فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم

باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ»
( باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى: ( بعثت بجوامع الكلم) .
وروى العسكري في الأمثال من طريق سليمان بن عبد الله النوفلي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي الكلام اختصارًا وهو مرسل وفي سنده من لم أعرفه، وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعًا مثله، لكن بلفظ: أعطيت الحديث بدل الكلم، وعند البيهقي في الشعب نحوه فكل كلمة يسيرة جمعت معاني كثيرة فهي من جوامع الكلم والاختصار هو الاقتصار على ما يدل على الغرض مع حذف أو إضمار والعرب لا يحذفون ما لا دلالة عليه ولا صلة إليه، لأن حذف ما لا دلالة عليه مُنافٍ لغرض وضع الكلام من الإفادة والإفهام وفائدة الحذف تقليل الكلام، وتقريب معانيه إلى الأفهام، والحذف أنواع.
أحدها: حذف المضافات وله أمثلة كثيرة منها نسبة التحليل والتحريم والكراهة والإيجاب والاستحباب إلى الأعيان فهذا من مجاز الحذف إذ لا يتصور تعلق الطلب بالإجرام وإنما تطلب أفعال تتعلق بها فتحريم الميتة تحريم لأكلها وتحريم الخمر تحريم لشربها، وأدلة الحذف أنواع منها ما يدل العقل على حذفه والمقصود الأعظم يرشد إلى تعيينه وله مثالان:
أحدهما قوله: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] .

الثاني: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] فإن العقل يدل على الحذف إذ لا يصح تحريم الإجرام، والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرّم عليكم أكل الميتة حرم عليكم نكاح أمهاتكم.

ومباحث هذا طويلة جدًّا لا نطيل بإيرادها.
وللشيخ عز الدّين بن عبد السلام مجاز القرآن لخصت منه ما تراه سقى الله بالرحمة ثراه.


[ قــ :6883 ... غــ : 7273 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.

وبه قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي الفقيه قال: ( حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( بعثت بجوامع الكلم) سبق في باب المفاتيح في اليد من كتاب التعبير قال محمد: وبلغني أن جوامع الكلم أن الله تعالى يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك، وأن في رواية أبي ذر قال أبو عبد الله بدل قوله محمد فقيل المراد البخاري وصوب ورجح الحافظ ابن حجر أنه محمد بن مسلم الزهري وأن غير الزهري جزم بأن المراد بجوامع الكلم القرآن بقرينة قوله بعثت والقرآن هو الغاية القصوى في إيجاز اللفظ واتساع المعاني قد بهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول أعجز بإعجازه فرسان البلاغة البارعة، وفرق بجوامع كلمه ذوي الألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة.
وكانوا قدحًا ولوا الإتيان ببعض شيء منه فما أطاقوه وراموا ذلك فما استطاعوه إذ رأوه نظمًا عجيبًا خارجًا عن أساليب كلامهم ووصفًا بديعًا مباينًا لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته، ولما سمع المغيرة بن الوليد من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية قال والله ان له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وسمع أعرابي رجلاً يقرأ [فاصدع بما تؤمر} [الحجر: 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أُولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة: 179] وقوله: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} [سبأ: 51] وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصّلت: 34] وقوله: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} [هود: 44] الآية.

قال القاضي عياض: إذا تأملت هذه الآيات وأشباهها حققت إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كلمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة وعلومًا زواخر ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في المستنبطات عنها، وقد حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك.
فقالت: أو تعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين ومن أمثلة جوامع كلمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الواردة في الأحاديث حديث "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وليس الخبر كالمعاينة والبلاء موكل بالمنطق وأي داء أدوأ من البخل وحبك الشيء يعمي ويصمّ إلى غير ذلك مما يعسر استقصاؤه ويدلك على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حاز من الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يرقاها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره.
وفي كتابي المواهب من ذلك ما يشفي ويكفي.
قال ابن المنير: ولم يتحد من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز وهل فصاحته عليه الصلاة والسلام في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السُّنَّة تحدَّى بها أم لا وظاهر قوله أوتيت جوامع الكلم أنه من التحدّث بنعمة الله وخصائصه كقوله:
( ونصرت بالرعب) بضم الراء أي الخوف يقذف في قلوب أعدائي زاد في التيمم مسيرة شهر وجعل الغاية مسيرة الشهر لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه ( وبينا) بغير ميم ( أنا نائم رأيتني) رأيت نفسي ( أتيت) بغير واو بعد الهمزة وفي باب رؤيا الليل من التعبير بإثباتها ( بمفاتيح خزائن الأرض) كخزائن كسرى أو معادن الذهب والفضة ( فوضعت في يدي) بالإفراد حقيقة أو مجازًا فيكون كناية عن وعد الله بما ذكر أنه يعطيه أمته.

( قال أبو هريرة) بالسند السابق إليه ( فقد ذهب) أي فتوفي ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنتم تلغثونها) بفوقية مفتوحة فلام ساكنة فغين معجمة مفتوحة فمثلثة مضمومة وبعد الواو الساكنة نون فهاء فألف من اللغيث بوزن عظيم طعام مخلوط بشعير كذا في المحكم عن ثعلب أي تأكلونها كيفما اتفق ( أو) قال ( ترغثونها) بالراء بدل اللام من الرغث كناية عن سعة العيش وأصله من رغث الجدي أمه إذا ارتضع منها وأرغثته هي أرضعته قاله القزاز والشك من الراوي أي وأنتم ترضعونها ( أو) قال ( كلمة تشبهها) أي تشبه إحدى الكلمتين المذكورتين نحو ما سبق في التعبير تنتثلونها بالمثلثة وتاء الافتعال أي تستخرجونها.

والحديث من أفراده.




[ قــ :6884 ... غــ : 774 ]
-
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلاَّ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وبه قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال: ( حدّثنا الليث) بن سعد الإمام الفهمي المصري ( عن سعيد) بكسر العين ( عن أبيه) أبي سعيد كيسان المقبري ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما) أي الذي ( مثله أومن) بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة فميم مكسورة فنون مفتوحة من الأمن ( أو) قال: ( آمن) بفتح الهمزة والميم من الإيمان ( عليه) أي لأجله ( البشر وإنما كان) معظم المعجز ( الذي أوتيت) بحذف الضمير المنصوب ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني أوتيته أي من المعجزات ( وحيًا أوحاه الله إليّ) وهو القرآن العظيم لكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه فقال تعالى: { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9] وسائر معجزات غيره من الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العظيم الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه من وقت نزوله إلى هذا الزمن مدة تسعمائة سنة وست عشرة سنة حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة باهرة ولذا رتب عليه قوله ( فأرجو أني أكثرهم) أكثر الأنبياء ( تابعًا يوم القيامة) لأن بدوام المعجزة يتجدد الإيمان ويتظاهر البرهان وتابعًا نصب على التمييز.

والحديث مرّ في فضائل القرآن.