ( أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا ( عبد الله) بن المبارك قال: ( أخبرنا معمر) بسكون العين المهملة ابن راشد ( عن همام بن منبه) بكسر الموحدة المشددة وتشديد ميم همام بعد فتح ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( إياكم والظن) أي اجتنبوه فلا تتهموا أحدًا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها ( فإن الظن أكذب الحديث) فلا تحكموا بما يقع منه كما يحكم بنفس العلم لأن أوائل الظنون خواطر لا يملك دفعها والمرء إنما يكلف بما يقدر عليه دون ما لا يملكه.
واستشكل تسمية الظن كذبًا فإن
الكذب من صفات الأقوال.
وأجيب: بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولاً أو فعلاً أو المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازًا ( ولا تحسسوا) بالحاء المهملة ( ولا تجسسوا) بالجيم وفي بعض النسخ وهو رواية أبي ذر بتقديم الجيم على الحاء وأصلهما بالتاءين الفوقيتين فحذف من كل منهما إحداهما تخفيفًا.
قال الحربي فيما نقله عن السفاقسي: معناهما واحد وهو تطلب الإخبار فالثاني للتأكيد كما قاله ابن الأنباري، وقال الحافظ أبو ذر: بالحاء الطالب لنفسه وبالجيم لغيره، وقيل بالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء استماع حديثهم، وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين أو الأذن، وقيل بالجيم الذي يعرف الخبر بتلطف ومنه الجاسوس وبالحاء الذي يطلب الشيء بحاسته كاستراق السمع وإبصار الشيء خفية.
نعم لو تعين التجسس طريقًا إلى إنقاذ نفس من الهلاك أو منع من زنا ونحوهما شرع كما لا يخفى ( ولا تحاسدوا) بإسقاط إحدى التاءين والتحاسد هو أعم من أن يسعى في إزالة تلك النعمة عن مستحقها أم لا فإن سعى كان باغيًا وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب فيه فإن كان المانع عجزه بحيث لو تمكن فعل فآثم، وإن كان المانع التقوى فقد يعذر لأنه لا يملك دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدة نفسه عدم العمل والعزم عليه، وفي حديث إسماعيل بن أمية عند عبد الرزاق مرفوعًا: "ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد" قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: "إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق ماذا حسدت فلا تبع" ( ولا تدابروا) بحذف إحدى التاءين للتخفيف أي لا تهاجروا فيولي كل واحد منكما دبره لصاحبه حين يراه لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره بخلاف من أحب ( ولا تباغضوا) بحذف إحدى التاءين أي لا تتعاطوا أسباب البغض نعم إذا كان البغض لله عزّ وجل ( وكونوا) يا ( عباد الله إخوانًا) باكتساب ما تصيرون به كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والنصيحة.


[ قــ :5741 ... غــ : 6065 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ».
[الحديث 6065 - طرفه في: 6076] .

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه ( قال: حدثني) بالإفراد ( أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( لا تباغضوا) حقيقته أن يقع بين اثنين وقد يكون من واحد وكذا ما بعده وهو قوله ( ولا تحاسدوا ولا تدابروا) قيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر لأن المستأثر يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر، وقال إمام الأئمة مالك في موطئه: لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام يدبر عنه بوجهه ( وكونوا عباد الله إخوانًا) قال في شرح المشكاة: إخوانًا يجوز أن يكون خبرًا بعد خبو وأن يكون بدلاً أو هو الخبر وقوله عباد الله منصوب على الاختصاص بالنداء وهذا الوجه
أوقع يعني أنتم مستوون في كونكم عبيد الله وملتكم ملة واحدة فالتباغض والتحاسد والتدابر مناف لحالكم، فالواجب عليكم أن تكونوا إخوانًا متواصلين متألفين ( ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه) في الإسلام ( فوق ثلاثة أيام) تخصيص الأخ بالذكر إشعار بالعلية ومفهومه أنه إن خالف هذه الشريطة وقطع هذه الرابطة جاز هجرانه فوق ثلاثة فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على ممرّ الأوقات ما لم تظهر التوبة والرجوع إلى الحق.