فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة

كتاب التعبير
ثبتت البسملة هنا للجميع.

باب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
(كتاب التعبير) أي تفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها قاله الراغب.
وقال في المدارك: حقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره ونحوه أوّلت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها، وقال البيضاوي: عبارة الرؤيا الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهو المجاوزة اهـ.

وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات وأنكروا التشديد، لكن قال الزمخشري عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
وقال غيره: يقال عبر الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها وعبرتها.
بالتشديد للمبالغة في ذلك، ولأبي ذر كتاب التعبير (وأول ما بدئ به رسول الله) ولأبي ذر عن المستملي باب بالتنوين أوّل ما بدئ به رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي) إليه (الرؤيا الصالحة) أي الحسنة أو الصادقة والمراد بها صحتها والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ففرق بينهما بتاء التأنيث كالقربة والقربى، وقال الراغب: بالهاء إدراك المرئي بحاسة البصر ويطلق على ما يدرك بالتخيل نحو: أرى أن زيدًا سافر، وعلى التفكر النظري نحو: إني أرى ما لا ترون، وعلى الرأي وهو اعتقاد أحد النقيضين من غلبة الظن.
وقال ابن الأثير: الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم في النوم من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على ما يراه من الشر
والقبيح، ومنه قوله تعالى: { أضغاث أحلام} [يوسف: 44] وتضم لام الحلم وتسكن، وفي الحديث: الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.

قال التوربشتي: الحلم عند العرب مستعمل استعمال الرؤيا والتفريق بينهما إنما كان من الاصطلاحات الشرعية التي لم يضعها حليم ولم يهتد إليها حكيم بل سنّها صاحب الشرع للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عما كان من الله والحلم عما كان من الشيطان لأن الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحاكم في منامه من قضاء الشهوة مما لا حقيقة له.
قال صاحب فتوح الغيب: ولعل التوربشتي أراد بقوله ولم يهتد إليها حكيم ما عرفتها الفلاسفة على ما نقله القاضي البيضاوي في تفسيره الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها ما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم وإن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بأدنى شيء استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه.
انتهى.

وقال من ينتمي إلى الطب أن جميع الرؤيا تنسب إلى الاخلاط فيقول من غلبت عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجوّ وهكذا إلى آخره.


[ قــ :6617 ... غــ : 6982 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَحَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فَأَخْبَرَنِى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكَانَ يَأْتِى حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهْوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهْوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: «اقْرَأْ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ} --حَتَّى بَلَغَ- { مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] » فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ مَا لِى» وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ.

     وَقَالَ : «قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى» فَقَالَتْ لَهُ: كَلاَّ أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَىٍّ - وَهْوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو
أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِىَّ فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَىِ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ؟» فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَىْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَىْ يُلْقِىَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْىِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالِقُ الإِصْبَاحِ ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ.

وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسبه لجده واسم أبيه عبد الله المخزومي المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتع القاف ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم.
قال المؤلّف: (وحدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (معمر) هو ابن راشد ولفظ الحديث له لا لعقيل (قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (فأخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير بن العوّام والفاء في فأخبرني للعطف على مقدر أي أنه روى له حديثًا وهو عند البيهقي في دلائله من وجه آخر عن الزهري عن محمد بن النعمان بن بشير مرسلاً فذكر قصة بدء الوحي مختصرة ونزول: { اقرأ باسم ربك} إلى قوله: { خلق الإنسان من علق} [العلق: 1، 2] قال محمد بن النعمان: فرجع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك.
قال الزهري: فسمعت عروة بن الزبير يقول قالت عائشة فذكر الحديث مطوّلاً ثم عقبه بهذا الحديث (عن عائشة -رضي الله عنها- أنه قالت: أوّل ما بدئ) بضم الموحدة وكسر المهملة بعدها همزة (به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي الرؤيا الصادقة) التي ليس فيها ضغث، أو التي لا تحتاج إلى تعبير.
وفي التعبير للقادري الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه أو ما يعبر في المنام أو يخبر به من لا يكذب، وفي باب كيف بدء الوحي الصالحة بدل الصادقة وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فالصالحة في الأصل أخص فرؤيا الأنبياء كلها صادقة وقد تكون صالحة وهي الأكثر وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم أحد، وقال (في النوم) بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين فهي صفة موضحة (فكان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا يرى رؤيا إلا جاءت) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إلا جاءته (مثل فلق الصبح) قال القاضي البيضاوي: شبه ما جاءه
في اليقظة ووجده في الخارج طبقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه والفلق الصبح لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام إلى الخاص، وقال في شرح المشكاة: للفلق شأن عظيم ولذا جاء وصفًا لله تعالى في قوله: { فالق الإصباح} [الأنعام: 96] وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبئ عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة وطلوع تباشير الصبح بظهور سلطان الشمس وإشراقها الآفاق، كما أن الرؤيا الصالحة مبشرة تنبئ عن وفور أنوار عالم الغيب وإنارة مطالع الهدايات بسبب الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء النبوة (فكان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يأتي حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء ممدودة مذكر منصرف على الصحيح وقيل مؤنث غير منصرف (فيتحنث) بالحاء المهملة آخره مثلثة في غار (فيه وهو) أي التحنث (التعبد) بالخلوة ومشاهدة الكعبة منه والتفكر أو بما كان يلقى إليه من المعرفة (الليالي ذوات العدد) مع أيامهن والوصف بذوات العدد يفيد التقليل كدراهم معدودة، وقال الكرماني: يحتمل الكثرة إذ الكثير يحتاج إلى العدد وهو المناسب للمقام وإنما كان يخلو عليه الصلاة والسلام بحراء دون غيره لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنّه فتبعه على ذلك فكان يخلو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكان جدّه وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان فإن قريشًا كانت تفعله كما كان تصوم يوم عاشوراء (ويتزوّد لذلك) التعبد (ثم يرجع) إذا نفد ذلك الزاد (إلى خديجة) -رضي الله عنها- (فتزوّده) ولأبي ذر عن الكشميهني فتزوّد بحذف الضمير (لمثلها) لمثل الليالي (حتى فجئه الحق) بفتح الفاء وكسر الجيم بعدها همزة أي جاءه الوحي بغتة وكأنه لم يكن متوقعًا للوحي قاله النووي، وتعقبه البلقيني سمي به لأن الله خصصه بالوحي (وهو) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في غار حراء فجاءه الملك) جبريل عليه السلام وفاء فجاءه تفسيرية أو تعقيبية أو سببية وحتى لانتهاء الغاية أي انتهى توجهه لغار حراء بمجيء جبريل (فيه) في الغار (فقال: اقرأ) وهل سلم قبل قوله اقرأ أم لا؟ الظاهر لا لأن المقصود إذ ذاك تفخيم الأمر وتهويله أو ابتداء السلام متعلق بالبشر لا الملائكة ووقوعه منهم على إبراهيم لأنهم كانوا في صورة البشر فلا يرد هنا ولا سلامهم على أهل الجنة لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبًا، نعم في رواية الطيالسي إن جبريل سلم أولاً، لكن لم يرد أنه سلم عند الأمر بالقراءة قاله في الفتح (فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما أنا بقارئ) ولغير أبي ذر فقلت: ما أنا بقارئ أي ما أحسن أن أقرأ (فأخذني) جبريل (فغطّني) ضمني وعصرني (حتى بلغ مني الجهد) بفتح الجيم ونصب الدال مفعول حذف فاعله أي بلغ الغط مني الجهد وبضم الجيم ورفع الدال أي بلغ مني الجهد مبلغه فاعل بلغ (ثم أرسلني) أطلقني (فقال: اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخدني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فغطني) ولأبي ذر عن الكشميهني فأخذني فغطني (الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني) قال في شرح المشكاة قوله ما أنا بقارئ أي حكمي كسائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو بالتعلم وعدمه بعدمه فلذلك أخذه وغطّه مرارًا ليخرجه عن حكم سائر الناس ويستفرغ منه البشرية ويفرغ فيه من صفات الملكية (فقال) له حينئذ لما علم المعنى ({ اقرأ
باسم ربك الذي خلق}
) كل شيء وموضع باسم ربك النصب على الحال أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك قل باسم الله ثم اقرأ (حتى بلغ { ما لم يعلم} ) [العلق: 1 - 5] ولأبي ذر حتى بلغ: { علّم الإنسان ما لم يعلم} وفيه كما قال الطيبي إشارة إلى رد ما تصوّره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن القراءة إنما تتيسر بطريق التعليم فقط بل إنها كما تحصل بواسطة المعلم قد تحصل بتعليم الله بلا واسطة فقوله: علم بالقلم إشارة إلى العلم التعليمي وقول: علم الإنسان ما لم يعلم إشارة إلى العلم اللدني ومصداقه قوله تعالى: { إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} [النجم: 5] (فرجع بها) بالآيات المذكورة حال كونه (ترجف) تضطرب (بوادره) جمع بادرة وهي اللحمة بين العنق والمنكب، وقال ابن بري هي ما بين المنكب والعنق يعني أنها لا تختص بعضو واحد وإنما رجفت بوادره لما فجئه من الأمر المخالف للعادة لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها (حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني) مرتين أي غطّوني بالثياب ولفوني بها (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء الفزع (فقال: يا خديجة ما لي وأخبرها) ولأبي ذر عن الكشميهني وأخبر (الخبر وقال: قد خشيت على نفسي) أن لا أقوى على مقاومة هذا الأمر ولا أقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسي ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عليٌّ بتشديد الياء (فقالت له) خديجة: (كلا) نفي وإبعاد أي لا خوف عليك (أبشر) بخير أو بأنك رسول الله حقًّا (فوالله لا يخزيك الله أبدًا) بضم التحتية وسكون الخاء المعجمة من الخزي ولأبي ذر عن الكشميهني لا يحزنك بالحاء المهملة والنون بدل المعجمة والياء من الحزن (إنك لتصل الرحم) أي القرابة (وتصدق الحديث وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام الثقل ويدخل فيه الإنفاق على الضيف واليتيم والعيال وغير ذلك (وتقري الضيف) بفتح الفوقية من غير همز أي تهيئ له طعامه ونزله (وتعين على نوائب الحق) حوادثه أرادت أنك لست ممن يصيبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل.

وفيه دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ، وفيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر، وفي دلائل النبوة للبيهقي من طريق أبي ميسرة مرسلاً أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصّ على خديجة ما رأى في المنام فقالت له: أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرًا ثم أخبرها بما وقع له من شق البطن وإعادته فقالت له: أبشر إن هذا والله خير ثم استعلن له جبريل فذكر القصة فقال لها: أرأيتك الذي رأيت في المنام فإنه جبريل استعلن لي بأن ربي أرسله إليّ وأخبرها بما جاء به فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلاّ خيرًا فأقبل الذي جاءك من الله فإنه حق وأبشر فإنك رسول الله.

(ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به) مصاحبة له (ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو) أي ورقة (ابن عم خديجة) وهو (أخو أبيها) ولابن عساكر فيما ذكره في الفتح أخي أبيها بالجر في أخي صفة للعم ووجه الرفع أنه خبر مبتدأ محذوف وفائدته رفع المجاز في إطلاق العم فيه (وكان) ورقة (امرأً تنصّر) دخل في دين النصرانية (في الجاهلية) قبل البعثة المحمدية (وكان يكتب الكتاب العربي) وفي باب بدء الوحي العبراني (فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء
الله أن يكتب) أي الذي شاء الله كتابته (وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له) لورقة (خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك) محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ورقة ابن أخي) بنصب ابن منادى مضاف (ماذا ترى؟ فأخبره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما رأى) وفي بدء الوحي خبر ما رأى (فقال) له (ورقة هذا الناموس) جبريل صاحب سر الخير (الذي أنزل) بضم الهمزة (على موسى) بن عمران -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يقل عيسى مع كونه نصرانيًا لأن نزول جبريل عليه السلام متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يا ليتني فيها) في أيام النبوة ومدّتها (جذعًا) يعني شابًّا قويًا والجذع في الأصل للدواب فهو هنا استعارة وهو بالجيم المعجمة المفتوحتين وبالنصب بكان مقدّرة عند الكوفيين أو على الحال من الضمير في فيها وخبر ليت قوله فيها أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوّة لأنصرك وأبالغ في نصرتك (أكون) وفي بدء الوحي ليتني أكون (حيًّا حين يخرجك قومك) من مكة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أ) معاديّ (ومخرجيّ هم) بتشديد الياء المفتوحة وقال ذلك استبعادًا للإخراج وتعجبًا منه فيؤخذ منه كما قال السهيلي إن مفارقة الوطن على النفس شديدة لإظهاره عليه الصلاة والسلام الإنزعاج لذلك بخلاف ما سمعه من ورقة من إيذائهم وتكذيبهم له (فقال ورقة) له: (نعم) مخرجوك (لم يأت رجل قط بما) ولأبي ذر عن الكشميهني بمثل ما (جئت به) من الوحي (إلاَّ عودي) لأن الإخراج عن المألوف سبب لذلك (وإن يدركني يومك) بجزم يدركني بأن الشرطية ورفع يومك فاعل يدركني أي يوم انتشار نبوتك (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) من الإزر وهو القوة (ثم لم ينشب) بالشين المعجمة لم يلبث (ورقة أن توفي) بدل اشتمال من ورقة أي لم تلبث وفاته (وفتر الوحي) احتبس ثلاث سنين أو سنتين ونصفًا (فترة حتى حزن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر زاي حزن (فيما بلغنا) معترض بين الفعل ومصدره وهو (حزنًا) والقائل هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري من بلاغاته وليس موصولاً، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، والمعنى أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع في هذه القصة وهو عند ابن مردويه في التفسير بإسقاط قوله: فيما بلغنا ولفظه: فترة حزن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها حزنًا (غدا) بغين معجمة في الفرع من الذهاب غدوة، وفي نسخة عدا بالعين المهملة من العدو وهو الذهاب بسرعة (منه) من الحزن (مرارًا كي يتردّى) يسقط (من رؤوس شواهق الجبال) العالية (فكلما أوفى بذروة جبل) بكسر الذال المعجمة وتفتح وتضم أعلاه (لكي يلقي منه) من الجبل (نفسه) المقدسة إشفاقًا أن تكون الفترة لأمر أو سبب منه فتكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه ولم يرد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به أو حزن على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة، ولم يكن خوطب عن الله أنك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومبعوث إلى عباده.
وعند ابن سعد من حديث ابن عباس بنحو هذا البلاغ الذي ذكره الزهري، وقوله: مكث أيامًا بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى يريد أن يلقي نفسه (تبدى) ظهر الله جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا).
وفي حديث ابن سعد المذكور: فبينا هو عامد لبعض تلك الجبال إذ سمع
صوتًا فوقف فزعًا ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعًا يقول: يا محمد أنت رسول الله حقًّا وأنا جبريل (فيسكن لذلك جأشه) بالجيم ثم الهمزة الساكنة ثم الشين المعجمة اضطراب قلبه (وتقرّ) بكسر القاف في الفرع وفي غيره بفتحها (نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل) لكي يلقي منه نفسه (تبدى) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بدا أي ظهر (له جبريل فقال له مثل ذلك) يا محمد إنك رسول الله حقًّا.


تنبيه:
قال في فتح الباري: قوله هنا فترة حتى حزن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا هذا وما بعده من زيادة معمر على رواية عقيل ويونس وصنيع المؤلّف يوهم أنه داخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحمري في جمعه فساق الحديث إلى قوله وفتر الوحي، ثم قال: انتهى حديث عقيل المفرد عن ابن شهاب إلى حيث ذكرنا، وزاد عند البخاري في حديثه المقترن بمعمر عن الزهري فقال وفتر الوحي فترة حتى حزن فساقه إلى آخره.

قال الحافظ ابن حجر والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر فقد أخرج طريق عقيل أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه في أول الكتاب بدونه، وأخرجه مقرونًا هنا برواية معمر وبين أن اللفظ لمعمر وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر، وأخرجه أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم وأبو نعيم أيضًا من طريق جمع من أصحاب الليث عن الليث بدونها اهـ.

وقال عياض: إن قول معمر في فترة الوحي فحزن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا غدًا منه مرارًا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال لا يقدح في هذا الأصل أي ما قرره من عدم طريان الشك عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول معمر عنه فيما بلغنا ولم يسنده ولا ذكر رواته ولا من حدث به ولا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله، ولا يعرف مثل هذا إلا من جهته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنه قد يحمل على أنه كان أوّل الأمر أو أنه فعل ذلك لما أحرجه من تكذيب من بلغه كما قال تعالى: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: 6] اهـ.

وحاصله أنه ذكر أنه غير قادح من وجهين أحدهما: فيما يتعلق بالمتن من جهة قوله: فيما بلغنا حيث لم يسنده وأنه لا يعلم ذلك إلا من جهة المنقول عنه، والثاني: أنه أوّل الأمر أو أنه فعل ذلك لما أحرجه من تكذيب قومه وفيه بحث إذ عدم إسناده لا يوجب قدحًا في الصحة بل الغالب على الظن أنه بلغه من الثقات لأنه ثقة، لا سيما ولم ينفرد معمر بذلك كما بأن في إطلاق هذا النفي نظرًا فعند ابن إسحاق عن عبيد بن عمير أنه وقع في المنام نظير ما وقع له في اليقظة من الغط والأمر بالقراءة وغير ذلك.
قال في الفتح: وفي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتى يتوقعه نظر فالأولى ترك الجزم بأحد الأمرين.

قال الهروي: سبق وروينا أيضًا من طريق الدولابي مما في سيرة ابن سعيد الناس عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة الحديث وفيه: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي حتى حزن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا الخ.
فاعتضدت كل رواية الأخرى، وكل من الزهري ومعمر ثقة وعلى تقدير الصحة لا يكون قادحًا كما ذكره عياض، لكن لا بالنسبة إلى أنه في أول الأمر لاستقرار الحال فيه مدة بل بالنسبة إلى ما أحرجه من التكذيب إذ لا شيء فيه قطعًا بدليل قوله تعالى: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6] أي قاتل نفسك أسفًا وكان التعبير بقوله حصل له ذلك لما أحرجه أحسن من قوله فعل لأن الحزن حالة تحصل للإنسان يجدها من نفسه بسبب لا أنه من أفعاله الاختيارية.

وحديث الباب أخرجه المؤلّف في باب بدء الوحي.

(قال) ولأبي ذر وقال (ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله الطبري من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: { فالق الإصباح} [الأنعام: 96] الإصباح (ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل) واعترض على المؤلّف بأن ابن عباس فسر الإصباح لا لفظ فالق الذي هو المراد هنا، لأن المؤلّف ذكره عقب هذا الحديث لما وقع فيه فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والإصباح مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو فالق نور النهار.
نعم قال مجاهد كما سبق في تفسير { قل أعوذ برب الفلق} [الفلق: 1] الفلق: الصبح.
وأخرج الطبري عنه أيضًا في قوله فالق الإصباح.
قال: إضاءة الصبح، وعلى هذا فالمراد بفلق الصبح إضاءته فالله سبحانه وتعالى يفلق ظلام الليل عن غرّة الصباح فيضيء الوجود ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل، وقول ابن عباس هذا ثابت في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني وكذا النسفيّ، ولأبي زيد المروزي عن الفربري.