فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الغنى غنى النفس

باب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: { أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: { مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا.

هذا ( باب) بالتنوين يذكر فيه ( الغنى غنى النفس) بكسر الغين المعجمة مقصورًا سواء كان المتصف به قليل المال أو كثيره.

( وقول الله تعالى) ولأبي ذر وقال الله تعالى ( { أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين} ) [المومنون: 55] ما بمعنى الذي وخبر أن نسارع لهم في الخيرات والعائد من خبر أن إلى اسمها محذوف تقديره نسارع لهم به، والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجًا لهم في المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم، وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون: إن الله تعالى لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح، وقوله: بل لا يشعرون استدراك لقوله: أيحسبون أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك
أنه استدراج ( إلى قوله تعالى: { من دون ذلك هم لها عاملون} ) [المؤمنون: 63] وهذا رأس الآية التاسعة من ابتداء الآية المبتدأ بها هنا، والآيات التي بين الأولى والثانية وبين الأخيرة والتي قبلها معترضة في وصف المؤمنين، وقوله: { مشفقون} [المؤمنون: 57] أي خائفون وقوله: { والذين هم بآيات ربهم} [المؤمنون: 58] أي بكتبه كلها يؤمنون ولا يفرقون، وقوله: { والذين يؤتون ما آتوا} [المؤمنون: 60] أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقلوبهم وجلة خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم وخبر إن الذين أولئك يسارعون في الخيرات أي يرغبون في الطاعات فيبادرونها والكتاب اللوح المحفوظ أو صحيفة الأعمال وقوله: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أي ما يستقبلون من الأعمال كما ( قال ابن عيينة) سفيان في تفسيره: ( لم يعملوها لا بدّ من أن يعملوها) قبل موتهم لا محالة لتحق عليهم كلمة العذاب، وفي حديث ابن مسعود: فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.


[ قــ :6108 ... غــ : 6446 ]
- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ».

وبه قال: ( حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي قال: ( حدّثنا أبو بكر) هو ابن عياش بالتحتية المشددة آخره شين معجمة راوي قراءة عاصم أحد القراء السبعة قال: ( حدّثنا أبو حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم الأسدي ( عن أبي صالح) ذكوان الزيات ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( ليس الغنى عن) سبب ( كثرة العرض) بفتح العين والراء وبالضاد المعجمة ما ينتفع به من متع الدنيا سوى النقدين.
وقال أبو عبيد: الأمتعة وهي ما سوى الحيوان والعقار وما لا يدخله كيل ولا وزن، وقال في المشارق مما نقله عنه في التنقيح: قال ابن فارس في المقاييس: وذكر هذا الحديث إنما سمعناه بسكون الراء وهو كل ما كان من المال غير نقد وجمعه عروض وأما العرض بفتح الراء فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا.
قال الله تعالى: { تريدون عرض الدنيا} [الأنفال: 67] { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} [الأعراف: 169] اهـ.

أي: ليس الغنى الحقيقي المعتبر كثرة المال لأن كثيرًا ممن وسع عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه فكأنه فقير من شدة حرصه.
( ولكن) بتشديد النون ولأبي ذر بتخفيفها ( الغنى) الحقيقي المعتبر الممدوح ( غنى النفس) بما أوتيت وقنعها به ورضاها وعدم حرصها على الازدياد والإلحاح في الطلب لأنها إذا استغنت كفت عن المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس بحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله ويكثر ذامه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل، وهو مع ذلك كأنه
فقير من المال لكونه لم يستغن بما أعطي فكأنه ليس بغني ولو لم يكن في ذلك إلا عدم رضاه بما قضاه الله لكفاه.

فإن قلت: ما وجه مناسبة الآيات للحديث؟ قال في الفتح: لأن خيرية المال ليست بذاته بل بحسب ما يتعلق به وإن كان يسمى خيرًا في الجملة وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيًّا لذاته بل بحسب تصرفه فيه، فإن كان في نفسه غنيًّا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات وإن كان في نفسه فقيرًا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به خشية من نفاده فهو في الحقيقة فقير صورة، ومعنى وإن كان المال تحت يده لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة بل ربما كان وبالاً عليه.

والحديث أخرجه الترمذي في الزهد.