فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} [الجن: 26]، و {إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34]، و {أنزله بعلمه} [النساء: 166]، {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11]، {إليه يرد علم الساعة} [فصلت: 47]

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] وَ { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وَ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَ { مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47] .

قَالَ يَحْيَى الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا.

( باب قول الله تعالى: { عالم الغيب} ) خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم الغيب ( { فلا يظهر} ) فلا يطلع ( { على غيبه أحدًا} [الجن: 26] ) من خلقه إلا من ارتضى من رسول أي إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإنه يطلعه على غيبه ما شاء ومن رسول بيان لمن ارتضى.
قال في الكشاف: وفي هذه الآية إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب اهـ.

وأجيب: بأن قوله على غيبه لفظ مفرد ليس فيه صيغة العموم فيكفي أن يقال: إن الله لا يظهر على غيب واحد من غيوبه أحدًا إلا الرسل فيحمل على وقت وقوع القيامة فكيف وقد ذكرها عقب قوله أقريب أم بعيد ما توعدون؟ وتعقب بأنه ضعيف لأن الرسل أيضًا لم يظهروا على ذلك.

وقال البيضاوي: جوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون من غير واسطة وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيًا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء.

وقال الطيبي: الأقرب تخصيص الاطلاع بالضعف والخفاء فإن اطلاع الله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على الغيب أمكن وأقوى من إطلاعه الأولياء يدل على حرف الاستعلاء في قوله: على غيبه فضمن يظهر معنى يطلع أي فلا يظهر الله على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا من ارتضى من رسول، فإن الله تعالى إذا أراد أن يطلع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغيب يوحي إليه أو يرسل إليه الملك.
وأما كرامات الأولياء فهي من قبيل التلويحات واللمحات أو من جنس إجابة دعوة وصدق فراسة فإن كشف الأولياء غير تام كالأنبياء.

( و) باب قول الله تعالى: ( { إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] ) أي وقت قيامها ( و) قوله تعالى: ( { أنزله بعلمه} [النساء: 166] ) أي أنزله وهو عالم بأنك أهل بإنزاله إليك وأنك مبلغه أو أنزله بما علم من مصالح العباد وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم وقوله تعالى: ( { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11] ) هو في موضع الحال أي إلا معلومة له، وقوله تعالى: ( { إليه يردّ علم الساعة} [فصلت: 47] ) أي علم قيامها يردّ إليه أي يجب على المسؤول أن يقول الله أعلم بذلك.

( قال يحيى بن زياد) : الفراء المشهور في كتاب معاني القرآن له ( الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا) وقال غيره: الظاهر الجلي وجوده بآياته الباهرة في أرضه وسمائه والباطن المحتجب كنه ذاته عن نظر العقل بحجب كبريائه، وقيل الظاهر بالقدرة والباطن عن الفكرة، وقيل الظاهر بلا اقتراب والباطن بلا احتجاب.
وقال الشيخ أبو حامد: اعلم أنه إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره وظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره، وقيل: الظاهر بنعمته
والباطن برحمته.
وقيل: الظاهر بما يفيض عليك من العطاء والنعماء، والباطن بما يدفع عنك من البلاء.
وقيل: الظاهر لقوم فلذلك وحّدوه والباطن عن قوم فلذلك جحدوه.


[ قــ :6985 ... غــ : 7379 ]
- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ».

وبه قال: ( حدّثنا خالد بن مخلد) القطواني الكوفي قال: ( حدّثنا سليمان بن بلال) أبو محمد مولى الصديق قال: ( حدّثني) بالإفراد ( عبد الله بن دينار) المدني مولى ابن عمر ( عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله) أي أنه تعالى يعلم ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالإغلاق والإقفال، ومن علم مفاتيحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها لا يتوصل إليها غيره فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها والحكمة في كونها خمسًا الإشارة إلى حصر العوالم فيها فأشار إلى ما يزيد في النفس وينقص بقوله: ( لا يعلم ما تغيض الأرحام إلاَّ الله) أي ما تنقصه يقال غاض الماء وغضته أنا وما تزداد أي ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وعدد فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة، أو جسد الولد فإنه يكون تامًّا ومخدجًا أو مدة الولادة فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى أربع عند الشافعي، وإلى سنتين عند الحنفية، وإلى خمس عند مالك، وخص الرحم بالذكر لكون أكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك نفى أن يعرف أحد حقيقتها نعم إذا أمر بكونه ذكرًا أو أنثى أشقيًا أو سعيدًا علم به الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه.

وأشار إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث بقوله: ( ولا يعلم ما في غد) من خير وشر وغيرهما ( إلاّ الله) وعبّر بلفظ غد لأن حقيقته أقرب الأزمنة وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه فما بعده أحرى.

وأشار إلى العالم العلوي بقوله: ( ولا يعلم متى يأتي المطر) ليلاً أو نهارًا ( أحد إلا الله) نعم إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء الله من خلقه.

وأشار إلى العالم السفلي بقوله: ( ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله) أي أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها.
وقالت: لا أبرح منها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت
في مكان لم يخطر ببالها كما روي أن ملك الموت مرّ على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت.
فقال: كأنه يريدني فمرّ الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال ملك الموت: كان دوام نظري تعجبًا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

وفي الطبراني الكبير عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة وإنما جعل العلم لله والدراية للعبد" لأن في الدراية معنى الحيلة، والمعنى أنها أي النفس لا تعرف وإن أعملت حيلتها ما يختص بها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد، وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيب والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيبًا على أنه مجرد الظن والظن غير العلم والله تعالى أعلم.

وأشار إلى علوم الآخرة بقوله: ( ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) فلا يعلم ذلك نبي مرسل ولا ملك مقرّب.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، والحديث سبق في آخر الاستسقاء.




[ قــ :6986 ... غــ : 7380 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ وَهْوَ يَقُولُ: { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهْوَ يَقُولُ: ( لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) .

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفريابي الضبي مولاهم محدّث قيسارية قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن إسماعيل) بن أبي خالد البجلي ( عن الشعبي) عامر بن شراحيل أحد الأعلام قال: أدركت خمسمائة من الصحابة وما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدّثت بحديث إلا حفظته ( عن مسروق) أي ابن الأجدع ( عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها ( قالت: من حدّثك أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى ربه) ليلة المعراج ( فقد كذب) قالته رأيًا باجتهادها لقوله: ( وهو) أي الله تعالى ( يقول) في سورة الأنعام: ( { لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] ) وأجاب المثبتون بأن معنى الآية لا تحيط به الأبصار أو لا تدركه الأبصار وإنما يدركه المبصرون أو لا تدركه في الدنيا لضعف تركيبها في الدنيا فإذا كان في الآخرة خلق الله تعالى فيهم قوة يقدرون بها على الرؤية، وفي كتابي المواهب من مباحث ذلك ما يكفي.

( ومن حدّثك أنه يعلم الغيب فقد كذب) والضمير في أنه يعلم للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعطفه على قوله: من حدثك أن محمدًا وصرح به فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد ربه بن سعد عن داود عن أبي هند عن الشعبي بلفظ: أعظم الفرية على الله من قال إن محمدًا رأى ربه وأن
محمدًا كتم شيئًا من الوحي وأن محمدًا يعلم ما في غد ( وهو) تعالى ( يقول: ( لا يعلم الغيب إلا الله) ) والآية { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] وجاز مثل ذلك لأنه ليس الغرض القراءة ولا نقلها وقول الداودي ما أظن قوله في هذا الطريق من حدّثك أن محمدًا يعلم الغيب محفوظًا وما أحد يدعي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعلم من الغيب إلا ما علمه الله متعقب بأن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن ذلك حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي جميع المغيبات، ففي مغازي ابن إسحاق أن ناقته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضلت فقال ابن الصليت بالصاد المهملة آخره مثناة بوزن عظيم: يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن رجلاً يقول كذا وكذا وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا قد حبستها شجرة فذهبوا فجاؤوا بها فأعلم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، والغرض من الباب إثبات صفة العلم وفيه ردّ على المعتزلة حيث قالوا: إنه عالم بلا علم.

قال العبري: وكتبهم شاهدة بتعليل عالمية الله تعالى بالعلم كما يقول به أهل السُّنَّة لكن النزاع في أن ذلك العلم المعلل به هل هو عين الذات كما يقول المعتزلة أو لا كما يقول أهل السُّنّة ثم إن علمه تعالى شامل لكل معلوم جزئيات وكليات قال تعالى: { أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 1] أي علمه أحاط بالمعلومات كلها.
وقال تعالى: { عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة} [سبأ: 3] الآية.
وأطبق المسلمون على أنه تعالى يعلم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وأن معلوماته لا تدخل تحت العلة والإحصاء وعلمه محيط بها جملة وتفصيلاً، وكيف لا وهو خالقها ألا يعلم من خلق، وضلت الفلاسفة حيث زعموا أنه يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي.

وحديث الباب سبق في التفسير.