فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس

باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ
{ وَلاَ تَقْفُ} [الإسراء: 46] لاَ تَقُلْ { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] .

( باب ما يذكر من ذم الرأي) أي الذي على غير أصل من كتاب أو سُنّة أو إجماع ( وتكلف القياس) الذي لا يكون على هذه الأصول فإن كان الرأي على أصل منها فمحمود غير مذموم وكذا القياس ( { ولا تقف} [الإسراه: 36] ) بفتح الفوقية وسكون القاف أي ( لا تقل { ما ليس لك به علم} [الإسراه: 46] ) .
قاله ابن عباس فيما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه، واحتج به المؤلف لما ذكره من ذم التكلف، وسقط قوله لا تقل لأبي ذر.
وقال العوفي عن ابن عباس: لا تذم أحدًا بما ليس لك به علم، وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور.
وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن الله سائلك عن ذلك كله، ولا يصح التشبث به لمبطل الاجتهاد لأن ذا نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات أقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات.


[ قــ :6916 ... غــ : 7307 ]
- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ».
فَحَدَّثْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِى انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِى مِنْهُ الَّذِى حَدَّثْتَنِى عَنْهُ فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِى بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِى فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.

وبه قال: ( حدّثنا سعيد بن تليد) بفتح الفوقية وكسر اللام بوزن عظيم هو سعيد بكسر العين ابن عيسى بن تليد نسبه إلى جده قال: ( حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع ( ابن وهب) عبد الله قال: ( حدّثني) بالإفراد ( عبد الرحمن بن شريح) بضم المعجمة وفتح الراء بعدها تحتية ساكنة فمهملة الإسكندراني ( وغيره) قال الحافظ أبو ذر الهروي: هو عبد الله بن لهيعة وأبهمه المصنف -رحمه الله- لضعفه عنده واعتمد على عبد الرحمن بن شريح ( عن أبي الأسود) محمد بن عبد الرحمن ( عن عروة) بن الزبير أنه ( قال: حج) مارًّا ( علينا عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم ( فسمعته يقول؟ سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( إن الله لا ينزع العلم) من الناس ( بعد أن أعطاهموه انتزاعًا) نصب على المصدرية ولأبي ذر عن الحموي أعطاكموه بالكاف بدل الهاء ( ولكن ينتزعه منهم) أو منكم بالكاف ( مع قبض العلماء بعلمهم) فيه نوع قلب والتقدير ولكن ينتزعه بقبض العلماء مع علمهم أو المراد بعلمهم بكتبهم بأن يمحى العلم من الدفاتر وتبقى مع على المصاحبة ( فيبقى ناس جهّال) بفتح التحتية والقاف من فيبقى ( يستفتون) بفتح الفوقية قبل الواو الساكنة أي تطلب منهم الفتوى ( فيفتون) بضم التحتية والفوقية ( برأيهم فيضلون) بضم التحتية ( ويضلون) بفتحها قال عروة: ( فحدّثت عائشة) ولأبوي الوقت وذر فحدّثت به عائشة ( زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد) أي بعد ذلك السنة أو الحجة ( فقالت) له عائشة ( يا ابن أختي) أسماء بنت أبي بكر ( انطلق إلى عبد الله) بن عمرو ( فاستثبت لي منه الذي حدّثتني عنه) بسكون المثلثة، وفي مسلم قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مارّ بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمًا كثيرًا.
قال عروة ( فجئته) أي جئت عبد الله بن عمرو ( فسألته) عن ذلك ( فحدّثني به كنحو ما حدّثني) في المرة الأولى ( فأتيت عائشة) -رضي الله عنها- ( فأخبرتها) بذلك ( فعجبت) لكونه ما غيّر حرفًا عنه ( فقالت: والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو) وفي رواية سفيان بن عيينة عند الحميدي قال عروة: ثم لبثت سنة ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف فسألته فأخبرني.
قال في الفتح: فأفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان بمكة، وكأن عروة كان حج في تلك السنة من المدينة وحج عبد الله من مصر فبلغ عائشة، ويكون قولها قد قدم أي من مصر طالبًا مكة لا أنه قدم المدينة إذ لو دخلها للقيه عروة بها، ويحتمل أن تكون عائشة حجّت تلك السنة وحجّ معها عروة فقدم عبد الله بعد فلقيه بأمر عائشة، وعند أحمد عن ابن مسعود قال: هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهاب العلماء.
واستدلّ بالحديث على جواز خلوّ الزمان عن مجتهد وهو قول الجمهور خلافًا لأكثر الحنابلة وبعد من غيرهم لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد، وعورض هذا بحديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله.
وأجيب: بأنه ظاهر في عدم الخلو لا في نفي الجواز وبأن الدليل الأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة ورفعه أخرى بخلاف الثاني.

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فيفتون برأيهم.
والحديث سبق في باب كيف يقبض العلم من كتاب العلم، وأخرجه مسلم في القدر والترمذي في العلم وابن ماجة في السُّنّة.




[ قــ :6917 ... غــ : 7308 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ سَمِعْتُ الأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: ح.

وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنَّ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ قَالَ:.

     وَقَالَ  أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ.

وبه قال: ( حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان وعبدان لقبه قال: ( أخبرنا أبو حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري قال: ( سمعت الأعمش) سليمان بن مهران ( قال: سألت أبا وائل) شقيق بن سلمة ( هل شهدت) وقعة ( صفين) التي كانت بين علي ومعاوية ( قال: نعم) حضرتها ( فسمعت سهل بن حنيف) بضم الحاء وفتح النون ( يقول: ح) لتحويل السند إلى آخر.

قال البخاري: ( وحدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي الحافظ قال: ( حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري ( عن الأعمش عن أبي وائل) أنه ( قال: قال سهل بن حنيف) -رضي الله عنه- يوم صفين وقد كانوا يتهمونه بالتقصير في القتال يومئذ ( يا أيها الناس اتهموا رأيكم) في هذا القتال ( على دينكم) فإنما تقاتلون إخوانكم في الإسلام باجتهاد اجتهدتموه.
وقال في الفتح: أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين.
وقال ابن بطال: وهذا وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضًا للنص فكأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السُّنَّة ( لقد رأيتني) أي رأيت نفسي ( يوم أبي جندل) بفتح الجيم والدال المهملة بينهما نون ساكنة آخره لام ابن سهيل بن عمرو إذ جاء يوسف في قيوده يوم الحديبية سنة ست عند كتب الصلح على وضع الحرب عشر سنين، ومن أتى من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم ( ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إذ ردّ أبا جندل إلى قريش لأجل الصلح ( لرددته) وقاتلت قريشًا قتالاً لا مزيد له، فكما توقفت يوم الحديبية من أجل أني لا أخالف حكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة المسلمين، وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه: اتقوا الرأي في دينكم أخرجه البيهقي في المدخل وأخرجه هو والطبراني مطوّلاً بلفظ: اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برأيي اجتهادًا فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تراني أرضى وتأبى.

والحاصل كما قال في فتح الباري: إن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول إمامنا الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت
الشافعي يقول: القياس عند الضرورة ومع ذلك فليس القائل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ وبالله التوفيق، ولأبي ذر: ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه لرددته.

( وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا) في الله ( إلى أمر يفظعنا) بضم التحتية وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة يوقعنا في أمر فظيع أي شديد في القبح ( إلا أسهلن) أي السيوف ملتبسة ( بنا) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة واللام بينهما هاء مفتوحة آخره نون أي لا أفضين بنا، ولأبي ذر عن الكشميهني إلا أسهلن بها ( إلى أمر) سهل ( نعرفه) حالاً ومآلاً فأدخلتنا فيه ( غير هذا الأمر) الذي نحن فيه فإنه مشكل حيث عظمت المصيبة بقتل المسلمين وشدة المعارضة من حجج الفريقين إذ حجّة عليّ وأتباعه ما شرع من قتال أهل البغي حتى يرجعوا إلى الحق، وحجة معاوية وأتباعه قتل عثمان ظلمًا ووجود قتلته بأعيانهم في العسكر العراقي فعظمت الشبهة حتى اشتد القتال إلى أن وقع التحكيم فكان ما كان.

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: اتهموا رأيكم على دينكم ونسب اليوم إلى أي جندل لا إلى الحديبية لأن ردّه إلى المشركين كان شاقًّا على المسلمين وكان ذلك أعظم ما جرى عليهم من سائر الأمور وأرادوا القتال بسببه وأن لا يردوا أبا جندل ولا يرضوا بالصلح.

والحديث سبق في كتاب الجزية.

( قال) الأعمش سليمان بالسند السابق ( وقال أبو وائل) : شقيق بن سلمة ( شهدت) أي حضرت وقعة ( صفين) بكسر الصاد المهملة والفاء المشددة بعدها تحتية ساكنة فنون لا ينصرف للعلمية والتأنيث بقعة بين الشام والعراق بشاطئ الفرات ( وبئست صفون) بضم الفاء بعدها واو بدل الياء أي بئست المقاتلة التي وقعت فيها وإعراب الواقع هنا كإعراب الجمع في نحو قوله تعالى: { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما إدراك ما عليون} [المطففين: 18، 19] والمشهور إعرابه بالنون والتحتية ثابتة في أحواله الثلاثة تقول: هذا صفين برفع النون ورأيت صفين ومررت بصفين بفتح النون فيهما.
قال في الفتح: ولأبي ذر شهدت صفين وبئست صفين بالتحتية فيهما ولغيره الثاني بالواو وفي رواية النسفيّ مثله، لكن قال: بئست الصفون بزيادة الألف واللام وبعضهم فتح الصاد والفاء مكسورة مشددة اتفاقًا والله أعلم.