فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب رزق الحكام والعاملين عليها

باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينِ عَلَيْهَا
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا .

     وَقَالَتْ  عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِىُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

( باب رزق الحكام) جمع حاكم من إضافة المصدر إلى المفعول ( و) رزق ( العاملين عليها) على الحكومات أو العاملين على الصدقات، وصوّب بقرينة ذكر الرزق والعاملين والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين.
وقال في المغرب: الفرق بين الرزق والعطاء أن الرزق ما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين والعطاء ما يخرج له كل شهر.

( وكان شريح) بضم الشين المعجمة آخره حاء مهملة ابن الحارث بن قيس النخعي الكوفي ( القاضي) بالكوفة عن عمر بن الخطاب وهو من المخضرمين، بل قيل إن له صحبة روى ابن السكن أنه قال: أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن.
قال: جيء بهم.
قال: فجاء بهم والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قبض، وعنه أنه قال: وليت القضاء لعمر وعثمان وعليّ فمن بعدهم إلى أن استعفيت من الحجاج وكان له يوم استعفى مائة وعشرون سنة وعاش بعد ذلك
سنة.
وقال ابن معين: كان في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه ( يأخذ على القضاء أجرًا) بفتح الهمزة وسكون الجيم.

وهذا وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم ذهب الجمهور من أهل العلم من الصحابة وغيرهم لأنه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه وكره طائفة كراهة تنزيه منهم مسروق ورخص فيه الشافعي وأكثر أهل العلم، وقال صاحب الهداية من الحنفية: وإذا كان القاضي فقيرًا فالأفضل بل الواجب أخذ كفايته، وإن كان غنيًّا فالأفضل الامتناع عن أخذ الرزق من بيت المال رفقًا ببيت المال، وقيل الأخذ هو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظرًا لمن يأتي بعده من المحتاجين ويأخذ بقدر الكفاية له ولعياله، وعن الإمام أحمد لا يعجبني وإن كان فبقدر عمله مثل وليّ اليتيم.

( وقالت عائشة) -رضي الله عنها-: ( يأكل الوصي) من اليتيم ( بقدر عمالته) بضم العين وتخفيف الميم أجرة عمله بالمعروف بقدر حاجته وصله ابن أبي شيبة عنها في قوله تعالى: { ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] قالت: أنزل ذلك في مال اليتيم يقوم عليه بما يصلحه إن كان محتاجًا يأكل منه.

( وأكل أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- لما استخلف بعد أن قال كما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين وأسنده البخاري في البيوع وبقيته فيأكل آل أبي بكر من هذا المال ( و) كذا أكل ( عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- هو وأهله لما وليها، وقال فيما رواه ابن أبي شيبة وابن سعد: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف وسنده صحيح.


[ قــ :6782 ... غــ : 7163 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِىِّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى خِلاَفَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِى مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ عُمَرُ: مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأَرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِى أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْطِينِى الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَإِلاَّ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) بضم الشين المعجمة وفتح العين مصغرًا ابن أبي حمزة الحافظ أبو بشر الحمصي مولى بني أمية ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: ( أخبرني) بالإفراد ( السائب بن يزيد) من الزيادة ابن سعيد بن ثمامة الكندي أو
الأزدي الصحابي ابن الصحابي ( ابن أخت نمر) بفتح النون وكسر الميم بعدها راء ( ابن حويطب) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وبعد التحتية الساكنة طاء مهملة مكسورة فموحدة ( ابن عبد العزى) بضم العين المهملة وفتح الزاي المشددة الصنم المشهور العامري من مسلمة الفتح المتوفى بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة وله من العمر مائة وعشرون سنة ( أخبره أن عبد الله) بن عبد شمس أو اسم أبيه عمرو ( بن السعدي) واسمه وقدان وقيل له السعدي لأنه استرضع في بني سعد ( أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدّث) بضم الهمزة وفتح الحاء والدال المشددة المهملتين آخره مثلثة ( إنك تلي من أعمال الناس أعمالاً) بفتح الهمزة ولايات كإمرة وقضاء ( فإذا أعطيت العمالة) بضم العين أجرة العمل وبفتحها نفس العمل ( كرهتها فقلت) له: ( بلى) وفي الجزء الثالث من فوائد أبي بكر النيسابوري من طريق الخراساني عن عبد الله بن السعدي قال: قدمت على عمر فأرسل إليّ بألف دينار فرددتها وقلت أنا عنها غني ( فقال عمر) لي: ( ما) ولأبي ذر فما ( تريد إلى ذلك) أي ما غاية قصدك بهذا الرد؟ ( قلت) ولأبي الوقت فقلت ( إن لي أفراسًا وأعبدًا) بالموحدة المضمومة جمع عبد ولأبي ذر عن الكشميهني وأعتدا بالفوقية بدل الموحدة جمع عتيد مالاً مدّخرًا ( وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين) تفسير لقوله فما تريد ( قال) لي ( عمر: لا تفعل) ذلك الرد ( فإني كنت أردت) بالضم ( الذي أردت) بالفتح من الردّ ( وكان) وفي اليونينية فكان ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطيني العطاء) من المال الذي يقسمه في المصالح ( فأقول) يا رسول الله ( أعطه) بقطع الهمزة المفتوحة ( أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالاً فقلت أعطه أفقر إليه مني) وضبب في اليونينية على قوله حتى أعطاني مرة مالاً الخ ( فقال النبي) ولأبي ذر له النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( خذه فتموّله وتصدّق به) أمر إرشاد على الصحيح وهو يدل على أن التصدق به إنما يكون بعد القبض لأنه إذا ملك المال وتصدق به طيبة به نفسه كان أفضل من التصدق به قبل قبضه لأنه الذي يحصل بيده هو أحرص مما لم يدخل في يده ( فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف) بضم الميم وسكون المعجمة بعدها راء مكسورة ففاء غير طامع ولا ناظر إليه ( ولا سائل) ولا طالب له ( فخذه) ولا تردّه ( وإلاّ فلا تتبعه نفسك) بضم الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحدة وسكون العين أي إن لم يجئ إليك فلا تطلبه بل اتركه إلا لضرورة، والأصح تحريم الطلب على القادر على الكسب، وقيل يباح بشرط أن لا يذل نفسه ولا يلح في الطلب ولا يؤذي المسؤول، فإن فقد شرط من هذه الثلاثة حرم اتفاقًا.

وهذا الحديث فيه أربعة من الصحابة، وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود في الزكاة.




[ قــ :678 ... غــ : 7164 ]
- وَعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْطِينِى الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالاً
فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».

( وعن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق أنه ( قال: حدّثني) بالإفراد ( سالم بن عبد الله أن) أباه ( عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر) -رضي الله عنه- زاد أبو ذر ابن الخطاب ( يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطيني العطاء فأقول أعطه) بقطع الهمزة ( أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالاً فقلت) له يا رسول الله ( أعطه من) أي الذي ( هو أفقر إليه مني) .
قال في الكواكب: فصل بين أفعل وبين كلمة من لأن الفاصل ليس أجنبيًّا بل هو ألصق به من الصلة لأنه محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ والصلة محتاج إليها بحسب الصيغة ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( خذه فتموّله وتصدق به) على مستحقه.
قال ابن بطال: أشار -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عمر بالأفضل لأنه وإن كان مأجورًا بإيثاره لعطائه على نفسه من هو أفقر إليه فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظم فضل الصدقة بعد التموّل لما في النفوس من الشح على المال ( فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف) ناظر إليه ( ولا سائل) له ( فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) وزاد سالم في رواية مسلم فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا ولا يرد شيئًا أُعطيه.

قال في الفتح: وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يرد ما فيه شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان المختار غلب على الكوفة وطرد عمال عبد الله بن الزبير وأقام أميرًا عليها مدة في غير طاعة خليفة وتصرف فيما يتحصل منها من المال على ما يراه، ومع ذلك فكان ابن عمر يقبل هداياه وكان مستنده أن له حقًّا في بيت المال فلا يضره على أي كيفية يصل إليه أو كان يرى أن التَّبِعَة على الآخذ الأول وأن للمعطي المذكور مالاً أخر في الجملة وحقًّا في المال المذكور، فلما لم يتميز وأعطاه له عن طيب نفس دخل في عموم قوله ما أتاك من هذا المال من غير سؤال ولا استشراف فخذه فرأى أنه لا يستثنى من ذلك إلا ما كان حرامًا محضًا اهـ.