فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28]

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} [المائدة: 116] .

( باب قول الله تعالى: { ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] ) مفعول ثان ليحذر لأنه في الأصل متعدّ لواحد فازداد بالتضعيف آخر وقدر بعضهم حذف مضاف أي عقاب نفسه، وصرح بعضهم بعدم الاحتياج إليه كذا نقله أبو البقاء.
قال في الدر: وليس بشيء إذ لا بدّ من تقدير هذا المضاف لصحة المعنى.
ألا ترى إلى غير ما نحن فيه نحو قولك حذرتك نفس زيد إنه لا بد من شي يحذر منه كالعقاب والسطوة لأن الذوات لا يتصوّر الحذر منها نفسها إنما يتصور من أفعالها
وما يصدر عنها.
وقال أبو مسلم: المعنى ويحذركم الله نفسه أن تعصوه فتستحقوا عقابه وعبر هنا بالنفس عن الذات جريًا على عادة العرب كما قال الأعشى:
يومًا بأجود نائلاً منه إذا ... نفس الجبان تحمدت سوالها
وقال بعضهم: الهاء في نفسه تعود على المصدر المفهوم من قوله: لا تتخذوا أي ويحذركم الله نفس الاتخاذ والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته.
وقال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ النفس في القرآن بمعنى العلم بالشيء والشهادة كقوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه} يعني علمه فيكم وشهادته عليكم وبمعنى البدن قال تعالى: { كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185] وبمعنى الهوى قال تعالى: { إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف: 53] يعني الهوى وبمعنى الروح قال تعالى: { أخرجوا أنفسكم} [الأنفال: 53] أي أرواحكم اهـ.

والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله كان لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله تعالى أو من غيره، فلما ذكر النفس زال ذلك ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم العقاب لكونه قادرًا على ما لا نهاية له.

( وقوله) ولأبي ذر وقول الله ( جل ذكره: { تعلم ما في نفسي} ) ذاتي ( { ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] ) ذاتك فنفس الشيء ذاته وهويته والمعنى تعلم معلومي ولا أعلم معلومك.
وقال في اللباب لا يجوز أن تكون تعلم عرفانية لأن العرفان يستدعي سبق جهل أو يقتصر به على معرفة الذات دون أحوالها فالمفعول الثاني محذوف أي تعلم ما في نفسي كائنًا وموجودًا على حقيقته لا يخفى عليك منه شيء وقوله ولا أعلم، وإن كان يجوز أن تكون عرفانية إلا أنها لما صارت مقابلة لما قبلها كانت مثلها اهـ.

وقال البيهقي: النفس في كلام العرب على أوجه منها الحقيقة كما يقولون في نفس الأمر وليس للأمر نفس منفوسة ومنها الذات قال: وقد قيل في قوله تعالى: { تعلم ما في نفسي} أن معناه ما أكنّه أسرّه ولا أعلم ما تسرّه عني وقيل ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة، وعورض بالآية التي في أوّل الباب إذ ليس فيها مقابلة.


[ قــ :7008 ... غــ : 7403 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ».

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي قال: ( حدّثنا أبي) حفص بن غياث قاضي الكوفة قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران ( عن شقيق) أبي وائل بن سلمة ( عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( ما من أحد أغير من الله) عز وجل ( من أجل ذلك حرم الفواحش) والمراد بالغيرة هنا والله أعلم لازمها وهو الغضب ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة وقيل غيرة الله كراهة إتيان الفواحش أي عدم رضاه بها لا التقدير ( وما أحد أحب) بالنصب ولأبي ذر بالرفع ( إليه المدح من الله) .
عز وجل.
وأحب بالنصب والمدح بالرفع فاعله، وليس في الحديث ما يدل على مطابقته للترجمة صريحًا.
نعم في رواية تفسير سورة الأنعام زيادة قوله ولذلك مدح نفسه، وساقه هنا على الاختصار بدون هذه الزيادة تشحيذًا للأذهان على عادته ولما لم يستحضر الكرماني هذه الزيادة عند شرحه ذلك قال: لعله أقام استعمال أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما مقام الآخر.

والحديث سبق في تفسير الأنعام وفي باب الغيرة من النكاح.




[ قــ :7009 ... غــ : 7404 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ هُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهْوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى».

وبه قال: ( حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان المروزي وعبدان لقبه ( عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري ( عن الأعمش) سليمان ( عن أبي صالح) ذكوان السمان ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( لما خلق الله) عز وجل ( الخلق كتب) أمر القلم أن يكتب ( في كتابه هو يكتب على نفسه) بيان لقوله كتب ولأبي ذر وهو يكتب فالجملة حالية ( وهو وضع) بفتح الواو وسكون الضاد المعجمة أي موضوع وفي رواية أبي ذر على ما حكاه عياض وضع بفتح الضاد فعل ماض مبني للفاعل وفي نسخة معتمدة وضع بكسر الضاد مع التنوين ( عنده) أي علم ذلك عنده ( على العرش) مكنونًا عن سائر الخلق مرفوعًا عن حيز الإدراك والله تعالى منزّه عن الحلول في المكان لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق به تعالى وليس الكتب لئلا ينساه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا بل لأجل الملائكة الموكلين بالمكلفين.
وفي بدء الخلق فوق العرش وفيه تنبيه على تعظيم الأمر وجلالة القدر فإن اللوح المحفوظ تحت العرش والكتاب المشتمل على هذا الحكم فوق العرش، ولعل السبب في ذلك والعلم عند الله تعالى أن ما تحت العرش عالم الأسباب والمسببات واللوح يشتمل على تفاصيل ذلك ذكره في شرح المشكاة والمكتوب هو قوله: ( إن رحمتي تغلب غضبي) .
والمراد بالغضب لازمه وهو إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة سابق على تعلق الغضب لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث.

والحديث سبق في أوائل بدء الخلق وأخرجه مسلم.




[ قــ :7010 ... غــ : 7405 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».
[الحديث 7405 - طرفاه في: 7505، 7537] .

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص) قال: ( حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان قال: ( سمعت أبا صالح) ذكوان ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه ( قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي) إن ظن أني أعفو عنه وأغفر فله ذلك وإن ظن أني أعاقبه وأؤاخذه فكذلك، وفيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وقيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال فينبغي للمرء أن يجتهد بقيام وظائف العبادات موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعده بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن أعتقد أو ظن خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله وهو من الكبائر ومن مات على ذلك وكل إلى ظنه وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرة ( وأنا معه) بعلمي ( إذا ذكرني) وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي غير المعية المعلومة من قوله تعالى: { وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة ( فإن ذكرني) بالتنزيه والتقديس سرًّا ( في نفسه ذكرته) بالثواب والرحمة سرًّا ( في نفسي وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم واللام مهموز في جماعة جهرًا ( ذكرته) بالثواب ( في ملأ خير منهم) وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة، وأيضًا فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معًا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس فيه بلا ارتياب، فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا قاله الحافظ ابن حجر مبتكرًا، لكن قال إنه سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى ( وإن تقرب إليّ) بتشديد الياء ( بشبر) ولأبي ذر عن الكشميهني شبرًا بإسقاط الخافض والنصب أي مقدار شبر ( تقربت إليه ذراعًا وإن تقرب إليّ ذرعًا) بكسر الذال المعجمة أي بقدر ذراع ( تقربت إليه) ولأبي ذر عن الحموي منه ( باعًا) أي بقدر باع وهو طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره ( وإن) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ومن ( أتاني يمشي أتيته هرولة) إسراعًا يعني من تقرب إليّ بطاعة قليلة جازيته بمنوبة كثيرة، وكلما زاد في الطاعة زدت في ثوابه وإن كان كيفية إتيانه بالطاعة على التأني فإتياني بالثواب له على السرعة والتقرب، والهرولة مجاز على سبيل المشاكلة أو الاستعارة أو قصد إرادة لوازمها وإلاّ فهذه الإطلاقات وأشباهها لا يجوز إطلاقها على الله تعالى إلا على المجاز لاستحالتها عليه تعالى.

وفي الحديث جواز إطلاق النفس على الذات فإطلاقه في الكتاب والسُّنّة إذن شرعي فيه أو يقال هو بطريق المشاكلة لكن يعكر على هذا الثاني قوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 8] والحديث من أفراده.