فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب القسامة

باب الْقَسَامَةِ
وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ».

     وَقَالَ  ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِىِّ بْنِ أَرْطَاةَ وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ فِى قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلاَّ فَلاَ تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

( باب القسامة) بفتح القاف مأخوذة من القسم وهو اليمين، وقال الأزهري: القسامة اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول، وقيل: مأخوذة من القسمة لقسمة الأيمان على الورثة واليمين فيها من جانب المدعي لأن الظاهر معه بسبب اللوث المقتضي لظن صدقه وفي غير ذلك الظاهر مع المدعى عليه فلذا خرج هذا عن الأصل.

( وقال الأشعث بن قيس) بالمثلثة الكندي مما وصله في الشهادات وغيرها ( قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: شاهداك أو يمينه) برفع شاهداك خبر مبتدأ محذوف أي المثبت لدعواك شاهداك أو يمينه عطف عليه.

( وقال ابن أبي مليكة) : هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بضم الميم واسمه زهير مما وصله حماد بن سلمة في مصنفه ومن طريقه ابن المنذر ( لم يقد) بضم الياء التحتية وكسر القاف من أقاد أي لم يقتص ( بها) بالقسامة ( معاوية) بن أبي سفيان، وتوقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق.
قال في الفتح: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي وجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه فلفظ البيهقي عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلاً من بني العجلان ولم يكن في ذلك بيّنة ولا لطخ فأجمع رأي الناس على أن تحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه فركبت إلى معاوية في ذلك، فكتب إلى سعيد بن العاص إن كان ما ذكره حقًّا فافعل ما
ذكروه فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينًا ثم أسلمه إلينا انتهى.
فنسب إلى معاوية أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك، ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو بالعكس.

( وكتب عمر بن عبد العزيز) -رحمه الله تعالى- ( إلى عديّ بن أرطأة) بفتح الهمزة والطاء المهملة بينهما راء ساكنة وبعد الألف هاء تأنيث غير منصرف الفزاريّ ( وكان) ابن عبد العزيز ( أمّره) جعله أميرًا ( على البصرة) سنة تسع وتسعين ( في) أمر ( قتيل وجد) بضم الواو وكسر الجيم ( عند بيت من بيوت السمانين) الذين يبيعون السمن ( إن وجد أصحابه) أي أصحاب القتيل ( بيّنة) يحكم بها ( وإلاّ) أي وإن لم يجد أصحابه بيّنة ( فلا تظلم الناس) بالحكم في ذلك بغير بيّنة ( فإن هذا لا يفضي) بضم التحية وفتح الضاد المعجمة أي لا يحكم ( فيه إلى يوم القيامة) قال في الفتح: وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة كما اختلف على معاوية فذكر ابن بطال أن في مصنف حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة فيجمع بأنه وإن يرى ذلك لما كان أميرًا على المدينة ثم رجع لما ولي الخلافة.


[ قــ :6534 ... غــ : 6898 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، وَقَالُوا لِلَّذِى وُجِدَ فِيهِمْ: قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلاً، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً فَقَالَ: «الْكُبْرَ الْكُبْرَ» فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ».
قَالُوا: لاَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ.

وبه قال: ( حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: ( حدّثنا سعيد بن عبيد) أبو الهذيل الطائي الكوفي ( عن بشير بن يسار) بضم الموحدة وفتح المعجمة وشار بالتحتية وتخفيف المهملة المدني أنه ( زعم أن رجلاً) أي قال إن رجلاً ( من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة وهو كما قال المزي سهل بن عبد الله بن أبي حثمة واسم أبي حثمة عامر بن ساعدة الأنصاري وعند مسلم من طريق ابن نمير عن سعيد بن بشير عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنه ( أخبره أن نفرًا من قومه) اسم جمع يقع على جماعة الرجال خاصة من الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه، والمراد بهم هنا محيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة وأخوه حويصة بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة ولدًا مسعود وعبد الله وعبد الرحمن ولدا سهل ( انطلقوا إلى خيبر) وفي رواية ابن إسحاق عند ابن أبي عاصم فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا.
زاد سليمان بن بلال عند مسلم في زمن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي يومئذٍ صلح وأهلها يهود الحديث والمراد أن ذلك وقع بعد فتحها ( فتفرّقوا فيها ووجدوا) بالواو ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فوجدوا ( أحدهم قتيلاً) هو عبد الله بن سهل وفي رواية بشر بن المفضل السابقة في الجزية فأتي محيصة إلى عبد الله بن
سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ( وقالوا) أي النفر ( للذي) أي لأهل خيبر الذين ( وجد) بضم الواو وكسر الجيم ( فيهم) عبد الله بن سهل قتيلاً: ( قتلتم) ولأبي ذر عن الحموي قد قتلتم ( صاحبنا) وقوله للذي بحذف النون فهو كقوله تعالى: { وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ( قالوا) أي أهل خيبر: ( ما قتلنا) صاحبكم ( ولا علمنا قاتلاً) له ( فانطلقوا) أي عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود ( إلى النبي) ولأبي ذر رسول الله ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا) فيها ( قتيلاً) وفي الأحكام وأقبل أي محيصة هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب ليتكلم وهو الذي كان بخيبر وفي رواية يحيى بن سعيد فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم وزاد حماد بن زيد عن يحيى عند مسلم في أمر أخيه ( فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( الكبر الكبر) بضم الكاف وسكون الموحدة والنصب فيهما على الإغراء وفي رواية الليث عند مسلم فسكت وتكلم صاحباه وتكرير الكبر للتأكيد أي ليبدأ الأكبر بالكلام أو قدموا الأكبر إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسن وحقيقة الدعوى إنما هي لعبد الرحمن أخي القتيل لاحق فيها لابني عمه، وإنما أمر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وعند الدعوى يدّعي المستحق أو المعنى ليكن الكبير وكيلاً له ( فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( لهم) أي للثلاثة: ( تأتون) بفتح النون من غير تحتية ولأبي ذر عن المستملي تأتوني ( بالبينة على من قتله قالوا: ما لنا بيّنة) .
وعند النسائي من طريق عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه وإن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في: "أقم شاهدين على قتله أدفعه إليك برمته" قال: يا رسول الله إني أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم، وقول بعضهم إن ذكر البيّنة وهم لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد علم أن خيبر حينئذٍ لم يكن بها أحد من المسلمين أجيب عنه بأنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها من المسلمين أحد لكن في القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرًا فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك.

فإن قلت: كيف عرضت اليمين على الثلاثة والوارث هو عبد الرحمن خاصة واليمين عليه؟ أجيب: بأنه إنما أطلق الجواب لأنه غير ملبس أن المراد به الوارث فكما سمع كلام الجميع في صورة القتل وكيفيته كذلك أجابهم الجميع.

( قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( فيحلفون) أي اليهود أنهم ما قتلوه وفي رواية ابن عيينة عن يحيى تبرئكم يهود بخمسين يحلفون أي يخلصونكم من الأيمان بأن تحلفوهم فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء وخلصتم أنتم من الأيمان وفيه البداءة بالمدعى عليهم ( قالوا) : يا رسول الله ( لا نرضى بأيمان اليهود) وفي رواية يحيى أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم، فيحتمل أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلب البيّنة أولاً فلم يكن لهم بيّنة فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا، وقد سقط من رواية حديث الباب تبدئة المدعين باليمين واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها وهي تقضي على من لم يعرفها وإلى البداءة بالمدعين ذهب الشافعي وأحمد فإن أبوا ردت على المدعى عليهم وقال بعكسه
أهل الكوفة وكثير من البصرة ( فكره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبطل دمه) بضم أوله وكسر الطاء من أبطل أي كره أن يهدر دمه ( فوداه) بلا همز مع التخفيف ( مائة) وللكشميهني بمائة ( من إبل الصدقة) .
وفي رواية يحيى بن سعيد من عنده فيحتمل أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أو المراد بقوله من عنده أي من بيت المال المرصد للمصالح وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانًا لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين.
قال أبو العباس القرطبي: ورواية من قال من عنده أصح من رواية من قال من إبل الصدقة، وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن، فيحتمل أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء.

وفي الحديث مشروعية القسامة وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة كمالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، وعن طائفة التوقف في ذلك فلم يروا القسامة ولا أثبتوا فها في الشرع حكمًا وإليه نحا البخاري.
قال العيني: ذكر الحديث مطابقًا لما قبله في عدم القود في القسامة وأن الحكم فيها مقصور على البيّنة واليمين كما في حديث الأشعث.

والحديث سبق في الصلح والجزية.




[ قــ :6535 ... غــ : 6899 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَسَدِىُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِى عُثْمَانَ، حَدَّثَنِى أَبُو رَجَاءٍ مِنْ آلِ أَبِى قِلاَبَةَ، حَدَّثَنِى أَبُو قِلاَبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِى الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ قَالَ لِى: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ؟ وَنَصَبَنِى لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: "لاَ" قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: "لاَ" قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدًا قَطُّ، إِلاَّ فِى إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ.
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَ لَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطَعَ فِى السَّرَقِ، وَسَمَرَ الأَعْيُنَ ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِى أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَمِ فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَفَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا».
قَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا فَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَرْسَلَ فِى آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا فَجِىءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ، حَتَّى مَاتُوا قُلْتُ: وَأَىُّ شَىْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ؟ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ، وَقَتَلُوا وَسَرَقُوا فَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ
فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ عَلَىَّ حَدِيثِى يَا عَنْبَسَةُ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَاللَّهِ لاَ يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِى هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ فَخَرَجُوا بَعْدَهُ فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «بِمَنْ تَظُنُّونَ أَوْ تَرَوْنَ قَتَلَهُ؟» قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «اْنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟» قَالُوا: لاَ.
قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟» فَقَالُوا: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ، قَالَ: «أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟» قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ، وَقَالُوا: قَتَلَ صَاحِبَنَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ، فَقَالَ يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ، قَالَ: فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلاً، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلاً آخَرَ، فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِى الْمَقْتُولِ، فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى الْجَبَلِ فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمَاتُوا جَمِيعًا وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ، فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِى الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلاً ثُمَّ مَاتَ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَقَادَ رَجُلاً بِالْقَسَامَةِ، ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ.

وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال: (حدّثنا أبو بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (إسماعيل بن إبراهيم) المشهور بابن علية اسم أمه (الأسدي) بفتح السين المهملة نسبة إلى بني أسد بن خزيمة قال: (حدّثنا الحجاج بن أبي عثمان) ميسرة أو سالم البصري المعروف بالصواف قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو رجاء) سلمان (من) موالي (آل أبي قلابة) بكسر القاف وتخفيف اللام عبد الله بن زيد الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو قلابة) عبد الله (أن عمر بن عبد العزيز) -رحمه الله- في زمن خلافته (أبرز) أظهر (سريره) الذي جرت عادة الخلفاء بالاختصاص بالجلوس عليه إلى ظاهر داره (يومًا للناس ثم أذن لهم) في الدخول عليه ظاهر داره (فدخلوا) عليه (فقال) لهم (ما تقولون في القسامة؟ قال) قائل منهم كذا في الفرع كأصله وفي غيرهما قالوا (نقول القسامة القود بها حق) أي واجب (وقد أفادت بها الخلفاء) كمعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان قال أبو قلابة (قال لي ما تقول يا أبا قلابة)؟ فيها (ونصبني للناس) أي أبرزني لمناظرتهم أو لكونه كان خلف السرير فأمره
أن يظهر (فقلت: يا أمير المؤمنين عندك رؤوس الأجناد) بفتح الهمزة وسكون الجيم بعدها نون، ولابن ماجة وصححه ابن خزيمة في غسل الأعقاب.
قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله: من حدثك؟ قال: أمراء الأجناد خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة وعمرو بن العاص، والجند في الأصل الأنصار والأعوان ثم اشتهر في المقاتلة، وكان عمر قسم الشام بعد موت أبي عبيدة ومعاذ على أربعة أمراء مع كل أمير جند (وأشراف العرب) أي رؤساؤهم (أرأيت) أي أخبرني (لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن) بفتح الصاد وكان (بدمشق أنه قد زنى لم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ولم (يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا.
قلت: فوالله ما قتل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال رجل) بالرفع مصححًا عليه في الفرع كأصله (قتل) بفتحات متلبسًا (بجريرة نفسه) بفتح الجيم أي بما يجرّه إلى نفسه من الذنب أو من الجناية أي فقتل ظلمًا (فقتل) قصاصًا بضم القاف وكسر الفوقية بالبناء للمفعول (أو رجل زنى بعد إحصان) وكذا امرأة (أو رجل حارب الله ورسوله وارتدّ عن الإسلام، فقال القوم: أوليس قد حدث أنس بن مالك) وعند مسلم من طريق ابن عون فقال عنبسة بن سعيد قد حدّثنا أنس (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطع في السرق) بفتح السين والراء جمع السارق أو مصدر (وسمر) بالتخفيف كحل (الأعين) بالمسامير المحماة ولأبي ذر والأصيلي بالتشديد.
قال القاضي عياض: والتخفيف أوجه (ثم نبذهم) بالذال المعجمة طرحهم (في الشمس) قال أبو قلابة (فقلت: أنا أحدثكم حديث أنس، حدّثني) بالإفراد (أنس أن نفرًا من عكل) بضم العين المهملة وسكون الكاف (ثمانية) نصب بدلاً من نفرًا (قدموا على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبايعوه على الإسلام فاستوخموا الأرض) أرض المدينة فلم توافقهم وكرهوها لسقم أجسامهم (فسقمت أجسامهم) بكسر القاف وفتح السين قبلها (فشكوا ذلك) السقم وعدم موافقة أرض المدينة لهم (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فلما شكوا (قال) لهم: (أفلا فخرجوا مع راعينا) يسار النوبي (في إبله) التي يرعاها لنا (فتصيبون من ألبانها وأبوالها قالوا: بلى فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا) بتشديد الحاء (فقتلوا راعي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يسارًا (وأطردوا) بهمزة مفتوحة وسكون الطاء وفي آل ملك بتشديد الطاء أي ساقوا (النعم، فبلغ ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأرسل في آثارهم) شبابًا من الأنصار قريبًا من عشرين وكان أميرهم كرز بن جابر في السنة السادسة (فأدركوا) بضم الهمزة (فجيء بهم فأمر) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم) بتشديد الطاء في الفرع (وسمر) بالتخفيف ولأبي ذر بالتشديد كحل (أعينهم).
وفي مسلم فاقتص منهم بمثل ما فعلوا.
وقال الشافعي: إنه منسوخ، وتقرير ذلك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما فعل ذلك بالعرنيين كان بحكم الله وحيًا أو باجتهاد مصيب فنزلت آية المحاربة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] الآية ناسخة لذلك (ثم نبذهم) طرحهم (في الشمس حتى ماتوا) قال أبو قلابة (قلت: وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا) الراعي يسارًا (وسرقوا) النعم؟ (فقال عنبسة بن سعيد) بفتح العين المهملة وسكون النون وبعد الموحدة سين مهملة الأموي
أخو عمرو بن سعيد الأشدق (والله إن سمعت كاليوم قط) بكسر الهمزة وتخفيف النون بمعنى ما النافية والمفعول محذوف أي ما سمعت قبل اليوم مثل ما سمعت منك اليوم قال أبو قلابة (فقلت: أترد علي) بتشديد الياء (حديثي بل عنبسة؟ قال: لا) أرد عليك (ولكن جئت بالحديث على وجهه: والله لا يزال هذا الجند) أي أهل الشأم (بخبر ما عاش هذا الشيخ) أبو قلابة (بين أظهرهم) قال أبو قلابة (قلت: وقد كان في هذا) قال في الكواكب: أي في مثله (سنة من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهي أنه لم يحلف المدعي للدم بل حلف المدعى عليه أوّلاً (دخل عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نفر من الأنصار) يحتمل أنهم عبد الله بن سهل ومحيصة وأخوه (فتحدثوا عنده فخرج رجل منهم) إلى خيبر (بين أيديهم؟ هو عبد الله بن سهل (فقتل) بها (فخرجوا بعده) إلى خيبر (فإذا هم بصاحبهم) عبد الله بن سهل (يتشحط) بفتح التحتية والفوقية والشين المعجمة والحاء المشددة المهملة بعدها طاء مهملة أيضًا يضطرب (في الدم) ولأبي ذر عن الكشميهني في دمه (فرجعوا إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله صاحبنا) عبد الله بن سهل الذي (كان يتحدث) والذي في اليونينية تحدث (معنا) عندك (فخرج بين أيدينا) إلى خيبر (فإذا نحن به) عندها (يتشحط في الدم فخرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من بيته أو من مسجده إليهم (فقال) لهم: (بمن تظنون أو ترون) بفتح الفوقية أو بضمها وهو بمعنى تظنون والشك من الراوي ولأبي ذر أو من ترون (قتله قالوا: نرى) بفتح النون أو بضمها أي نظن (أن اليهود قتلته) بتاء التأنيث.
قال العيني: كذا في رواية المستملي وفي رواية غيره قتله بدونها بلفظ الماضي.
قال: وقوله في فتح الباري وفي رواية المستملي قتلته بصيغة المسند إلى الجمع المستفاد من لفظ اليهود لأن المراد قتلوه غلط فاحش لأنه مفرد مؤنث ولا يصح أن نقول قتلته بالنون بعد اللام لأنه صيغة جمع المؤنث (فأرسل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إلى اليهود فدعاهم فقال) لهم مستفهمًا: (آنتم) بمدّ الهمزة (قتلتم هذا؟ قالوا: لا.
قال) عليه الصلاة والسلام للمدعين: (أترضون نفل) بفتح النون والفاء مصححًا عليها في الفرع كأصله وقال في الفتح بسكونها.
وقال الكرماني بالفتح والسكون الحلف وأصله النفي وسمي اليمين في القسامة نفلاً لأن القصاص ينفي بها أي أترضون بحلف (خمسين) رجلاً (من اليهود) إنهم (ما قتلوه فقالوا) إنهم (ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الفوقية وكسر الفاء وفي نسخة ينفلون بضم التحتية ولأبي ذر والأصيلي ينفلون بضم التحتية وفتح النون وتشديد الفاء مكسورة أي يحلفون (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمدعين (أفتستحقون الدّية) بهمزة الاستفهام (بأيمان خمسين منكم) بالإضافة (قالوا: ما كنا لنحلف) بالنصب أي لأن نحلف (فوداه) النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (من عنده) وفي رواية سعيد بن عبيد فوداه مائة من إبل الصدقة وسبق أنه جمع بينهما باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده.

وفى الحديث أن اليمين توجه أولاً على المدعى عليه لا على المدعي كما في قصة النفر الأنصاريين، واستدلّ بإطلاق قوله خمسين منكم على أن من يحلف في القسامة لا يشترط أن يكون رجلاً ولا بالغًا، وبه قال أحمد.
وقال مالك: لا تدخل النساء في القسامة، وقال إمامنا الشافعي:
لا يحلف في القسامة إلا الوارث البالغ لأنها يمين في دعوى حكمية فكانت كسائر الإيمان ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، وقد نبه ابن المنير في الحاشية على النكتة في كون البخاري لم يورد في هذا الباب الطريق الدالة على تحليف المدعي وهي مما تخالف فيه القسامة بقية الحقوق، وقال مذهب البخاري: تضعيف القسامة فلهذا صدر الباب بالأحاديث الدالة على أن اليمين في جانب المدعى عليه، وأورد طريق سعيد بن عبيد وهو جار على القواعد وإلزام المدعى عليه البيّنة ليس من خصوص القسامة في شيء ثم ذكر حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية فرارًا من أن يذكرها هنا فيغلط المستدل بها على اعتقاد البخاري.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل ذلك: والذي يظهر لي أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي بل يوافق الشافعي في أنه لا قول فيها ويخالفه في أن الذي يحلف فيها هو المدعي بل يرى أن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر فيرد المختلف إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه فمن ثم أورد رواية سعيد بن عبيد في باب القسامة وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر وليس في شيء من ذلك تضعيف أصل القسامة.
وقال القرطبي الأصل في الدعاوى أن اليمين على المدعى عليه وحكم القسامة أصل بنفسه لتعذر إقامة البيّنة على القتل فيها غالبًا فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة ويترصد الغفلة وتأيدت بذلك الرواية الصحيحة المتفق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل ثم ليس ذلك خروجًا عن الأصل بالكلية بل لأن المدعى عليه إنما كان القول قوله لقوّة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادعى عليه وهو موجود في القسامة في جانب المدعي لقوّة جانبه باللوث الذي يقوي دعواه.
قال أبو قلابة بالسند.

(قلت: وقد كانت هذيل) بالذال المعجمة القبيلة المشهورة المنسوبة إلى هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر (خلفوا خليعًا لهم في الجاهلية) بفتح الخاء المعجمة فيهما وكسر اللام في الثاني فعيلاً بمعنى مفعول.
قال في المقدمة: ولم أقف على أسماء هؤلاء، ولأبي ذر عن الكشميهني حليفًا بالحاء المهملة والفاء بدل المعجمة والعين.
قال في الصحاح: يقال تخالع القوم إذا نقضوا الحلف بينهم اهـ.

وقد كانت العرب يتعاهدون على النصرة وأن يؤخذ كل منهم بالآخر فإذا أرادوا أن يتبرؤوا من الذي حالفوه أظهروا ذلك للناس وسموا ذلك الفعل خلعًا والمبرأ منه خليعًا أي مخلوعًا فيؤخذون بجنايته ولا يؤخذ بجنايتهم فكأنهم قد خلعوا اليمين التي كانت قد التمسوها معه ومنه سمي الأمير إذا عزل خليعًا ومخلوعًا مجازًا واتساعًا، ولم يكن ذلك في الجاهلية يختص بالحليف بل كانوا ربما خلفوا الواحد من القبيلة ولو كان من صميمها إذا صدرت منه جناية تقتضي ذلك وهذا مما أبطله الإسلام من حكم الجاهلية ومن ثم قيده في الخبر بقوله في الجاهلية.
قال في الفتح: ولم أقف على اسم الخليع المذكور ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة.

(فطرق) الخليع (أهل بيت) وفي نسخة فطرق بضم الطاء وكسر الراء مبنيًّا للمفعول أهل بيت (من اليمن بالبطحاء) وادي مكة أي هجم عليهم ليلاً في خفية ليسرق منهم (فانتبه له رجل منهم) من أهل البيت (فحذفه) بالحاء المهملة والذال المعجمة رماه (بالسيف فقتله فجاءت هذيل فأخذو) الرجل (اليماني) بالتخفيف وفي الملكية بالتشديد الذي قتل الخليع (فرفعوه إلى عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (بالموسم) الذي يجتمع فيه الحاج كل سنة (وقالوا: اقتل صاحبنا.
فقال) القاتل إنه لص و (إنهم) يعني قومه (قد خلعوه) وفي نسخة قد خلعوا بحذف الهاء (فقال) عمر -رضي الله عنه- (يقسم) بضم أوله أي يحلف (خمسون من هذيل) أنهم (ما خلعوه) وفي نسخة بحذف الهاء (قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً) كاذبين أنهم ما خلعوه (وقدم رجل منهم) أي من هذيل (من الشام فسألوه أن يقسم) كقسمهم (فافتدى يمينه منهم بألف درهم فأدخلوا) بفتح الهمزة (مكانه رجلاً آخر فدفعه إلى أخي المقتول فقرنت) بضم القاف (يده بيده قالوا): ولأبي ذر قال قالوا: (فانطلقنا) نحن (والخمسون) والذي في اليونينية فانطلقا والخمسون (الذين أقسموا) أنهم ما خلعوه وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء إذ الذين أقسموا إنما هم تسعة وأربعون (حتى إذا كانوا بنخلة) بفتح النون وسكون الخاء المعجمة موضع على ليلة من مكة لا ينصرف (أخذتهم السماء) أي المطر (فدخلوا في غار في الجبل فانهجم) بسكون النون وفتح الهاء والجيم أي سقط وللأصيلي فانهدم (الغار على الخمسين الذين أقسموا فماتوا جميعًا.
وأفلت) بضم الهمزة والذي في اليونينية بفتحها (القرينان) أخو المقتول والرجل الذي جعلوه مكان الرجل الشامي أي تخلصًا (واتبعهما) بتشديد الفوقية بعد همزة الوصل وبالموحدة (حجر) وقع عليهما بعد أن تخلصًا وخرجا من الغار (فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) وغرض المؤلّف من هذه القصة أن الحلف توجه أوّلاً على المدعى عليه لأجل المدعي كقصة النفر من الأنصار.
قال أبو قلابة بالسند السابق موصولاً لأنه أدرك ذلك.

(قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلاً) قال في الفتح: لم أقف على اسمه (بالقسامة ثم ندم بعدما صنع فأمر بالخمسين الذين أقسموا) من باب إطلاق الكل على البعض كما مر (فمحوا) بضم الميم والحاء المهملة (من الديوان) بفتح الدال وكسرها الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأصل العطاء فارسي معرب وأوّل من دوّن الدواوين عمر -رضي الله عنه- (وسيّرهم) أي نفاهم (إلى الشام) وفي رواية أحمد بن حرب عند أبي نعيم في مستخرجه من الشام بدل إلى.
قال في الفتح: وهذه أولى لأن إقامة عبد الملك كانت بالشام، ويحتمل أن يكون ذلك وقع بالعراق عند محاربته مصعب بن الزبير ويكونوا من أهل العراق فنفاهم إلى الشام اهـ.

وقد تعجب القابسي بالقاف والموحدة من عمر بن عبد العزيز كيف أبطل حكم القسامة الثابت بحكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعمل الخلفاء الراشدين بقول أبي قلابة وهو من بله التابعين وسمع منه في ذلك قولاً مرسلاً غير مسند مع أنه انقلب عليه قصة الأنصار إلى قصة خيبر، فركب
إحداهما مع الأخرى لقلة حفظه وكذا سمع حكاية مرسلة مع أنها لا تعلق لها بالقسامة إذ الخلع ليس قسامة وكذا محو عبد الملك لا حجة فيه.