فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {وهو العزيز الحكيم} [إبراهيم: 4]، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180]، {ولله العزة ولرسوله} [المنافقون: 8]، ومن حلف بعزة الله وصفاته

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 42] { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] .
وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ».

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا».
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ».
.

     وَقَالَ  أَيُّوبُ: «وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ».

(باب قول الله تعالى: { وهو العزيز} ) الغالب من قولهم عزّ إذا غلب ومرجعه إلى القدرة المتعالية عن المعارضة فمعناه مركب من وصف حقيقي ونعت تنزيهي وقيل القوي الشديد من قولهم عز يعز إذا قوي واشتد منه قوله تعالى: { فعززنا بثالث} [يس: 14] وقيل عديم المثل فيكون من أسماء التنزيه، وقيل هو الذي تتعذر الإحاطة بوصفه ويعسر الوصول إليه، وقيل العزيز من ضلت العقول في بحار عظمته وحارت الألباب دون إدراك نعته وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف جماله وحظ العارف منه أن يعز نفسه فلا يستهينها بالمطامع الدنيئة ولا يدنسها بالسؤال من الناس والافتقار إليهم ({ الحكيم} [العنكبوت: 42] ) ذو العلم القديم المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ولا شبهة وأنه أتقن الأشياء كلها فالحكمة صفة من صفات الذات يظهرها الفعل وتعبر عنها المحكمات وتشهد لها العقول بما شاهدته في الموجودات كغيرها من صفات الحق، فتأمل ذلك في مسالك أفعاله ومجاري تدبيره وترتيب ملكه وملكوته وقيام الأمر كله به، وتطلب آثار ذلك في خلقه في السماوات والأرض وما فيهن ما بينهن من أفلاك ونجوم وشمس وقمر وتدبير ذلك وتقديره بأمر محكم مع دؤوب اختلاف الليل والنهار وتقلبهما وإيلاج كل واحد منهما
في قرينه وتكويرهما بعضهما على بعض وما يحدثه عن ذلك من العجائب المبدعات والآيات البينات بإحكام متناسق وحكم مستمرة الوجود إلى غير ذلك من سائر أفعاله المتقنة وبدائعه المحكمة، ممّا يكلّ دونه النظر وينحسر دونه البصر ويزيد على القول ويربو على الوصف ولا يدرك كنهه العقول ولا يحيط به سوى اللوح المحفوظ، وأول موضع وقع فيه وهو العزيز الحكيم في سورة إبراهيم.
وأما مطلق العزيز الحكيم فأول ما وقع في البقرة في دعاء إبراهيم لأهل مكة.

قال في اللباب: والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحكيم هو العليم الذي لا يجهل شيئًا وهما بهذين التفسيرين صفة للذات وإن أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكونا من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بينهما أن صفات الذات أزلية وصفات الفعل ليست كذلك.

وقوله تعالى: ({ سبحان ربك رب العزة عما يصفون} ) [الصافات: 18] من الولد والصاحبة والشريك وثبت لأبي ذر والأصيلي عما يصفون، وأضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله: { تعز من تشاء} [آل عمران: 26] وقوله تعالى: { ولله العزة ولرسوله} [المنافقون: 8] ) أي ولله المنعة والقوة ولمن أعز من رسوله والمؤمنين، وعزة كل واحد بقدر علو مرتبته فعزة الرسول بما خصّه الله به من الخصائص التي لا تحصى، والبراهين التي لا تستقصى، وعزة المؤمنين بما ورثوه من العلم النبوي وهم في ذلك متفاوتون بقدر ميراثهم من ذلك العلم والهداية للخلق إلى الحق، والعزيز من لا تناله أيدي الشياطين ولا تبلغه رعونات الشهوات فتذلل هداك الله لعزته وتضاءل لعظمته، وتضرّع إليه في خلواتك عساه يهب لك عزًّا لا ذلّ يصحبه وشرفًا لا ضعة تتخلله ثم تذلل لأوليائه وأهل طاعته وتعزّز على كل جبار عنيد (ومن حلف بعزة الله وصفاته).
والعزة تحتمل كما قال ابن بطال: أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة فيحنث وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته فلا يحنث.
نعم إذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين وللمستملي وسلطانه بدل قوله وصفاته.

(وقال أنس) -رضي الله عنه- في حديث موصول سبق في تفسير سورة ق (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تقول جهنم) تنطق كإنطاق الجوارح (قط قط) بفتح القاف وكسر الطاء أو سكونها فيهما أي حسب (وعزتك) مجرور بواو القسم.

(وقال أبو هريرة) في حديث سبق موصولاً في الرقاق (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال (يبقى رجل) اسمه جهينة (بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة فيقول: رب) ولأبي ذر يا رب (اصرف وجهي عن النار) زاد في أواخر الرقاق فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسأل غيره فيقول (لا وعزتك لا أسألك غيرها) أي غير هذه المسألة.

(قال أبو سعيد) الخدري (إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: قال الله عز وجل لك ذلك وعشرة أمثاله)
فيه أن أبا سعيد وافق أبا هريرة على رواية الحديث المذكور إلا في قوله عشرة أمثاله فإن في حديث أبي هريرة كما في الرقاق فيقول الله هذا لك ومثله معه، وسبق مبحثه والله الموفق.

(وقال أيوب) صلوات الله وسلامه عليه فيما سبق موصولاً في الغسل من كتاب الطهارة وغيره لما خرّ عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى (وعزتك لا غنى بي عن بركتك) بكسر الغين المعجمة وفتح النون مقصورًا ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لا غناء بالهمز ممدودًا الكفاية، وفي اليونينية عناء بغير نقطة على العين مع المدّ وفي الفرع التنكزي عناء بزيادة عين تحتها علامة الإهمال، وفي آخر غناء بالمعجمة فليحرر.


[ قــ :6989 ... غــ : 7383 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ».

وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المقعد المنقري البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي مولاهم البصري التنوري الحافظ قال: (حدّثنا حسين المعلم) بن ذكوان البصري قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة ابن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها (عن يحيى بن يعمر) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه البصري نزيل مرو وقاضيها (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول):
(أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت) بلفظ الغائب وفي رواية اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحيّ الذي لا يموت (والجن والإنس يموتون) وكلمة تضلني الزائدة في هذه الرواية متعلقة بأعوذ أي من أن تضلني وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة واستغنى عن ذكر عائد الموصول لأن نقش المخاطب هو المرجوع إليه وبه يحصل الارتباط وكذلك المتكلم نحو:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
ولا يقال إن مفهوم قوله والجن والإنس يموتون لأنه مفهوم لقب ولا اعتبار به.

والحديث أخرجه مسلم في الدعاء والنسائي في النعوت.




[ قــ :6990 ... غــ : 7384 ]
- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِىٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُلْقَى فِى النَّارِ».

وَقَالَ لِى خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ
فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ: قَدْ قَدْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلاَ تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ».

وبه قال: ( حدّثنا ابن أبي الأسود) هو عبد الله بن محمد بن الأسود أبو بكر البصري الحافظ قال: ( حدّثنا حرمي) بفتح الحاء المهملة والراء وكسر الميم بعدها ياء النسبة ابن عمارة بضم العين وتخفيف الميم ابن أبي حفصة نابت بنون وموحدة ثم مثناة العتكي مولاهم قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( عن قتادة) بن دعامة ( عن أنس) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( يلقى) بضم أوله وفتح ثالثه بينهما لام ساكنة ولأبي ذر لا يزال يلقى ( في النار) .

قال المؤلف: ( وقال خليفة) بن خياط ( حدّثنا يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري قال: ( حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي عروبة ( عن قتادة عن أنس) -رضي الله عنه- ( وعن معتمر) بضم الميم الأولى وكسر الثانية ابن سليمان التيمي وهو معطوف على قوله حدّثنا يزيد بن زريع فهو موصول أي، وقال لي خليفة أيضًا عن معتمر وبهذا جزم أصحاب الأطراف أنه قال: ( سمعت أبي) سليمان ( عن قتادة عن أنس) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( لا يزال يلقى فيها) أي العصاة في النار ( و) هي ( تقول هل من مزيد) مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتلئ يعني قد امتلأت أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وإسناد القول إليها حقيقة بأن يخلق الله فيها القول أو مجاز ( حتى يضع فيها رب العالمين قدمه) أي من قدمه لها من أهل العذاب أو ثمة مخلوق اسمه القدم أو المراد تذليلها كتذليل من يوضع تحت الرجل والعرب تضع الأمثال بالأعضاء ولا تريد أعيانها ( فينزوي) بالنون والزاي فيجتمع وينقبض ( بعضها إلى بعض ثم تقول: قد قد) بفتح القاف وسكون الدال وتكسر فيهما أي حسبي حسبي قد اكتفيت ( بعزتك وكرمك ولا تزال الجنة تفضل) عن الداخلين فيها ولأبي ذر عن المستملي بفضل بموحدة بدل الفوقية وفتح الفاء وسكون الضاد ( حتى ينشئ الله لها خلقًا فيسكنهم فضل الجنة) الذي بقي منها.

وقد ساق المؤلف هذا الحديث هنا من ثلاثة طرق عن قتادة وسبق لفظ شعبة في تفسير سورة ق وساقه هنا على لفظ خليفة ويستنبط منه مشروعية الحلف بكرم الله كما في الحلف بعزة الله.

ومطابقة الحديث ظاهرة.