فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، فإن قضاء الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا

باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِلُّ حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلاً
( باب من قضي له) بضم القاف وكسر المعجمة ( بحق أخيه) أي خصمه مسلمًا كان أو ذميًّا أو معاهدًا أو مرتدًّا فالأخوة باعتبار البشرية ( فلا يأخذه فإن قضاء الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً) .


[ قــ :6797 ... غــ : 7181 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِى سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا».

وبه قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي الفقيه قال: ( حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ( عن صالح) أي ابن كيسان ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( عروة بن الزبير) بن العوّام ( أن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت ( أبي سلمة أخبرته أن أم سلمة) هند ( زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرتها عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سمع خصومة بباب حجرته) منزل أم سلمة، وعند أبي داود من طريق عبد الله بن رافع عن أم سلمة أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلان يختصمان في مواريث لهما لم يكن لهما بيّنة إلا دعواهما.
وفي رواية له قال: يختصمان في مواريث وأشياء قد درست وعند عبد الرزاق في مصنفه أنها كانت في أرض هلك أهلها وذهب من يعلمها ولم يسم المختصمين ( فخرج إليهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فقال) :
( إنما أنا بشر) أي إنسان وسمي به لظهور بشرته دون ما عداه من الحيوان أي إنما أنا بشر مشارك لكم في البشرية بالنسبة لعلم الغيب الذي لم يطلعني الله عليه وقال ذلك توطئة لقوله ( وإنه يأتيني الخصم) فلا أعلم باطن أمره ( فلعل) بالفاء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ولعل ( بعضكم أن يكون أبلغ) أفصح في كلامه وأقدر على إظهار حجته ( من بعض فأحسب) بكسر السين وتفتح ( أنه صادق) وهو في الباطن كاذب ( فأقضي) فأحكم ( له بذلك) الذي ادّعاه لظني صدقه ( فمن قضيت له بحق مسلم) ذكر المسلم ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم عند كل أحد فذكر المسلم تنبيهًا على أنه في حقه أشد ( فإنما هي) أي الحكومة أو الحالة ( قطعة من النار) تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه ( فليأخذها أو ليتركها) أمر تهديد لا تخيير فهو كقوله: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] كذا قرره النووي وغيره.
وتعقب بأنه إن أريد به أن كلاًّ من الصيغتين للتهديد فممنوع فإن قوله: أو ليتركها
للوجوب في كلام طويل سبق في كتاب المظالم فليراجع، فحكم الحاكم ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو قضى بشيء رتب على أصل كاذب بأن كان باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره نفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنًا سواء المال والنكاح وغيرهما.
أما المرتب على أصل صادق فينفذ القضاء فيه باطنًا أيضًا قطعًا إن كان في محل اتفاق المجتهدين، وعلى الأصح عند البغوي وغيره إن كان في محل اختلافهم وإن كان الحكم لمن لا يعتقده لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع، فلو قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار أو بالإرث بالرحم حل له الأخذ به وليس للقاضي منعه من الأخذ بذلك ولا من الدعوى به إذا أرادها اعتبارًا بعقيدة الحاكم ولأن ذلك مجتهد فيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره، ولهذا أجاز للشافعي أن يشهد بذلك عند من يرى جوازه وإن كان خلاف اعتقاده، ولو حكم القاضي بشيء وأقام المحكوم عليه بيّنة تنافي دعوى المحكوم له سمعت وبطل الحكم.
وفي الحديث حجة على الحنفية حيث ذهبوا إلى أنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ حتى لو قضى بنكاح امرأة بشاهدي زور حلّ وطؤها.

وأجاب بعض شرّاح المشارق منهم عن الحديث بأن قوله في الرواية الأخرى فأقضي له بنحو ما أسمع منه ظاهرًا يدل على أن ذلك فيما كان بسماع الخصم من غير أن يكون هناك بيّنة أو يمين وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في القضاء بشهادة الزور بأن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فمن قضيت له بحق مسلم" الخ.
شرطية وهي لا تقتضي صدق المقدّم فيكون من باب فرض المحال نظرًا إلى عدم جواز إقراره على الخطأ، ويجوز ذلك إذا تعلق به غرض كما في قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] والغرض فيما نحن فيه التهديد والتقريع على اللسن والإقدام على تلحين الحجج في أخذ أموال الناس، وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ وإلاّ فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه وظاهر الحديث يخالف ذلك فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن يستلزم التقرير على الخطأ وهو باطل اهـ.

وأجيب عن الأول: بأنه خلاف الظاهر وكذا الثاني وأما الثالث فإن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل بالشهادة وبالإيمان وإلاّ لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك.

وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك وحديث إني لم أومر بالتنقيب على قلوب الناس، وحينئذ فالحجة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر الأموال والعقود والفسوخ، ومن ثم قال الشافعي: إنه لا فرق في دعوى حلّ الزوجة لمن أقام بتزويجها شاهدي زور وهو يعلم بكذبهما وبين من ادّعى على حر أنه ملكه وأقام بذلك
شاهدي زور وهو يعلم حريته فإذا حكم له حاكم بأنه ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع.
وقال القرطبي: شنعوا على القائل بذلك قديمًا وحديثًا لمخالفته للحديث الصحيح ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج وهي أحق أن يحتاط لها وتصان اهـ.

والحديث سبق في المظالم والشهادات والأحكام.




[ قــ :6798 ... غــ : 718 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِى: قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِى كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ.

     وَقَالَ  عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: «احْتَجِبِى مِنْهُ» لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ تَعَالَى.

وبه قال: ( حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: ( حدّثني) بالإفراد ( مالك) هو ابن أنس الإمام الأعظم ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن عروة بن الزبير) بن العوّام ( عن عائشة) -رضي الله عنها- ( زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص) بضم العين وسكون المثناة الفوقية بعدها موحدة ووقاص بتشديد القاف آخره مهملة وعتبة هو الذي كسر ثنية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وقعة أُحُد ومات كافرًا ( عهد) أي أوصى ( إلى أخيه سعد بن أبي وقاص) أحد العشرة ( أن ابن وليدة زمعة) بن عليّ بفتح الزاي وسكون الميم وتفتح بعدها عين مهملة مفتوحة أي جاريته ولم تسم واسم ولدها عبد الرحمن بن زمعة ( مني فاقبضه إليك) بهمزة وصل وكسر الموحدة قالت عائشة ( فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال) : هو ( ابن أخي) عتبة ( قد كان عهد إليّ فيه) أن أستلحقه به ( فقام إليه) إلى سعد ( عبد بن زمعة فقال) : هو ( أخي وابن وليدة أبي) أي وابن جاريته ( ولد على فراشه فتساوقا) من التساوق وهو مجيء واحد بعد واحد ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال سعد: يا رسول الله) هذا ( ابن أخي) عتبة ( كان عهد إليّ فيه) أن أستلحقه به ( وقال عبد بن زمعة) هو ( أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( هو) أي الولد ( لك) أي أخوك ( يا عبد بن زمعة) بضم عيد اسم علم منادى وابن زمعة نعت واجب النصب لأنه مضاف وعبد يجوز فتحه لأنه منعوت بابن مضاف إلى علم ( ثم قال رسول الله: الولد للفراش) أي لصاحب الفراش زوجًا كان أو سيدًا حرة كانت أو أمة لكن الحنفية يخصونه بالحرة ويقولون إن ولد الأمة المستفرشة لا يلحق سيدها ما لم يقر به ( وللعاهر) أي الزاني ( الحجر) أي الخيبة ولا حق له في الولد أو الرجم بالحجارة وضعف بأنه لا يرجم بالحجر إلا إذا
كان محصنًا ( ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( لسودة بنت زمعة) أم المؤمنين -رضي الله عنها-: ( احتجبي منه) أي من ابن زمعة المتنازع فيه ندبًا للاحتياط وقد ثبت نسبه وأخوته لها في ظاهر الشرع ( لما) بالتخفيف ( رأى) عليه السلام ( من شبهه بعتبه فما رآها) عبد الرحمن ( حتى لقي الله تعالى) .

ومناسبة الحديث لسابقه أن الحكم بحسب الظاهر حيث حكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة، ثم لما رأى شبهه بعتبة أمر سودة أن تحتجب منه احتياطًا، فأشار البخاري إلى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد ولا هو من نوادر الاختلاف.

والحديث سبق في البيوع والمحاربين والفرائض.