هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1615 حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ، قَالَتْ : أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْبَيْعَةِ ، أَلَّا نَنُوحَ ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ ، إِلَّا خَمْسٌ : أُمُّ سُلَيْمٍ ، وَأُمُّ الْعَلَاءِ ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ ، امْرَأَةُ مُعَاذٍ ، أَوْ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1615 حدثني أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد ، حدثنا أيوب ، عن محمد ، عن أم عطية ، قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ، ألا ننوح ، فما وفت منا امرأة ، إلا خمس : أم سليم ، وأم العلاء ، وابنة أبي سبرة ، امرأة معاذ ، أو ابنة أبي سبرة ، وامرأة معاذ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Umm 'Atiyya reported:

The Messenger of Allah (ﷺ) took a promise from us along with the oath of Allegiance that we would not lament. But only five among us fulfilled the promise (and they are) Umm Sulaim, and Umm al-'Ala', and the daughter of Abu Sabra the wife of Mu'adh, or daughter of Abu Sabra and wife of Mu'adh.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أم عطية رضي الله عنها قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ألا ننوح فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ.


المعنى العام

لا شك أن البكاء طبيعة من طبائع الإنسان، فالإنسان يفرح ويحزن، وللفرح أعراضه، وللحزن أعراضه، وأبرز أعراض الحزن البكاء، وأبرز أعراض الفرح الضحك والانبساط، ودمعة العين ليست مظهراً أو عرضاً فقط، وإنما هي منفسة عن نفس الحزين، مبردة لحرارة المصيبة، مخففة للوعات الفؤاد، فالبكاء دواء، وكبته وكظمه في وقت يحتاجه داء خطير العواقب، كثيراً ما يورث عقدة نفسية أو أضرارا جسيمة ، وأشد المصائب موت عزيز، وفقد حبيب، لهذا كثر البكاء عند الموت، وقل أو ندر عند فقد مال أو ضياعه، أو عند الأمراض والأسقام ربما لأن المال يذهب ويعود، والأمراض والأسقام تشفى وتزول، أما الميت فلا يعود.

وأكثر ما يتأثر بالحزن النساء، لأن عواطفهن تغلب عقولهن، فهن أشد من الرجال حساسية، وهن أسرع وأقوى من الرجال انفعالاً.
لهذا عرفن بالصراخ والصياح والعويل عند الموت، واشتهرن بالهلع والجزع والولولة، وزاد عندهن الأسى ففقدن التوازن والانضباط، فشققن الثياب، ولطخن الوجوه بالنيلة والألوان السوداء والزرقاء، وحلقن الشعور ولبسن السواد، وشنقن أنفسهن بالخمار، وتكونت منهن فرق يجدن إثارة الحزن بالكلمات والنغمات والنياحات تدعى هذه الفرق فتجيب، وتتصنع الأسى واللوعة والحرقة فتلهب حناجر الأخريات وصراخ الباكيات.

وتطورت هذه الظاهرة حتى أصبحت علامة على وفاء أهل الميت لميتهم ومظهراً من مظاهر معزتهم له، ورمزاً لقيمته عندهم، حتى قال طرفة بن العبد:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الثوب يا ابنة معبد

وجاء الإسلام وتلك عادة العرب، ووجدنا أم سلمة -رضي الله عنها وهي من السابقات إلى الإسلام المهاجرة مع زوجها إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة- وجدناها حين مات زوجها من جراحة أصابته في غزوة أحد.
وجدناها تقول: غريب وفي أرض غربة، ولأبكينه بكاء يتحدث به الركبان، وقامت وتهيأت للصراخ وللألوان، وأعدت العدة لاستقبال النادبات المساعدات، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فوعظها أن لا تفعل، وقال لها: ما من عبد تصيبه مصيبة فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها.
إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، قال لها: قولي: اللهم اغفر لي وله، واعقبني منه عقبى حسنة.
فاستسلمت وكفت عن البكاء والصراخ، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم إحدى المساعدات النادبات فقال لها: إياك أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه، فلا ندبة ولا عويل.

وأخذ الإسلام ينشر نوره وتعاليمه المتمثلة في الرضا بالقضاء، والصبر عند البأساء، وفي الإيمان بأن كل شيء حتى نفوسنا ملك لله، لقد أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم إحدى بناته تخبره أن ابناً لها يموت وفي النزع الأخير، وتطلب حضوره إليها يواسيها ويخفف عنها وتحصل به البركة والرحمة، فأرسل إليها يقول: اعلمي أن لله ما أعطى، هو الذي وهبك هذا الولد فتمتعت به أياماً، كان عارية وأمانة لديك، فإن أخذه فهو حقه وله ما أخذ، وكل أجل عنده في كتاب، فاصبري واطلبي من الله أن يحسب صبرك عليه في صحيفتك.
فأرسلت إليه تقسم عليه أن يأتيها، فأتاها ومعه بعض أصحابه، فرفع إليه الصبي، فأخذه بين يديه، فرأى صدره يعلو ويهبط، ونفسه تتحشرج في حلقومه، وأمه بجواره تكاد تموت حزناً وكمداً، فسقطت العبرات على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظن الصحابة الحاضرون أن الإسلام ينهي عن البكاء والدمع، فقال أحدهم: ما هذا يا رسول الله؟ تبكي؟ وتنهانا عن البكاء؟ قال: إنما نهيتكم عن هذا، وأمسك بلسانه، أما الدمع فهو أثر الإحساس والرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده، والمسلم يرحم، ومن لا يرحم لا يرحم.

ووضع الإسلام قواعده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، زيارة للمريض ومواساة زيارة من كبير المسلمين لصغيرهم، وزيارة عامتهم لعامتهم ولسادتهم.
لقد أخذ جمعاً من أصحابه لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، وكان أهله حوله فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسحوا له واستأخروا، ففاض دمعه نابعاً من تأثره وانفعاله ورحمته، ومرة أخرى شرح لأصحابه: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بما فوق هذا من فعل الجاهلية.

ورأى امرأة تصرخ وتولول عند قبر صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري فإن الصبر الكامل المستحق للجزاء الوفير هو ما كان على مصاب جلل حين يفاجئ المحبين.

وكان لا بد من محاربة عادات الجاهلية، وأبرزها ما كانوا يعتقدونه من أن المبالغة في ندبته والبكاء عليه، والمغالاة في مظاهر الحزن ينفعه ويعلي من قدره، فأراد الإسلام أن يغرس فيهم نقيض عقيدتهم، فقال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فإن كنتم تحبونه فلا تعذبوه بصراخكم، المعول عليه يعذب فلا تعذبوا أحبابكم، ومن نيح عليه فإنه يعذب بما نيح يوم القيامة.

وكان لا بد أن يحذر النائحات، فقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة وهي تلبس ثياباً من قطران تصيبها بالجرب.

احذروا معشر المسلمين أربعاً من خصال الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وربط المطر بالنجوم، ونسيان الذي يرسل السحاب، والنياحة على الموت.

وهكذا حارب الإسلام الهلع والجزع عند الموت، حارب مظاهر عدم التسليم ومظاهر عدم الرضا بالقضاء.

غرس الإيمان في نفوس المؤمنين بأن لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

المباحث العربية

( غريب وفي أرض غربة) أي فليس معه من الأهل من يبكيه غيري، لأنه من أهل مكة ومات في أوائل الهجرة بالمدينة، والمقصود بهذه الجملة تعليل بكائها الهائل الذي اعتزمته.

( لأبكينه بكاء يتحدث عنه) يتحدث بالبناء للمجهول، أي يتحدث الركبان وأهل البلاد عن عظمه.

( فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي لبست لباس الباكيات وأعددت المناديل ومشقوق الثياب والخمار ونحو ذلك مما يستعمله الصائحات النادبات.

( إذ أقبلت امرأة من الصعيد) أصل الصعيد ما كان على وجه الأرض واستعمل في الأرض البعيدة، والمراد هنا عوالي المدينة.

( تريد أن تسعدني) بضم التاء وسكون السين، أي تساعدني في البكاء والنوح والندبة.

( فاستقبلها رسول الله) صلى الله عليه وسلم لعله كان بالداخل حين دخلت، ففي الرواية الخامسة من الباب السابق أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه.

( أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه) ؟ الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تدخلي، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك من الوحي، لأن أم سلمة لم تكن كفت عن البكاء ولا التهيؤ للنوح.

( فكففت عن البكاء فلم أبك) ليس المراد من البكاء هنا دمع العين، إذ ليس ذلك من الشيطان، وإنما المراد به ما يصاحبه من صراخ وعويل فمعنى كففت هنا أحجمت وامتنعت، وليس المعنى أنها كانت تنوح فتوقفت.

( فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه) أي تطلب حضوره إليها.

( وتخبره أن صبياً لها في الموت) ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح خلافاً في المقصود بابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المقصود بابنها، فقال: هي زينب كما وقع في مصنف ابن أبي شيبة، وابنها قيل: هو علي بن أبي العاص بن الربيع، فقد اتفق أهل العلم بالنسب على أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا علياً وأمامة فقط، ثم استبعد أن يكون الابن علياً، لأن أهل العلم بالأنساب ذكروا أنه عاش حتى ناهز الحلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال له صبي عرفاً، وإن جاز لغة، كما استبعد أن يكون المراد بالولد أمامة ابنتها رغم النص عليها في رواية أحمد، فإن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها.
وارتضى الحافظ ابن حجر أن يراد بالولد أمامة، ففي رواية أبي داود: أن ابني أو ابنتي وأنها كانت قاربت أن تقبض، فأكرم الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأن عافى ابنها أو ابنتها في ذلك المرض، وذكر الحافظ ابن حجر قولاً آخر أن المراد من بنت النبي صلى الله عليه وسلم رقية، وأن المراد من ابنها هو عبد الله بن عثمان بن عفان، وأسند هذا القول للبلاذري في الأنساب، ونقل الحافظ عن مسند البزار أن المقصود بابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة.
قال: فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي بن أبي طالب.
قال: وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فهذا أولى أن يفسر به إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب.
انتهى بتصرف.

( فقال للرسول) الذي أرسلته ابنته.

( أن لله ما أخذ) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن الصبي قد مات، فالتقدير: إن هذا الذي أخذ منكم كان له، لا لكم، فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا يجزع من استردت منه وديعة أو عارية، ولكن آخر الحديث أن الصبي كانت نفسه تعلو وتهبط في صدره، فالمراد أنه فهم حضور الموت لا انتهاءه، أي إن أخذه الله فإن لله ما أخذ، وإن أبقاه فإن لله ما أبقى.

( وله ما أعطى) معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو ملكه يفعل فيه ما يشاء.

( وكل شيء عنده بأجل) أي كل من انقضى أجله فمحال تقدمه أو تأخره عنه، أو كل شيء من الأخذ والإعطاء بأجل معلوم، فإذا علمتم ذلك كله فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم.
قال الحافظ ابن حجر: وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخراً في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أخذه هو الذي كان قد أعطاه، وما مصدرية في الموضعين، ويحتمل أن تكون موصولة، أي لله ما أخذه من الأولاد، وله ما أعطى منهم.

( مسمى) أي معلوم مقدر.

( فلتصبر ولتحتسب) أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليحسب لها ذلك من عملها الصالح.

( وانطلقت معهم) المتحدث أسامة بن زيد.

( فرفع إليه الصبي) في بعض روايات الصحيح فدفع بالدال بدل الراء، وفي بعضها فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي.

( ونفسه تقعقع كأنها في شنة) القعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، وأصل تقعقع تتقعقع، فحذفت إحدى التاءين، والشنة بفتح الشين وتشديد النون: القربة القديمة الجافة اليابسة كجلد الطبل، فكأنه شبه البدن اليابس وحركة الروح فيه، بما يطرح في الجلد الجامد من ماء ونحوه.
أي روحه لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ألقي في قربة جافة.

( ففاضت عيناه) كناية عن تساقط الدمع.

( ما هذا يا رسول الله؟) في رواية أتبكي وتنهى البكاء؟.

( هذه رحمة) الإشارة إلى الدمعة، وفي الكلام مضاف محذوف، أي أثر رحمة.

( وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومتقضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، ولكن عند أبي داود: الراحمون يرحمهم الرحمن.
والراحمون جمع راحم فيدخل فيه أدنى رحمة.
ذكره الحافظ ابن حجر.

( اشتكى سعد بن عبادة شكوى له) اشتكى أي مرض وضعف وتألم وشكوى بغير تنوين.
ولم تكن مرض الموت فقد شفي وعاش بعدها.

( فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده) فأتى مبني للمعلوم، ورسول الله فاعل، والقائل عبد الله بن عمر، وظاهره أن ابن عمر كان عند سعد، لكن الرواية الرابعة صريحة في أن ابن عمر كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً.
وجملة يعوده تعليلية أو حال.

( فلما دخل عليه وجده في غشية) بفتح الغين وكسر الشين وتشديد الياء، وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الياء أي إغماء من الكرب والشدة والغاشية هي الداهية من شر أو مرض.
وقيل: في جماعة من أهله الذين يغشونه للخدمة والمؤانسة والمواساة.
ويؤيده ظاهر الرواية الرابعة قوله: فاستأخر قومه من حوله.

( فقال: أقد قضى؟) أي أقد انتهى ومات؟

( ألا تسمعون؟) أي أحضكم على السماع.
أي اسمعوا.
وكأنه فهم من بعضهم إنكار بكائه.

( فقال: صالح) السؤال عن حالته الصحية لما علم من مرضه، فلعل المراد صالح للحياة من الصلاحية لا من الصلاح ضد الفساد والسوء.

( ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص) أي ما على أكثرنا هذه الأشياء لفقرنا أو زهدنا.

( الصبر عند الصدمة الأولى) أصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب.
وال في الصبر للكمال، أي الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل ما كان عند مفاجأة المصيبة لما فيه من صعوبة ومشقة.

( أتى على امرأة تبكي على صبي لها) في ملحق الرواية مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر.
قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر.

( اتقي الله واصبري) قال الطيبي: اتقي الله توطئة لقوله: واصبري كأنه قيل لها: خافي غضب الله إن لم تصبري.

( فقالت: وما تبالي بمصيبتي) أي أنت لا تبالي بمصيبتي.
وفي رواية للبخاري: إليك عني أي تنح وابعد، وفي أخرى له: فإنك خلو من مصيبتي.
وعند أبي يعلى: يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى، ولو كنت مصاباً عذرتني.

( فأخذها مثل الموت) أي أخذها كرب وخوف ورهبة مثل الذي يأخذ المريض عند الموت.

( أن حفصة بكت على عمر) أي صرخت وعولت كما جاء في الرواية الثانية عشرة.

( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ظاهره أن الباء للسببية، وأن بكاء الأهل سبب لتعذيبه، وجعلها بعضهم للحال.
أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك لأن شدة بكائهم غالباً إنما يقع عند دفنه، وفي تلك الحال يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكأن المعنى: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبباً لتعذيبه، ولا يخفى ما في هذا التأويل من بعد وتكلف، وإن كانت الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة تؤيده.

وقيل: إن اللام في الميت للعهد، والمراد به الكافر، كما هو ظاهر الرواية الرابعة عشرة، وقيل: للعهد والمراد به ميت معين، أي إن هذا الميت يعذب ببكاء أهله، لأنه أوصاهم بذلك مثلاً، والتفاصيل تأتي في فقه الحديث.

( لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: واأخاه) وا حرف ندبة والألف في أخاه مزيدة لتطويل مد الصوت، والهاء هاء السكت.
والمراد من الإصابة الطعنة التي مات فيها.
وصهيب أصله من بلاد الموصل، سبي في غارة للروم على بلاده وهو غلام صغير اشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه، ثم أسلم بمكة، وهو من السابقين الأولين المعذبين في الله، هاجر إلى المدينة، ومات بها سنة ثمان وثلاثين.

( فقام بحياله) أي بحذائه وجواره.

( عولت عليه حفصة) يقال: عول عليه وأعول عليه، أي صوت وبكى بصوت.

( فإذا صوت من الدار) أي صراخ وصياح.

( قال: فأرسلها عبد الله مرسلة) أي أطلق عبد الله بن عمر جملة: إن الميت ليعذب ببكاء أهله إطلاقاً، لم يقيدها بيهودي كما قيدتها عائشة، ولا بوصية كما قيد آخرون، ولا قال: ببعض بكاء أهله كما روى أبوه عمر بن الخطاب.

( فقال ابن عباس...) قصد ابن عباس بما سيروي أن يرد على ابن عمر إطلاقه العبارة دون قيد بأن أباه عمر قيدها ببعض بكاء أهله.
وفي رواية للبخاري فقال ابن عباس: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك.

( كنا مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) في رواية للبخاري صدرت مع عمر رضي الله عنه من مكة أي عقب أداء الحج.

( حتى إذا كنا بالبيداء) البيداء هي المفازة -أي الصحراء الواسعة المهلكة، والمراد منها هنا صحراء ما بين مكة والمدينة.

( ألم تعلم أو لم تسمع؟ قال أيوب: أو قال: أولم تعلم؟ أولم تسمع) أو شك من الراوي في أي العبارات ذكر فقوله: ألم تعلم الأولى استفهام عن العلم بدون واو بين الهمزة ولم، وقوله: لم تسمع الأولى بدون الهمز وبدون الواو وبينهما أو على معنى الاستفهام عن السمع، وقوله: أولم تسمع الثانية استفهام عن العلم بهمزة فواو مفتوحة، وقوله: أولم تسمع الثانية استفهام عن السمع بهمزة فواو مفتوحة، والاستفهام للتقرير، والهدف التوثيق بالرواية بمحاولة الحفاظ على أداء اللفظ المسموع.

( قال: فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال ببعض) القائل هو ابن أبي مليكة مقارناً بين ما سمعه من ابن عمر، وبين ما سمعه من ابن عباس عن عمر، وهذا الكلام معترض بين كلامي ابن عباس، فقوله بعد ذلك: فقمت من كلام ابن عباس.

( فقمت فدخلت) في الرواية الرابعة عشرة فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة.

( وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى) ظاهره أن الجملتين عن عائشة، والحق أن الأولى عن ابن عباس كما هو صريح ملحق الرواية الرابعة عشرة، ومعناها أن الدمع لا يملكه ابن آدم ولا تسبب له فيه فلا يؤاخذ فاعله فضلاً عن الميت.
ومعنى الآية الثانية أنه لا تحمل نفس لم تذنب وزر نفس أذنبت.

( إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين) بالتثنية، أي هما لا يتعمدان الكذب، ولا يليق بمسلم أن يكذبهما.

( ولكن السمع يخطئ) تعتبر خطأ حكمهما في سمعهما لا في حفظهما.

( إذ هو بركب تحت ظل شجرة) الركب أصحاب الإبل في السفر وهو للعشرة فما فوقها.

( حسبكم القرآن) أي كافيكم ما جاء في القرآن بهذا الخصوص.

( فوالله ما قال ابن عمر من شيء) قال الطيبي وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة فسكت مذعناً.
وقال الزين بن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان فلعله كره المجادلة في هذا المقام.

( سمع شيئاً فلم يحفظه) أي فأخطأ سمعه، أو نسي ما سمعه جيداً.

( وهل) بفتح الواو وكسر الهاء، وفتحها، أي غلط ونسي.

( وذاك مثل قوله...) تؤكد عائشة خطأ ابن عمر في روايته تعذيب الميت ببكاء أهله بأنه أخطأ كذلك في روايته إسماع الموتى، حيث روى البخاري عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أهل القليب فقال: وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: أتدعو أمواتاً؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون.

( قام على القليب يوم بدر) القليب بفتح القاف وكسر اللام: البئر العادية القديمة، والمراد هنا قليب بدر.

( وفيه قتلى بدر من المشركين) ورؤساؤهم أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة.

( وقد وهل) أخطأ ابن عمر في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنهم ليسمعون ما أقول.

( إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق) فهي تنفي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الموتى يسمعون، وتثبت أنهم يعلمون ما سمعوه قبل الموت.

( يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار) أي يقول عن الموتى: إنهم يسمعون حين تبوءوا مقاعدهم من النار في قبورهم.
واتخذوا منازلهم فيها.

( لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة) أي لما جاءه نعيهم وخبر قتلهم واستشهادهم، وخلاصة أمرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سنة ثمان من الهجرة سرية عددها ثلاثة آلاف مقاتل إلى أرض البلقاء من أطراف الشام فيما عرف بغزوة مؤتة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتلاقوا مع الكفار فاقتتلوا، فقتل زيد بن حارثة، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى قتل، فأخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله على يديه.

( جلس يعرف فيه الحزن) قال الطيبي: كأنه كظم الحزن فظهر ما لا بد للجبلة البشرية منه.

( قالت: وأنا أنظر من صائر الباب) القائل عائشة، وصائر الباب وصير الباب شقه الذي يعد للنظر منه.

( فأتاه رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمداً لما وقع في حقه من غض عائشة منه.
اهـ أي من قولها له: أرغم الله أنفك.

( إن نساء جعفر...) أي امرأته أسماء بنت عميس، ومن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر، ومن في معناهن، وخبر إن في هذه الرواية محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: فعلن كذا وكذا من البكاء والنوح مثلاً، وعند ابن حبان: قد أكثرن من بكائهن.

( فذهب) أي فنهاهن، فرجع، فأتاه صلى الله عليه وسلم.

( قالت: فزعمت أن رسول الله قال) الزعم يطلق على ما لا أصل له وعلى الأمر المحقق، ومنه زعم جبريل أنه لن تموت نفس قبل أن تستوفى.
وهو المراد هنا، والمعنى قالت عمرة: قالت عائشة: قال صلى الله عليه وسلم.

( اذهب فاحث في أفواههن من التراب) فاحث بضم الثاء وكسرها يقال: حثا يحثو، وحثا يحثى، ومن تبعيضية، وخص الأفواه دون الأعين مثلاً لأنها محل النوح، وهل الأمر على حقيقته وأنه مطلوب منه أن يحمل في يده تراباً يقذفه في أفواههن؟ الظاهر أن عائشة فهمت ذلك فقالت للرجل ما قالت، ولكن الأولى حمل الأمر على الكناية عن المبالغة والزجر، كأنه قال له: اذهب فاكتم أفواههن بوعيدهن بالخيبة وضياع الأجر.
ومن التوجيهات الحسنة هنا ما قيل من أن الأمر للتعجيز، أي إن كنت تستطيع فعل كذا فافعل لكنك لا تستطيع فكف عن المتابعة واسكت.

( أرغم الله أنفك) أي ألصقه بالرغام -بفتح الراء- وهو التراب ويقصد بهذه العبارة الدعاء بالإهانة والإذلال.
ودعت عليه لما فهمت من إحراجه النبي صلى الله عليه وسلم بإلحاحه وإلحافه وتردده عليه.

( والله ما تفعل) أي لن تفعل.
والظاهر أن الرجل المذكور كان يدخل ويعنف النسوة المذكورات.

( وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء) بفتح النون، أي المشقة والتعب، وفي ملحق الرواية من العي بكسر العين وتشديد الياء، وهو هنا بمعنى العناء.
فكأنها تقول له: لا أنت نجحت في رسالتك من الإنكار والتأديب ولا أنت تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعذرهن ويشفق عليهن لحرارة مصابهن.

( فما وفت منا امرأة إلا خمس) قال القاضي عياض: معنى الحديث لم يف ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلا المذكورات، لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة.
اهـ.

( وابنة أبي سبرة امرأة معاذ -أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ) ابنة أبي سبرة بفتح السين وسكون الباء الموحدة، والشك من أحد الرواة، قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي أن الرواية بواو العطف أصح.
اهـ.

وبالعطف يصبحن أربعاً، أم سليم أم أنس، وأم العلاء امرأة من الأنصار، وابنة أبي سبرة ولعل اسمها أم كلثوم الوارد في بعض الروايات عند الطبراني، وامرأة معاذ بن جبل واسمها أم عمرو، أما الخامسة فقيل: لعلها أم عطية راوية الحديث، ورد بأنها كانت لا تعد نفسها لذلك، لأنها في يوم الحرة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن.

ويوم الحرة كان في أيام يزيد بن معاوية، قتل فيه من الأنصار من لا يحصى عدده ونهبت المدينة الشريفة، وبذل فيها السيف ثلاثة أيام.

وقيل: لعلها كانت تعد نفسها حين روت الحديث قبل يوم الحرة، وأصبحت لا تعد نفسها بعد يوم الحرة، ويؤيده رواية الطبراني: فما وفت غيري وغير أم سليم....

فقه الحديث

البكاء دمع العين، وقد يصاحبه من القول أو الفعل ما هو مكروه أو حرام.

ولتحرير الأحكام الفقهية نقول:

أولاً: حزن القلب ودمع العين من غير أن يصاحبهما سخط على القضاء، أو جزع شديد في القلب، أو اعتراض نفسي على القدر، ومن غير أن يصاحبهما قول أو فعل يغضب الرب، هذا النوع لا شيء فيه شرعاً.

على معنى أنه مباح باعتباره مسايراً للطبيعة البشرية، بل قد يكون ممدوحاً شرعاً إذا نبع من العاطفة المشروعة، والرحمة التي أنزلها الرحمن في قلوب الرحماء، والتي بها يتراحم الخلق.

ومن هذا القبيل بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، وقوله: إن القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

وبكاؤه صلى الله عليه وسلم عندما رفع إليه ابن ابنته وهو في حضرة الموت، وقوله في روايتنا الثانية: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

وبكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء أصحابه عند عيادتهم لسعد بن عبادة في روايتنا الثالثة وقوله: إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب.

وبناء على هذا يحمل ما ورد من مؤاخذات على البكاء أو من نهي عنه على أنه لم يكن من هذا النوع، بل كان مصاحباً لممنوع شرعي، وإن اختلفت درجات المنع باختلاف الفعل.

فبكاء المرأة على قبر صبيها -في روايتنا السادسة- محمول على أنه كان مصاحباً للصراخ والعويل والهلع، وحال المرأة وردها العنيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يوحي أنها فقدت الصبر قرينة على ذلك.

وبكاء حفصة على أبيها -عمر رضي الله عنهما- كما ما جاء في روايتنا السابعة، وبكاء صهيب على عمر، كما جاء في روايتنا الحادية عشرة محمول على أنه كان مصاحباً للصراخ والصياح والعويل، بدليل ما جاء في روايتنا التاسعة: لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه وما جاء في روايتنا العاشرة: جعل صهيب يقول: وا أخاه وروايتنا الثانية عشرة: أن عمر لما طعن عولت عليه حفصة.

وإذا كان دمع العين وحزن القلب مشروعاً عند موت عزيز، كان من غير المقبول عقلاً وشرعاً أن يعذب الله الميت بفعل مشروع للحي.

فلا يدخل مثل هذا قطعاً في الحديث إن الميت ليعذب ببكاء الحي.

ثانياً: أفعال الجاهلية التي ورد النهي عنها وجاء فيها الوعيد الشديد حرام بإجماع العلماء، بل هي من الكبائر، ومنها ضرب الخدود، وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، ففي الصحيح: ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
رواه البخاري.
وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور.

ومنها حلق المرأة شعر رأسها ورفع التراب، والصياح، والصراخ، والنياحة والندبة، والولولة، وتلطيخ الوجه بالأزرق، وشنق الرقبة بشق من الثياب، وغير ذلك كإحداد المرأة أكثر من ثلاث على غير زوج أو أكثر من أربعة أشهر وعشرة على زوج.

في كل ذلك وردت أحاديث صحيحة ومحتج بها.

ويلحق بهذا إحداد الرجل بإطلاق شعره وشعر لحيته والامتناع عن الغسل وعن أنواع معينة من الطعام والشراب، ولكن حرمة هذا الأخير لا تبلغ حرمة ما سبق من أفعال النساء.

وكل هذا واضح من الأدلة، ولا تعارض ولا نزاع فيه.
وإنما المشكل في هذا الباب عذاب الميت بصراخ أهله عليه، والأحاديث ظاهرها التعارض، فأحاديث عمر وابن عمر صريحة في عذاب الميت، وأحاديث عائشة رافضة لعذابه ببكاء أهله، قاطعة بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، والعلماء في هذا الإشكال يخوضون بعضهم يؤيد عمر وابنه، وبعضهم يؤيد عائشة، وبعضهم يحاول الجمع والتوفيق.

فالفريق الأول لا يوافق عائشة من وجوه:

الأول: أن عائشة -رضي الله عنها- نافيه، والنافي الدقيق ينفي العلم ولا ينفي الوقوع، فما كان لها أن تقول في روايتنا الثالثة عشرة: لا.
والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد.
وما كان لها أن تقول في روايتنا الرابعة عشرة: لا.
والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد؛ لأنها لم تحط بجميع أقواله صلى الله عليه وسلم في جميع أوقات حياته، وكانت الدقة أن تقول: لا أعلم أنه قال كذا، وإنما أعلم أنه قال كذا.
حينئذ لا يلزم من عدم علمها بشيء عدم وقوعه.
كما لا يلزم من سماعها قولا عدم سماع غيرها لقول آخر.

الثاني: قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً، بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.

الثالث: قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة [روايتنا الرابعة عشرة] أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها [فرواية عمرة السابعة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب ميت ببكاء الحي، ورواية عروة الخامسة عشرة والسادسة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب الميت ببكاء أهله عليه، فالروايتان تنفيان عذاب أي ميت ببكاء أهله، ورواية ابن عباس الثالثة عشرة والرابعة عشرة من رواياتنا تثبت زيادة عذاب لبعض الموتى ببكاء أهله إلا أنها خصته بالكافر، لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله.
فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء؟]
.

الرابع: أن عائشة حين روت حديث عمر، وحديث ابنه لم تعارضهما بحديث مخالف لهما في الحكم، بل بما استشعرته من معارضة القرآن، وهذا فهم منها يقابله فهم سائغ آخر في تفسير الآية كما سيأتي.

والفريق الثاني لا يوافق ابن عمر في أن الميت يعذب بسبب بكاء أهله، فهم يرون أنه لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أحد عليه، وإلى هذا جنح بعض الشافعية، وقد رواه أبو يعلى عن أبي هريرة من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة: والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت امرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه، ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة؟.

وهذا الفريق بعضهم يرد الحديث رداً كما فعلت عائشة، وبعضهم يقبله ويؤوله، فيجعل الباء في ببكاء أهله للحال، لا للسببية، أي إن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه.

وذلك أن شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدئ بالسؤال عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: إن الميت يعذب في حالة بكاء أهله عليه، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض الموتى.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه من التكلف.
اهـ.

وبعضهم يقبله ويؤوله: فيقول: إن معنى يعذب ببكاء أهله أي يعذب بالفعل الذي يذكرونه به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من المحرمات المنهي عنها، فهي قبائح في الشرع ومحاسن في زعمهم كقولهم: يا سبع الجبال، يا مخيف الرجال، يا كاتم الأنفاس، يا شديد البأس.
ويرون ذلك شجاعة وفخراً.
وهي وإن كانت شجاعة لكنها صرفت في غير طاعة، وقد يعددون عليه بالجود الذي أنفقه في المعاصي، فهو يعذب بصنيعه الذي يمدحونه به، أي يعذب بما يبكى عليه به.
واختار هذا التأويل ابن حزم وطائفة.

وعلى هذين التأويلين لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أهله.
كما ذهبت عائشة.

الفريق الثالث: يجمع بين الحديثين، فيقيد كلا منهما بقيد يرفع التعارض بينهما.

وقد اتجهت قيودهم ثلاثة اتجاهات:

1- اتجاه تقييد العذاب على معنى أنه يعذب بنوع ولا يعذب بنوع، أي المثبت نوع، والمنفي نوع آخر، فالمثبت توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما روي في مسند الإمام أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه؟ واناصراه؟ واكاسياه؟ جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ والمنفي عذاب النار.

أو المثبت تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة، والمنفي عذاب الآخرة.

2- واتجاه تقييد الزمان والمكان على معنى يعذب في البرزخ ولا يعذب يوم القيامة.
حكاه الكرماني وحسنه.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: { { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } } [الأنفال: 25] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب.

3- واتجاه تقييد الميت بصفة، على معنى:

( أ) يعذب ببكاء أهله من أهمل نهي أهله عن ذلك قبل موته وهو يعلم أنهم لهم بذلك عادة، ويعلم ما جاء في النهي عن النوح، ولا يعذب من ليس كذلك.

قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.

( ب) أو على معنى يعذب ببكاء أهله من أوصى بالنياحة، ولا يعذب ببكاء أهله من لم يوص، واعترض عليه بأن من أوصى عذب، سواء أعمل أهله بالوصية أم لم يعملوا.
وأجيب بأن عذابه إن عملوا فوق عذابه إن لم يعملوا.

قال بهذا التأويل كثير من الشافعية وغيرهم.
وقال السمرقندي: أنه قول عامة أهل العلم.
ونقله النووي عن الجمهور، وهو مؤيد بحديث: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
وموافق لظاهر قوله تعالى: { { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } } [العنكبوت: 13] ولا يعترض عليه بقوله تعالى: { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } [الأنعام: 164] فإن العذاب حينئذ على وزر نفسه.

وقال الحافظ ابن حجر في ختام بحث هذه المسألة: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته، وبالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله، واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم، من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
والله أعلم.

ويؤخذ من الأحاديث

1- من إرسال إحدى بناته صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر رجاء بركتهم ودعائهم.

2- وإخبار من يستدعى بالأمر الذي يستدعى من أجله.

3- وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت، ليقع وهو مستشعر بالرضا، مقاوم للحزن بالصبر.

4- من عدم مبادرته صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعوة جواز المبالغة في إظهار التسليم لله.

5- وأن من دعي لمثل ذلك، لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة.

6- ومن إقسامها جواز الإلحاح، وقسم الرجاء في مثل هذه الأمور.

7- واستحباب إبراز القسم.

8- وعيادة المريض، ولو كان مفضولاً أو صبياً صغيراً.

9- ومن قيام سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل مع النبي صلى الله عليه وسلم، جواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذن صاحبها، بخلاف الوليمة.

10- ومن سؤال سعد استفهام التابع من إمامه عما يشكل مما يتعارض ظاهره.

11- ومن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم جواز البكاء من غير نوح ونحوه.

12- ومن إجابته صلى الله عليه وسلم الترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجحود العين.

13- ومن الرواية الثالثة والرابعة استحباب عيادة المريض.

14- وعيادة الفاضل للمفضول.

15- وعيادة القاضي والعالم لأتباعه.

16- وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الزهد في الدنيا والتقليل منها، وعدم الاهتمام بفاخر اللباس.

17- وجواز المشي حافياً.

18- ومن استئخار قوم سعد تكريم الزائر، وأهل الفضل، والتوسعة لهم.

19- ومن الرواية السادسة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل.

20- ومسامحة المصاب، وقبول اعتذاره.

21- وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

22- وأن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس.

23- وأن من أمر بمعروف، ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر.

24- وأن الجزع من المنهيات، لأمره لها بالتقوى، مقروناً بالصبر.

25- والترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة، ونشر الموعظة.

26- واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة، وستأتي في باب مستقل.

27- وأن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه، ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على الأيام يسلو، وحكى عن بعضهم أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته، وجميل صبره.

28- ومن الرواية السابعة والثامنة المبادرة بنهي الأهل عن المنكر لقوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } } [التحريم: 6] وقوله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع ومسئول عن رعيته.

29- ومن الرواية الثالثة عشرة استحباب الجلوس والاجتماع لانتظار الجنازة.

30- ومن جلوس عبد الله بن أبي مليكة بين عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وهما أفضل منه بالصحبة والعلم والفضل والصلاح والنسب والسن وغير ذلك جواز جلوس المفضول بين الفاضلين لعذر.
قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق.

31- ومن حرص ابن عباس على الجلوس عند ابن عمر حرص أهل الفضل أن يجلسوا إلى أهل الفضل.

32- ومن قول عائشة: لا.
والله ما قال....
جواز الحلف بغلبة الظن بقرائن، وإن لم يقطع الإنسان.
قال النووي: وهذا مذهبنا.

33- ومن قول ابن عباس: والله أضحك وأبكى التعقيب على الآراء وتأييدها بما يحضر من القرآن.

34- ومن سكوت ابن عمر حرصه على عدم الجدل والمماراة.

35- ومن دعاء عائشة لعمر وابنه قبل تخطئتهما أدب أم المؤمنين وإحسانها لمن يتأذى بقولها.

36- ومن الرواية السابعة عشرة حسن ظن الصحابة بعضهم ببعض، وعدم تكذيب بعضهم بعضاً والتماس العذر لمن أخطأ.

37- ومن الرواية التاسعة التحذير والتنفير من الفخر في الأنساب.

38- والطعن في الأنساب.

39- والاستسقاء بالنجوم.

40- والنياحة، وهي حرام بالإجماع وهي من الأجنبيات عن الميت أشد إثماً.

41- وفيها صحة التوبة ما لم يمت المكلف، ولم يصل إلى الغرغرة.

42- وفيها أن جزاء يوم القيامة من جنس العمل، فقد كانت النائحة تلبس السواد وتولول وتحرك يديها يمينا وشمالاً وأعلى وأسفل.

43- ومن الرواية المتممة للعشرين وجلوسه صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن استحباب إظهار الحزن.
قال العلماء: إظهار الحزن أبلغ في الصبر وأزجر للنفس، لكن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من النوح والشهيق ونحوها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب.

44- ومن نهي نساء جعفر عن البكاء، أخذ بعضهم جواز النهي عن الأمر المباح عند خشية إفضائه إلى محرم، لكن الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فالنهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن.

45- وفي الحديث جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار.

46- وجواز نظر النساء المتحجبات إلى الرجال الأجانب.

47- وتأديب من نهي عما لا ينبغي له فعله إذا لم ينته.

48- وجواز اليمين لتأكيد الخبر.

49- ومن الرواية الواحدة بعد العشرين تحريم النوح وتعظيم قبحه والاهتمام بإنكاره، والزجر عنه لأنه مهيج للحزن ورافع للصبر، ومظهر من مظاهر عدم التسليم للقضاء، ومنقبة للمذكورات اللائي كن من الوفيات بالبيعة.

50- أما الرواية الثالثة والعشرون فقد قال النووي: فيها الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة كما هو ظاهر، ولا تحل النياحة لغيرها ولا لها في غير آل فلان.
كما هو صريح في الحديث وللشارع أن يخص من العموم ما شاء.

قال: فهذا هو صواب الحكم في هذا الحديث.
واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث، وقالوا فيه أقوالاً عجيبة.
قال: ومقصودي التحذير من الاغترار بها، حتى إن بعض المالكية قال: النياحة ليست بحرام، بهذا الحديث وقصة نساء جعفر، قال: وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية، كشق الجيوب، وخمش الخدود، ودعوى الجاهلية.

والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن النياحة حرام مطلقاً وهو مذهب العلماء كافة، وليس فيما قاله هذا القائل دليل صحيح، لما ذكرنا، انتهى.

والله أعلم