فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب في الأمل وطوله

باب فِى الأَمَلِ وَطُولِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] بِمُزَحْزِحِهِ: بِمُبَاعِدِهِ، وَقَوْلِهِ: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] .

     وَقَالَ  عَلِىٌّ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ ..
( باب) بالتنوين ( في الأمل وطوله) بفتح الهمزة والميم وهو الرجاء فيما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى يقال أمل خيره يأمله أملاً، وكذلك التأميل ومعناه قريب من التمني، وقيل الفرق بينهما أن الأمل ما تقدم سببه والتمني بخلافه، وقيل الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله فإذا فاته تمناه والرجاء تعليق القلب بمحبوب ليحصل في المستقبل والفرق بين الرجاء والتمني أن التمني يورث صاحبه الكسل ولا يسلك طريق الجهد والجد وبعكسه صاحب الرجاء فالرجاء محمود والتمني معلول كالأمل إلا للعالم في العلم فلولا طول أمله ما صنف ولا ألّف، وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة.

( وقول الله تعالى) ولأبي ذر وقوله تعالى: ( { فمن زحزح} ) بعد ( { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} ) ظفر بالخير، وقيل فقد حصل له الفوز المطلق، وقيل الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه
( { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} ) [آل عمران: 185] المتاع ما يتمتع به وينتفع والغرور يجوز أن يكون مصدرًا من قولك غررت فلانًا غرورًا شبه الدنيا بالمتاع الذي يدل به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور، وقرأ عبد الله بفتح الغين وفسّر بالشيطان، ويجوز أن يكون فعولاً بمعنى مفعول أي متاع الغرور أي المخدوع وأصل الغرر الخدع.
قال سعيد بن جبير: هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب متاع الدنيا للآخرة فإنها نعم المتاع، وعن الحسن كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله تعالى ما استطاع ( بمزحزحه) أي ( بمباعده) بكسر العين يعني أن معنى قوله فمن زحزح بوعد وأصل الزحزحة الإِزالة ومن أزيل عن شيء فقد بوعد منه وهذا ثابت هنا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وسقط لأبي ذر من قوله { وما الحياة الدنيا} إلى قوله { الغرور} .

( وقوله) تعالى ( { ذرهم} ) أمر إهانة أي اقطع طمعك من ارعوائهم ودع عنك النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة وخلهم ( { يأكلوا ويتمتعوا} ) بدنياهم فهي خلاقهم ولا خلاف لهم في الآخرة ( { ويلههم الأمل} ) يشغلهم الأمل عن الأخذ بحظهم من الإِيمان والطاعة ( { فسوف يعلمون} ) [الحجر: 3] إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال صنيعهم وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وهذا تهديد ووعيد، وقال بعض العلماء: ذرهم تهديد وسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين والآية نسختها آية القتال، وسقط لأبي ذر ويلههم الخ وقال بعد قوله: { ويتمتعوا} الآية.

( وقال علي) -رضي الله عنه- من قوله موقوفًا ولأبي ذر: علي بن أبي طالب ( ارتحلت الدنيا) حال كونها ( مدبرة وارتحلت الآخرة) حال كونها ( مقبلة ولكل واحدة منهما) من الآخرة والدنيا ولأبي ذر عن المستملي منها ( بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل) .
قال في الكواكب فإن قلت: اليوم ليس عملاً بل فيه العمل ولا يمكن تقدير في وإلا وجب نصب عمل.
وأجاب: بأنه جعله نفس العمل مبالغة كقولهم أبو حنيفة فقه ونهاره صائم ( ولا حساب) فيه ( وغدًا حساب) بالرفع ( ولا عمل) فيه أي فإنه على أن اسم إن ضمير شأن حذف وهو عندهم قليل أو هو على حذف مضاف إما من الأول وإما من الثاني أي فإن حال اليوم عمل ولا حساب، أو فإن اليوم يوم عمل ولا حساب.
وهذا رواه ابن المبارك في الزهد من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد وزبيد الأيامي عن رجل من بني عامر وسمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجرًا العامري، وكذا في الحلية لأبي نعيم من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال: قال علي: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة الحديث.
وقال بعض الحكماء: مما أخذه من قول عليّ هذا: الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر عن المقبلة.


[ قــ :6080 ... غــ : 6417 ]
- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ مُنْذِرٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ: خَطَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ،.

     وَقَالَ : «هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِى هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا».

وبه قال: ( حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي الحافظ قال: ( أخبرنا يحيى بن سعيد) القطان
وسقط لغير أبي ذر: ابن سعيد ( عن سفيان) أنه ( قال: حدثني) بالإفراد ( أبي) سعيد بن مسروق
الثوري ( عن منذر) بضم الميم وسكون النون وكسر الذال المعجمة بعدها راء ابن يعلى الثوري
الكوفي ( عن ربيع بن خثيم) بضم المعجمة وفتح المثلثة وربيع بفتح الراء وكسر الموحدة الثوري
( عن عبد الله) بن مسعود ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال: خطّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطًّا مربعًا) مستوي الزوايا
( وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه) أي من الخط المربع ( وخط خططًا) بضم الخاء مصححًا عليها
في الفرع وأصله وتكسر وبضم الطاء الأولى وتفتح وهي عن أبي الوقت في نسخة أي خططًا
( صغارًا إلى) جانب ( هذا) الخط ( الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط) .
وصورته التي يتنزل
سياق لفظ الحديث عليها.

( صورة)
هكذا وقيل هكذا
( صورة)
وقيل هكذا
( صورة)
( وقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولأبي ذر فقال بالفاء بدل الواو:
( هذا الإِنسان) مبتدأ وخبر أي هذا الخط هو الإِنسان على سبيل التمثيل ( وهذا أجله محيط
به)
إشارة إلى المربع ( أو) قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( قد أحاط به) بالشك من الراوي ( وهذا) الخط المستطيل
المنفرد ( الذي هو خارج) من وسط الخط المربع ( أمله وهذه الخطط) بضم الخاء والطاء الأولى،
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي الخطوط ( الصغار) أي الشطبات التي في الخط الخارج من وسط
المربع من أسفله أو من أسفله وأعلاه ( الأعراض) بالعين المهملة والضاد المعجمة أي الآفات
العارضة له كمرض أو فقد مال أو غيرهما أو المراد بالخطوط المثال لا عدد مخصوص معين ( فإن
أخطأه)
أي فإن تجاوز عنه ( هذا) العرض وسلم منه، ولأبي ذر أخطأ بحذف الضمير وله عن الحموي
والمستملي هذه بالتأنيث ( نهشه) بالشين المعجمة أصابه وأخذه ( هذا وإن أخطأه هذا) العرض ( نهشه)
أخذه ( هذا) العرض الآخر وهو الموت، فمن لم يمت بالسبب مات بالأجل، والحاصل أن الإنسان
يتعاطى الأمل ويختلجه الأجل دون الأمل، وسقط لأبي الوقت الهاء من أخطأه في الموضعين، وعبّر بالنهش وهو لدغ ذوات السم مبالغة في الأخذ.

والحديث أخرجه الترمذي في الزهد والنسائي في الرقاق وابن ماجة في الزهد.




[ قــ :6081 ... غــ : 6418 ]
- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ».

وبه قال: ( حدّثنا مسلم) الفراهيدي بالفاء المفتوحة ابن إبراهيم الحافظ البصري قال: ( حدّثنا همام) هو ابن يحيى ( عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري ( عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- أنه ( قال: خط النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطوطًا فقال) :
( هذا الأمل) الذي يؤمله الإِنسان ( وهذا أجله) والخط الآخر الإِنسان والخطوط الآخر الآفات التي تعرض له ( فبينما) بالميم ( هو كذلك) طالب لأمله البعيد ( إذ جاءه الخط) الأوسط ( الأقرب) وهو الأجل المحيط به إذ لا شك أن الخيط المحيط هو أقرب من الخط الخارج عنه، وعند البيهقي في الزهد من وجه آخر عن إسحاق خطّ خطوطًا وخط خطًّا ناحية ثم قال: هل تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما يؤمل إذ جاءه الموت.
وعند الترمذي من رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس بلفظ: هذا ابن آدم وهذا أجله ووضع يده عند قفاه ثم بسطها فقال: وثمّ أمله وثمّ أجله أي أن أجله أقرب إليه من أمله.

والحديث أخرجه النسائي في الرقاق.