فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {وكان الله سميعا بصيرا} [النساء: 134]

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]
وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] .

( باب) بالتنوين ( { وكان الله سميعًا بصيرا} [النساء: 134] ) ولغير أبي ذر قول الله تعالى بالرفع { وكان الله سميعًا بصيرًا} وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسُّنّة بحيث
لا يمكن إنكاره ولا تأويله أن الباري تعالى حي سميع بصير وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك، وقد يستدل على الحياة بأنه عالم قادر وكل عالم قادر حي بالضرورة وعلى السمع والبصر بأن كل حي يصح كونه سميعًا بصيرًا وكل ما يصح للواجب من الكمالات يثبت بالعقل لبراءته عن أن يكون له ذلك بالقوة والإمكان وعلى الكل بأنها صفات كمال قطعًا، والخلو عن صفات الكمال في حق من يصح اتصافه بها نقص وهو على الله تعالى مُحال.
قال تعالى: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] وقد ألزم عليه السلام أباه الحجة بقوله: { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} [مريم: 42] فأفاد أن عدمهما نقص لا يليق بالمعبود ولا يلزم من قدمهما قدم المسموعات والمبصرات كما لا يلزم من قدم العلم قدم المعلومات لأنها صفات قديمة يحدث لها تعلقات بالحوادث، ولا يقال إن معنى سميع وبصير عليم لأنه يلزم منه كما قال ابن بطال التسوية بين الأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتًا ولا يسمعها، فقد صح أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا وكونه سميعًا بصيرًا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، وقد أطلق تعالى على نفسه الكريمة هذه الأسماء خطابًا لمن هو من أهل اللغة، والمفهوم في اللغة من عليم ذات له علم بل يستحيل عندهم عليم بلا علم كاستحالته بلا معلوم فلا يجوز صرفه عنه إلا لقاطع عقلي يوجب نفيه.

وقد أجيب عن قول المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزّه عن الجوارح بأن ذلك عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيًّا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله تعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع فذاته تعالى مع كونه حيًّا موجودًا لا تشبه الذوات فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات فيسمع ويبصر بلا جارحة حدقة وأذن بمرأى منه خفاء الهواجس وبمسمع منه صوت أرجل النمل على الصخرة الملساء وحظ العبد من هذين الاسمين أن يتحقق أنه بمسمع من الله ومرأى منه فلا يستهين باطّلاعه عليه ونظره إليه ويراقب مجامع أحواله من مقاله وأفعاله قيل إذا عصيت مولاك فاعص في موضع لا يراك.

( وقال الأعمش) سليمان بن مهران فيما وصله أحمد والنسائي ( عن تميم) أي ابن سلمة الكوفي ( عن عروة) بن الزبير ( عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها ( قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات) أي أدرك سمعه الأصوات وليس المراد من الوسع ما يفهم من ظاهره لأن الوصف بذلك يؤدي إلى القول بالتجسيم فيجب صرفه عن ظاهره إلى ما يقتضي الدليل صحته ( فأنزل الله تعالى على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] ) كذا اختصره، وتمامه كما عند أحمد بعد قوله الأصوات: لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله الآية.

وعند ابن ماجة وابن أبي حاتم أن عائشة قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء إني أسمع كلام خولة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي تقول له: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك.
قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية.


[ قــ :6992 ... غــ : 7386 ]
- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا».
ثُمَّ أَتَى عَلَىَّ وَأَنَا أَقُولُ فِى نَفْسِى لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ لِى: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ -أَوْ قَالَ- أَلاَ أَدُلُّكَ بِهِ».

وبه قال: ( حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: ( حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم ( عن أيوب) السختياني ( عن أبي عثمان) عبد الرحمن بن ملّ النهدي ( عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري أنه ( قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيينه ( فكنا إذا علونا) شرفًا ( كبرنا) الله تعالى نقول الله أكبر نرفع أصواتنا بذلك ( فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا:
( اْربعوا) بوصل الهمزة وفتح الموحدة وقال السفاقسي رويناه بكسرها ( على أنفسكم) أي ارفقوا بها لا تبالغوا في رفع أصواتكم أو لا تعجلوا ( فإنكم لا تدعون) بسكون الدال ( أصم ولا غائبًا) ولم يقل ولا أعمى حتى يناسب أصم لأن الأعمى غائب عن الإحساس بالمبصر والغائب كالأعمى في عدم رؤيته ذلك المبصر فنفى لازمه ليكون أبلغ وأعم قاله في الكواكب ( تدعون) وفي الدعوات لكن تدعون ( سميعًا بصيرًا قريبًا) وهذا كالتعليل لقوله لا تدعون أصم قال أبو موسى ( ثم أتى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( عليَّ) بالتشديد ( وأنا أقول في نفسي لا حول ولا قوّة إلا بالله فقال لي يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة) .
أي كالكنز في نفساته ( أو قال: ألا أدلك به) .
أي ببقية الخبر والشك من الراوي.

والحديث سبق في باب الدعاء إذا علا عقبة من كتاب الدعوات بهذا الإسناد والمتن.




[ قــ :6993 ... غــ : 7387 - 7388 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِى الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضى الله عنه - قَالَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاَتِى قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

وبه قال: ( حدّثنا يحيى بن سليمان) بن يحيى بن سعيد الجعفي أبو سعيد الكوفي نزيل مصر قال: ( حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع ( ابن وهب) عبد الله قال: ( أخبرني) بالإفراد
( عمرو) بفتح العين ابن الحارث البصري ( عن يزيد) من الزيادة ابن أبي حبيب سوي ( عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله بفتح الميم والمثلثة أنه ( سمع عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاصي ( أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) بالمثلثة على المشهور من الرواية ووقع بالموحدة للقابسي أي بملابستها ما يوجب عقوبتها ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي من عندك مغفرة) عظيمة وفائدة قوله من عندك الدلالة على التعظيم أيضًا لأن عظمة المعطي تستلزم عظمة العطاء ( إنك أنت الغفور الرحيم) .

ومناسبة الحديث للترجمة كما أشار إليه ابن بطال أن دعاء أبي بكر بما علمه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقتضي أن الله تعالى يسمع لدعائه ويجازيه عليه، وقال آخر: حديث أبي بكر -رضي الله عنه- ليس مطابقًا للترجمة إذ ليس فيه ذكر صفتي السمع والبصر لكنه ذكر لازمها من جهة أن فائدة الدعاء إجابة الداعي لمطلوبه والدعاء في الصلاة يطلب فيه الإسرار، فلولا أن سمعه تعالى يتعلق بالسر كما يتعلق بالجهر لما حصلت فائدة الدعاء.
وقال في الكواكب: لما كان بعض الذنوب مما يسمع وبعضها مما يبصر لم يقع مغفرة إلا بعد الإسماع والإبصار حكاه في فتح الباري.

والحديث سبق في باب الدعاء قبل السلام من كتاب الصلاة، وفي كتاب الدعوات.



[ قــ :6994 ... غــ : 7389 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - حَدَّثَتْهُ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَادَانِى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ».

وبه قال: ( حدّثني عبد الله بن يوسف) التنسي قال: ( أخبرنا ابن وهب) عبد الله قال: ( أخبرني) بالإفراد ( يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( حدّثني) بالإفراد ( عروة) بن الزبير ( أن عائشة -رضي الله عنها- حدّثته) فقالت ( قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( إن جبريل عليه السلام ناداني) لما رجعت من الطائف ولم يقبل قومي ما دعوتهم إليه من التوحيد ( قال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك) أي جوابهم لك وردهم عليك وعدم قبولهم الإسلام.

والحديث سبق بأتم من هذا في بدء الخلق.