فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به، إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13] يَتَخَافَتُونَ: يَتَسَارُّونَ.

( باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به}) ظاهره الأمر بأحد الأمرين الإسرار والإجهار ومعناه ليستو عندكم إسراركم إجهاركم في علم الله بهما ( {إنه عليم بذات الصدور} [الملك: 13] ) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به ( {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ) أي العالم بدقائق الأشياء والخبير العالم بحقائق الأشياء وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد ( يتخافتون) : أي ( يتسارون) .
بتشديد الراء فيما بينهما بكلام خفي.


[ قــ :7127 ... غــ : 7525 ]
- حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أَىْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110] .

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد ( عمرو بن زرارة) بفتح العين وزرارة بضم الزاي وتخفيف الراء الكلابي النيسابوري ( عن هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير قال: ( أخبرنا أبو بشر) بموحدة فمعجمة ساكنة جعفر بن أبي وحشية واسمه إياس ( عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك})
بقراءة صلاتك ( {ولا تخافت}) لا تخفض صوتك ( {بها} [الإسراء: 110] ) زاد في الإسراء عن أصحابك فلا تسمعهم ( قال) ابن عباس ( نزلت ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مختف بمكة) عن الكفار ( فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن) .
واستشكل بأنه إذا كان مختفيًا عن الكفار فكيف يرفع صوته وهو ينافي الاختفاء؟ وأجاب في الكواكب: بأنه لعله أراد الإتيان بشبه الجهر أو أنه ما كان يبقى له عند الصلاة ومناجاة الرب اختيار لاستغراقه في ذلك.
( فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله) جبريل ( ومن جاء به) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فقال الله) عز وجل ( لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك) فيه حذف كما مرّ ( فيسمع المشركون) بنصب فيسمع في الفرع وأصله ويجوز الرفع ( فيسبوا القرآن {ولا تخافت بها} عن أصحابك فلا تسمعهم) بالرفع ( {وابتغ بين ذلك}) الجهر والمخافتة ( {سبيلاً} [الإسراء: 110] ) وسطًا.
قال الكرماني: فأجاد هذه الملة الإسلامية الحنيفية البيضاء أصولها وفروعها كلها واقعة في حاق الوسط لا إفراط ولا تفريط كما في الإلهيات لا تشبيه ولا تعطيل وفي أفعال العباد ولا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين وفي أمر المعاد لا يكون وعيديًّا ولا مرجيًّا بل بين الخوف والرجاء، وفي الإمامة لا رفض ولا خروج، وفي الإنفاق لا إسراف ولا تقتير، وفي الجراحات لا قصاص واجبًا كما في التوراة ولا عفوًا واجبًا كما في الإنجيل، بل شرع القصاص والعفو كلاهما وهلم جرًّا.

وسبق الحديث قريبًا وكذا في سورة الإسراء من التفسير.




[ قــ :718 ... غــ : 756 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] فِى الدُّعَاءِ.

وبه قال: ( حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا وكان اسمه عبد الله القرشي الكوفي قال: ( حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة ( عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير ( عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها ( قالت: نزلت هذه الآية: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] في الدعاء) .
هذا وجه آخر في سبب نزول هذه الآية أو هو من باب إطلاق الكل على الجزء إذ الدعاء بعض أجزاء الصلاة.
وسبق في الإسراء.




[ قــ :719 ... غــ : 757 ]
- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ -وَزَادَ غَيْرُهُ- يَجْهَرُ بِهِ».

وبه قال: ( حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور وقال الحاكم ابن نصر ورجح الأول أبو علي الجياني قال: ( حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل شيخ المؤلف روي عنه كثيرًا بلا واسطة قال:
( أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال: ( أخبرنا ابن شهاب) محمد بن مسلم ( عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه ( قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( ليس منا) أي ليس من أهل سُنّتنا ( من لم يتغن بالقرآن) أي يحسن صوته به كما قاله الشافعي وأكثر العلماء.
وقال سفيان بن عيينة يستغني به عن الناس ( وزاد غيره) غير أبي هريرة وفي فضل القرآن وقال صاحب له معنى يتغنى بالقرآن ( يجهر به) .
فهي جملة مبينة لقوله يتغن بالقرآن، فلن يكون المبين على خلاف البيان، فكيف يحمل على غير تحسين الصوت.
والصاحب المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب كما سبق في فضل القرآن.

وقال في الفتح: وسيأتي قريبًا من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بلفظ ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به فيستفاد منه أن الغير المبهم في حديث الباب وهو الصاحب المبهم في رواية عقيل هو محمد بن إبراهيم التيمي والحديث واحد إلا أن بعضهم رواه بلفظ: ما أذن، وبعضهم بلفظ: ليس منا.

قال ابن بطال: مراد البخاري بهذا الباب إثبات العلم لله تعالى صفة ذاتية لاستواء علمه بالجهر من القول والسر وتعقبه ابن المنير فقال ما أظن أنه قصد بالترجمة إثبات العلم وليس كما ظن وإلا لتقاطعت المقاصد مما اشتملت عليه الترجمة لا سيما بين العلم وبين حديث ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وإنما قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته بمسألة اللفظ فأشار بالترجمة إلى أن تلاوات الخلق تتّصف بالسر والجهر ويستلزم أن تكون مخلوقة وأنها تسمى تغنيًا وهذا هو الحق اعتقادًا لا إطلاقًا حذرًا من الإيهام وفرارًا من الابتداع لمخالفة السلف في الإطلاق وقد ثبت عن البخاري أنه قال من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب، وإنما قلت إن أفعال العبادة مخلوقة.