فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الخوخة والممر في المسجد

باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ
( باب الخوخة) بفتح الخاء المعجمة الباب الصغير ( والممرّ) الكائنين ( في المسجد) .


[ قــ :456 ... غــ : 466 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ.
فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا.
قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ.
لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ".
[الحديث 466 - طرفاه في: 3654، 3904] .


وبالسند قال: ( حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين المهملة ثم نونين بينهما ألف ( قال: حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة ابن سليمان ( قال: حدّثنا أبو النضر) بفتح النون وسكون المعجمة سالم بن أبي أمية ( عن عبيد بن حنين) بضم العين والحاء المهملتين فيهما وفتح النون في الثاني مصغرين المدني ( عن بسر بن سعيد) بضم الموحدة وإسكان المهملة وكسر العين في الثاني المدني العابد مولى ابن الحضرمي، ( عن أبي سعيد الخدري) ولأبي ذر والأصيلي عن أبي زيد عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد الخدري فأسقطا بسر بن سعيد، وكذا وجد تصويبه على الأصل المسموع على الحافظ أبي ذر وأن الفربري قال: إن الرواية هكذا أي بإسقاطه.
ونقل ابن السكن عن الفربري
عن البخاري أنه قال: هكذا حدّث به محمد بن سنان عن فليح وهو خطأ، وإنما هو عن عبيد بن حنين وعن بسر بن سعيد يعني بواو العطف.
قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يكون أبو النضر سمعه من شيخين حدّثه كلٌّ منهما به عن أبي سعيد فحذف العاطف خطأ من محمد بن سنان أو من فليح، وحينئذٍ فانتقاد الدارقطني على المؤلّف هذا الحديث مع إفصاحه بما ذكر لا وجه له وليست هذه بعلة قادحة، والله أعلم.
( قال) :
( خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إن الله سبحانه خيّر عبدًا) من التخيير ( بين الدنيا وبين ما عنده) أي عند الله في الآخرة ( فاختار) العبد ( ما عند الله) سقط عند الأصيلي وابن عساكر قوله فاختار ما عند الله وضرب عليه عند أبي الوقت، ( فبكى أبو بكر رضي الله عنه) وللأصيلي أبو بكر الصديق.
قال أبو سعيد: ( فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ) نصب على المفعولية وكلمة ما استفهامية ( إن يكن الله خير عبدًا) كذا في رواية الأكثرين وهو بكسر همزة إن الشرطية، ويكن فعل الشرط مجزوم كسر لالتقاء الساكنين أي أيّ شيء يبكيه من كون الله خيّر عبدًا؟ وللكشميهني من غير اليونينية إن يكن لله عبد خير بكسر إن ويكن مجزوم به كذلك، وعبد مبتدأ وخبره لله مقدمًا وخير بضم الخاء مبنيًّا للمفعول في موضع رفع صفة لعبد، وفي بعض النسخ كما في اللامع أن بالفتح، وجعله الزركشي من تجويز السفاقسي أي لأجل أن، لكن يشكل الجزم حينئذ في يكن.
وأجاب ابن مالك بأن يقال فيه ما قيل في حديث لن ترع فإن سكن مع الناصب وهو لن للوقف فأشبه المجزوم فحذفت الألف كما تحذف في المجزوم ثم أجرى الوصل مجرى الوقف اهـ.

والجزاء محذوف يدلّ عليه السياق وفيه ورود الشرط مضارعًا مع حذف الجزاء أو الجزاء قوله فاختار، وفي اليونينية من غير علامة أن يكون عبدًا خير ( بين الدنيا وبين ما عنده) تعالى ( فاختار ما عند الله فكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو العبد) المخير وسقط قوله فاختار ما عند الله للأصيلي وابن عساكر وضرب عليه أبو الوقت: ( وكان أبو بكر) الصديق رضي الله عنه، ( أعلمنا) حيث فهم أنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفارق الدنيا فبكى حزنًا على فراقه، وعبّر بقوله عبدًا بالتنكير ليظهر نباهة أهل العرفان في تفسير هذا المبهم فلم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به فبكى.
وقال: بل نفديك بأموالنا فسكن الرسول جزعه ( فقال) ولغير الأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني قال: ( يا أبا بكر لا تبك) ثم خصّه

بالخصوصية العظمى، فقال: ( إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر) بفتح الهمزة والميم وتشديد النون من أمنّ أي أكثرهم جودًا بنفسه وماله بلا استثابة ولم يرد به المنّة لأنها تفسد الصنيعة، ولأنه لا منّة لأحد عليه عليه الصلاة والسلام، بل منّته والله على جميع الخلائق.

وقال القرطبي: هو من الامتنّان يعني أن أبا بكر رضي الله عنه له من الحقوق ما لو كان لغيره لامتنّ بها، وذلك لأنه بادر بالتصديق ونفقة الأموال وبالملازمة وبالمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأن الله ورسوله لهما المنّة في ذلك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام بجميل أخلاقه وكرم أعراقه اعترف بذلك عملاً بشكر النعم، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي مرفوعًا: "ما لأحد عندنا يد إلاّ كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة".


( ولو كنت متخذًا خليلاً) أي أختار وأصطفي ( من أمتي) كذا للأربعة ولغيرهم: ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً ( لاتخذت) منهم ( أبا بكر) لكونه متأهلاً لأن يتخذه عليه الصلاة والسلام خليلاً لولا المانع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام امتلأ قلبه بما تخلّله من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته حتى كأنها مزجت أجزاء قلبه بذلك فلم يتّسع قلبه لخلّة غير الله عز وجل، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلاّ واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلّق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحبّ الناس إليه ونفى عنهما الخلّة التي هي فوق المحبة، وللأصيلي: لاتخذت أبا بكر يعني خليلاً.
( ولكن أخوّة الإسلام) أفضل، وللأصيلي ولكن خوّة الإسلام بحذف الهمزة نقل حركة الهمزة إلى النون وحذف الهمزة فتضم فينطق بها كذلك، ويجوز تسكينها تخفيفًا فيحصل فيها ثلاثة أوجه سكون النون مع ثبوت الهمزة على الأصل، ونقل ضمة الهمزة للساكن قبلها وهو النون والثالثة كذلك، لكن استثقلت ضمة بين كسرة وضمة فسكنت تخفيفًا فهذه فرع الفرع.
( ومودّته) أي مودّة الإسلام وهي بمعنى الخلة، والفرق بينهما باعتبار المتعلق، فالمثبتة ما كان بحسب الإسلام، والمنفية بجهة أخرى يدلّ عليه قوله في الحديث الآخر: ولكن خلة الإسلام أفضل والمودّة الإسلامية متفاوتة بحسب التفاوت في إعلاء كلمة الله تعالى، وتحصيل كثرة الثواب.
ولا ريب أن الصديق رضي الله عنه كان أفضل الصحابة رضي الله عنهم من هذه الحيثية.
( لا يبقين في المسجد باب) بالبناء للفاعل والنون مشدّدة للتأكيد وباب رفع على الفاعلية والنهي راجع إلى المكلفين لا إلى الباب فكنّى بعدم البقاء عن عدم الإبقاء لأنه لازم له كأنه قال: لا يبقه أحد حتى لا يبقى، وفي نسخة لا يبقين مبنيًّا للمفعول، فلفظ باب نائب عن الفاعل أي لا يبق أحد في المسجد بابًا، ( إلاّ) بابًا ( سدّ) بحذف المستثنى المقدّر ببابًا والفعل صفته وحينئذ، فلا يقال الفعل وقع مستثنى ومستثنى منه ثم استثنى من هذا فقال: ( إلاّ باب أبي بكر) الصديق رضي الله عنه بنصب باب على الاستثناء أو برفعه على البدل، وفيه دلالة على الخصوصية لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه بالخلافة بعده عليه الصلاة والسلام والإمامة دون سائر الناس، فأبقى خوخته دون خوخة

غيره، وهو يدل على أنه يخرج منها إلى المسجد للصلاة كذا قرّره ابن المنير، وعورض بما في الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "سدّوا الأبواب إلاّ باب علّي".

وأجيب بأن الترمذي قال إنه غريب.
وقال ابن عساكر: إنه وهم لكن للحديث طرق يقوّي بعضها بعضًا، بل قال الحافظ ابن حجر في بعضها إسناده قوي وفي بعضها رجاله ثقات، وفيه أن المساجد تُصان عن تطرّق الناس إليها في خوخات ونحوها إلاّ من أبوابها إلاّ لحاجة مهمة، وسيكون لنا عودة إن شاء الله تعالى إلى ما في ذلك من البحث في الفضائل.
وفي الحديث التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف في فضل أبي بكر رضي الله عنه، ومسلم في الفضائل.




[ قــ :457 ... غــ : 467 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَىَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ.
سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ".
[الحديث 467 - أطرافه في: 3656، 3657، 6738] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن محمد الجعفي) بضم الجيم وسكون العين المسندي ( قال: حدّثنا وهب بن جرير) بفتح الجيم ( قال: حدّثنا أبي) جرير بن حازم بالحاء المهملة والزاي العتكي ( قال: سمعت يعلى بن حكيم) بفتح المثناة التحتية وسكون العين وفتح اللام في الأوّل وفتح الحاء وكسر الكاف في الثاني الثقفي المكّي ثم البصري الشامي المدني ( عن عكرمة) مولى ابن عباس ( عن ابن عياس) رضي الله عنهما ( قال) :
( خرج رسول الله) وللأصيلي خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( في مرضه الذي مات فيه) حال كونه ( عاصبًا

رأسه بخرقة)
ولغير الأربعة عاصب بالرفع أي وهو عاصب لكنه ضبب عليها في الفرع وأصله، ( فقعد) عليه الصلاة والسلام ( على المنبر فحمد الله) تعالى على وجود الكمال ( وأثنى عليه) على عدم النقصان ( ثم قال: إنه) أي الشأن ( ليس من الناس أحد أمنّ عليّ في نفسه وماله) أي أبذل لنفسه وماله ( من أبي بكر بن أبي قحافة) بضم القاف عثمان رضي الله عنهما.
( ولو كنت متخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر) منهم ( خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل) أي فاضلة، إذ المقصود أن الخلة بالمعنى الأوّل أعلى مرتبة وأفضل من كل خلة ( سدّوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر) وللكشميهني كما في الفتح إلاّ بدل غير.

وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة والسماع والقول، وأخرجه في الفرائض بزيادة، وأخرجه النسائي في المناقب.