هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
18 حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
18 حدثنا أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله ، أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، وحوله عصابة من أصحابه : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،  عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ .

Narrated 'Ubada bin As-Samit:

who took part in the battle of Badr and was a Naqib (a person heading a group of six persons), on the night of Al-'Aqaba pledge: Allah's Apostle said while a group of his companions were around him, Swear allegiance to me for:

1. Not to join anything in worship along with Allah.

2. Not to steal.

3. Not to commit illegal sexual intercourse.

4. Not to kill your children.

5. Not to accuse an innocent person (to spread such an accusation among people).

6. Not to be disobedient (when ordered) to do good deed.

The Prophet (ﷺ) added: Whoever among you fulfills his pledge will be rewarded by Allah. And whoever indulges in any one of them (except the ascription of partners to Allah) and gets the punishment in this world, that punishment will be an expiation for that sin. And if one indulges in any of them, and Allah conceals his sin, it is up to Him to forgive or punish him (in the Hereafter). 'Ubada bin As-Samit added: So we swore allegiance for these. (points to Allah's Apostle)

0018 ‘Ubâda ben as-Samit, qui avait participé à la bataille de Badr et était l’un des délégués à la nuit du serment d’al-’Aqaba, rapporte : Entouré d’un groupe de ses Compagnons, le Messager de Dieu dit : « Prêtez-moi serment d’allégeance sur ce qui suit: n’associer à Dieu nulle autre chose, ne pas voler, ne pas forniquer, ne pas tuer vos enfants, ne pas forger de mensonges et calomnier autrui, ne pas être désobéissant lorsqu’il s’agit d’un certain bien. Celui qui respecte cela se récompense incombera à Dieu; celui qui transgresse l’une de ces choses et est alors puni dans l’ici-bas, cette punition lui sera considérée comme une expiation. Enfin, celui qui commet une transgression que Dieu tient cachée son cas revient à Dieu: soit qu’Il lui pardonnera, soit qu’Il le punira, cela dépend de Sa volonté.«  Après cela, nous lui prêtâmes serment d’allégeance.

":"ہم سے اس حدیث کو ابوالیمان نے بیان کیا ، ان کو شعیب نے خبر دی ، وہ زہری سے نقل کرتے ہیں ، انہیں ابوادریس عائذ اللہ بن عبداللہ نے خبر دی کہعبادہ بن صامت رضی اللہ عنہ جو بدر کی لڑائی میں شریک تھے اور لیلۃالعقبہ کے ( بارہ ) نقیبوں میں سے تھے ۔ فرماتے ہیں کہ رسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم نے اس وقت جب آپ کے گرد صحابہ کی ایک جماعت بیٹھی ہوئی تھی فرمایا کہ مجھ سے بیعت کرو اس بات پر کہ اللہ کے ساتھ کسی کو شریک نہ کرو گے ، چوری نہ کرو گے ، زنا نہ کرو گے ، اپنی اولاد کو قتل نہ کرو گے اور نہ عمداً کسی پر کوئی ناحق بہتان باندھو گے اور کسی بھی اچھی بات میں ( خدا کی ) نافرمانی نہ کرو گے ۔ جو کوئی تم میں ( اس عہد کو ) پورا کرے گا تو اس کا ثواب اللہ کے ذمے ہے اور جو کوئی ان ( بری باتوں ) میں سے کسی کا ارتکاب کرے اور اسے دنیا میں ( اسلامی قانون کے تحت ) سزا دے دی گئی تو یہ سزا اس کے ( گناہوں کے ) لیے بدلا ہو جائے گی اور جو کوئی ان میں سے کسی بات میں مبتلا ہو گیا اور اللہ نے اس کے ( گناہ ) کو چھپا لیا تو پھر اس کا ( معاملہ ) اللہ کے حوالہ ہے ، اگر چاہے معاف کرے اور اگر چاہے سزا دیدے ۔ ( عبادہ کہتے ہیں کہ ) پھر ہم سب نے ان ( سب باتوں ) پر آپ صلی اللہ علیہ وسلم سے بیعت کر لی ۔

0018 ‘Ubâda ben as-Samit, qui avait participé à la bataille de Badr et était l’un des délégués à la nuit du serment d’al-’Aqaba, rapporte : Entouré d’un groupe de ses Compagnons, le Messager de Dieu dit : « Prêtez-moi serment d’allégeance sur ce qui suit: n’associer à Dieu nulle autre chose, ne pas voler, ne pas forniquer, ne pas tuer vos enfants, ne pas forger de mensonges et calomnier autrui, ne pas être désobéissant lorsqu’il s’agit d’un certain bien. Celui qui respecte cela se récompense incombera à Dieu; celui qui transgresse l’une de ces choses et est alors puni dans l’ici-bas, cette punition lui sera considérée comme une expiation. Enfin, celui qui commet une transgression que Dieu tient cachée son cas revient à Dieu: soit qu’Il lui pardonnera, soit qu’Il le punira, cela dépend de Sa volonté.«  Après cela, nous lui prêtâmes serment d’allégeance.

شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [18] .

     قَوْلُهُ  عَائِذُ اللَّهِ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ أَيْ ذُو عِيَاذَةٍ بِاللَّهِ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ صَحَابِيٌّ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّ لَهُ رُؤْيَةً وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ حُنَيْنٍ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا يَعْنِي حَضَرَ الْوَقْعَةَ الْمَشْهُورَةَ الْكَائِنَةَ بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِبَدْرٍ وَهِيَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ قَاتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْمَغَازِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ أَبُو إِدْرِيسَ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ أَوِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا وَكَذَا .

     قَوْلُهُ  وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ .

     قَوْلُهُ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ قَبْلَهَا مِنْ أَصْلِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ قَالَ وَهُوَ خَبَرُ أَنَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضٌ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِحَذْفِ قَالَ خَطَأً لَكِنْ حَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي مِثْلِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّطْقِ بِهَا وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بَابِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَلَعَلَّهَا سَقَطَتْ هُنَا مِمَّنْ بَعْدَهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عُبَادَةَ حَدَّثَهُ .

     قَوْلُهُ  وَحَوْلَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَالْعِصَابَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا وَقَدْ جُمِعَتْ عَلَى عَصَائِبَ وَعُصَبٍ .

     قَوْلُهُ  بَايِعُونِي زَادَ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي وَالْمُبَايَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعَاهَدَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بَان لَهُم الْجنَّة .

     قَوْلُهُ  وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ خُصَّ الْقَتْلُ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ فَالْعِنَايَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ آكَدُ وَلِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيهِمْ وَهُوَ وَأْدُ الْبَنَاتِ وَقَتْلُ الْبَنِينَ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ أَوْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِلِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ لَا يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَوْله وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان الْبُهْتَان الْكَذِب الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ وَخَصَّ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ تَقَعُ بِهِمَا إِذْ كَانَتْ هِيَ الْعَوَامِلَ وَالْحَوَامِلَ لِلْمُبَاشَرَةِ وَالسَّعْيِ وَكَذَا يُسَمُّونَ الصَّنَائِعَ الْأَيَادِيَ وَقَدْ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ بِجِنَايَةٍ قَوْلِيَّةٍ فَيُقَالُ هَذَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَبْهَتُوا النَّاسَ كِفَاحًا وَبَعْضُكُمْ يُشَاهِدُ بَعْضًا كَمَا يُقَالُ.

.

قُلْتُ كَذَا بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِذِكْرِ الْأَرْجُلِ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَيْدِي وَذَكَرَ الْأَرْجُلَ تَأْكِيدًا وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَرْجُلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا فَلَيْسَ بِمَانِعٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ الْقَلْبَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ نُسِبَ إِلَيْهِ الِافْتِرَاءُ كَأَنَّ الْمَعْنَى لَا تَرْمُوا أَحَدًا بِكَذِبٍ تُزَوِّرُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ تَبْهَتُونَ صَاحِبَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ.

     وَقَالَ  أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبَى جَمْرَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ .

     قَوْلُهُ  بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَيْ فِي الْحَالِ وَقَولُهُ وَأَرْجُلِكُمْ أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَرْجُلِ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ أَصْلُ هَذَا كَانَ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَكَنَّى بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ نِسْبَةِ الْمَرْأَةِ الْوَلَدَ الَّذِي تَزْنِي بِهِ أَوْ تَلْتَقِطُهُ إِلَى زَوْجِهَا ثُمَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعَةِ الرِّجَالِ احْتِيجَ إِلَى حَمْلِهِ على غير مَا ورد فِيهِ أَو لَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  وَلَا تَعْصُوا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ وَلَا تَعْصُونِي وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ وَالْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ مِنَ الشَّارِعِ حُسْنُهُ نَهْيًا وَأَمْرًا .

     قَوْلُهُ  فِي مَعْرُوفٍ قَالَ النَّوَوِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَعْصُونِي وَلَا أَحَدَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ بَعْدَهُ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مَعْصِيَةِ لِلَّهِ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالتَّوَقِّي فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ .

     قَوْلُهُ  فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ أَيْ ثَبَتَ عَلَى الْعَهْدِ وَوَفَى بِالتَّخْفِيفِ وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّشْدِيدِ وَهُمَا بِمَعْنًى .

     قَوْلُهُ  فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَطْلَقَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُبَايَعَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُودِ الْعِوَضَيْنِ أَثْبَتَ ذِكْرَ الْأَجْرِ فِي مَوْضِعِ أَحَدِهِمَا وَأَفْصَحَ فِي رِوَايَةٍ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عِبَادَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِتَعْيِينِ الْعِوَضِ فَقَالَ بِالْجنَّةِ وَعَبَّرَ هُنَا بِلَفْظِ عَلَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاجِبَاتِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ تَقْرِيرُ هَذَا فَإِنْ قِيلَ لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَأْمُورَاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْهَا بَلْ ذَكَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ وَلَا تَعْصُوا إِذِ الْعِصْيَانُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ أَن الْكَفّ أيسر من إِن شَاءَ الْفِعْلِ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى اجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ وَالتَّخَلِّيَ عَنِ الرَّذَائِلِ قَبْلَ التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ بِهِ .

     قَوْلُهُ  فَهُوَ أَيِ الْعِقَابُ كَفَّارَةٌ زَادَ أَحْمَدُ لَهُ وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَزَادَ وَطَهُورٌ قَالَ النَّوَوِيُّ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فَالْمُرْتَدُّ إِذَا قُتِلَ عَلَى ارْتِدَادِهِ لَا يَكُونُ الْقَتْلُ لَهُ كَفَّارَةً.

.

قُلْتُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَدْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَدْخُلُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا إِذِ الْقَتْلُ عَلَى الشِّرْكِ لَا يُسَمَّى حَدًّا لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ لِتَرَتُّبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَخِطَابُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِّ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ فَالصَّوَابُ مَا قَالَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشِّرْكِ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْئًا أَيْ شِرْكًا أَيًّا مَا كَانَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُرْفَ الشَّارِعِ إِذَا أَطْلَقَ الشِّرْكَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُقَابِلَ التَّوْحِيدَ وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ وَيُجَابُ بِأَنَّ طَلَبَ الْجَمْعِ يَقْتَضِي ارْتِكَابَ الْمَجَازِ فَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌوَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَقِبَ الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرِّيَاءِ لَا عُقُوبَةَ فِيهِ فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا لَكِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَيُمْكِنُ يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَعْلَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

.

قُلْتُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَة معمر عَن بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ فَأَرْسَلَهُ.

.

قُلْتُ وَقَدْ وَصَلَهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاس عَن بن أَبِي ذِئْبٍ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَالْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْقَاضِي حَسَنٌ لَكِنَّ الْقَاضِيَ وَمَنْ تَبِعَهُ جَازِمُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَةَ الْأُولَى بِمِنًى وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ عَامَ خَيْبَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَدِيثُهُ مُتَقَدِّمًا وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ كَانَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمًا وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ كَمَا سَمِعَهُ عُبَادَةُ وَفِي هَذَا تَعَسُّفٌ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ وَأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ وَالْمُبَايَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَقَعْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْعقبَة مَا ذكر بن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَيْضًا قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ الْحَدِيثَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ جَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ وَلَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى وَأَلْفَاظٌ قَرِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبَيْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ صَدَرَتْ مُبَايَعَاتٌ أُخْرَى سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا هَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ الْمَذْكُورَةِ وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمُمْتَحِنَةِ وَهِيَ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُمْ قَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا وَعِنْدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ قَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ قَالَ أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَنِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْدَ نُزُولِالْآيَةِ بَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْبَيْعَةِ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمدَّة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ بن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن بن عُمَرَ اه وَإِذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَحَدَ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَا مِمَّنْ حَضَرَ بَيْعَتَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامُهُ قُرْبَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَضَحَ تَغَايُرُ الْبَيْعَتَيْنِ بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَيْعَةٌ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَشَهِدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَكَانَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِالْتِبَاسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَضَرَ الْبَيْعَتَيْنِ مَعًا وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مِنْ أَجَلِّ مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ فَكَانَ يَذْكُرُهَا إِذَا حَدَّثَ تَنْوِيهًا بِسَابِقِيَّتِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ ذَلِكَ تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْبَيْعَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ وَنَظِيرُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اتِّحَادِ الْبَيْعَتَيْنِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ الْحَرْبِ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ الْحَرْبَ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَة وَيُمكن تَأْوِيل رِوَايَة بن إِسْحَاقَ وَرَدُّهَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ رِوَايَتُهُ عَلَى ثَلَاثِ بَيْعَاتٍ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَقَدْ صرح أَنَّهَا كَانَت قبل أَن يفْرض الْحَرْبُ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّانِيَةُ بَيْعَةُ الْحَرْبِ وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ وَالثَّالِثَةُ بَيْعَةُ النِّسَاءِ أَيْ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى نَظِيرِ بَيْعَةِ النِّسَاء وَالرَّاجِح أَن التَّصْرِيح بذلك وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيُعَكِّرُ على ذَلِك التَّصْرِيح فِي رِوَايَة بن إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ بَيْعَةَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ كَانَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَاتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى النِّسَاءِ لِضَبْطِهَا بِالْقُرْآنِ وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ فَظَاهِرُ هَذَا اتِّحَادُ الْبَيْعَتَيْنِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَا قَرَّرْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا أَيْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى الْإِيوَاءِ وَالنَّصْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ بَايَعْنَاهُ إِلَخْ أَيْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي قَوْلِهِ.

     وَقَالَ  بَايَعْنَاهُ وَعَلَيْكَ بِرَدِّ مَا أَتَى مِنَ الرِّوَايَاتِ مُوهِمًا بِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي نَهَجْتْ إِلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَلَا يَبْقَى بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُبَادَةَ تَعَارُضٌ وَلَا وَجْهَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّوَقُّفِ فِي كَوْنِ الْحُدُودِ كَفَّارَةً وَاعْلَمْ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِرِوَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ رَوَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَفِيهِ مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ الْعُقُوبَةَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبَى تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابت بِإِسْنَادحَسَنٍ وَلَفْظُهُ مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ بن عَمْرو مَرْفُوعًا مَا عُوقِبَ رَجُلٌ عَلَى ذَنْبٍ إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَةً لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ مَنْ أَزَالَ اللَّبْسَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ وَاللَّهُ الْهَادِي .

     قَوْلُهُ  فَعُوقِبَ بِهِ قَالَ بن التِّينِ يُرِيدُ بِهِ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْجَلْدَ أَو الرَّجْم فِي الزِّنَى قَالَ.

.
وَأَمَّا قَتْلُ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ مَعْلُومَةٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَتْلَ النَّفْسِ فَكَنَّى عَنْهُ.

.

قُلْتُ وَفِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَعُوقِبَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تكون الْعقُوبَة حدا أَو تعزيرا قَالَ بن التِّينِ وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَتْلَ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ رَادِعٌ لِغَيْرِهِ.

.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالطَّلَبُ لِلْمَقْتُولِ قَائِمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَقٌّ.

.

قُلْتُ بَلْ وَصَلَ إِلَيْهِ حق وَأي حَقٍّ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَحَّحَهُ بن حِبَّانَ وَغَيْرُهُ إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَعَنِ بن مَسْعُودٍ قَالَ إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ مَحَا كُلَّ شَيْءٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوُهُ وَلِلْبَزَّارِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ فَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ وَأَيُّ حَقٍّ يَصِلُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَتْلِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلرَّدْعِ فَقَطْ لَمْ يُشْرَعِ الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ وَهَلْ تَدْخُلُ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَغَيْرِهَا فِيهِ نَظَرٌ وَيَدُلُّ لِلْمَنْعِ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ لَا تُنَافِي السَّتْرَ وَلَكِنْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ أَنَّ الْمَصَائِبَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبِ الْمَحْدُودُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلٌ للمعتزلة وَوَافَقَهُمْ بن حَزْمٍ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ تَابَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  فَهُوَ إِلَى الله قَالَ الْمَازِني فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ وَرَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيبَ الْفَاسِقِ إِذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَفِّ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالنَّارِ عَلَى أَحَدٍ أَوْ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ بِعَيْنِهِ.

.

قُلْتُ أَمَّا الشِّقُّ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ.

.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ .

     قَوْلُهُ  إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ يَشْمَلُ مَنْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ.

     وَقَالَ  بِذَلِكَ طَائِفَةٌ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَابَ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ هَلْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَوْ لَا وَقِيلَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا يَجِبُ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَتُوبَ سِرًّا وَيَكْفِيَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ بَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ وَيَعْتَرِفَ بِهِ وَيَسْأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِنَ بِتَوْبَتِهِ وَإِلَّا فَلَا تَنْبِيهٌ زَادَ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَنْتَهِبُ وَهُوَ مِمَّا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْبَيْعَةَ مُتَأَخِّرَةٌ لِأَنَّ الْجِهَادَ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَابِ مَا يَقَعُ بَعْدَ الْقِتَالِ فِي الْغَنَائِمِ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا وَلَا يَعْصِي بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ وَوَقَعَ عِنْدَهُ وَلَا يَقْضِي بِقَافٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ فِي تَخْرِيجِهِ.

     وَقَالَ  إِنَّهُ نَهَاكُمْعَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِيَ قَضَاءَ فِلَسْطِينَ فِي زَمَنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ بِالْجَنَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِيَقْضِي أَيْ لَا يَقْضِي بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ.

.

قُلْتُ لَكِنْ يَبْقَى .

     قَوْلُهُ  إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِلَا جَوَابٍ وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ دَعْوَى التَّصْحِيفِ فِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ قُتَيْبَةَ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ اللَّيْثِ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ لَكِنْ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَافِ وَالضَّادِ أَيْضًا وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَولُهُ بِالْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بقوله فِي أَوله بَايَعْنَاهُ وَالله أعلم ( قَولُهُ بَابُ مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ) عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنِ التَّرْجَمَةِ بِالْإِيمَانِ مَعَ كَوْنِهِ تَرْجَمَ لِأَبْوَابِ الْإِيمَانِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ مُتَرَادِفَيْنِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ.

     وَقَالَ  اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ صَحَّ إِطْلَاقُ الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْإِيمَانِ

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [18] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ.
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ».
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
[الحديث أطرافه في: 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468] .
وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي ( قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة القرشي ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة وهو اسم علم أي ذو عياذة الله فهو عطف بيان لقوله أبو إدريس ( بن عبد الله) الصحابي ابن عمر الخولاني الدمشقي الصحابي، لأن مولده كان عام حُنين، التابعي الكبير من حيث الرواية المتوفى سنة ثمانين، ( أن عبادة) بضم العين ( ابن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، وله في البخاري تسعة أحاديث ( رضي الله عنه وكان شهد بدرًا) أي وقعتها، فالنصب بقوله شهد وليس مفعولاً فيه، ( وهو أحد النقباء) جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم وكانوا اثني عشر رجلاً ( ليلة العقبة) بمنى، أي فيها والواو في وهو كواو وكان هي الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أن كون شهود عبادة بدر أو كونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواوان للحال ولا للعطف، قاله العيني.
وهذا ذكره ابن هشام في مغنيه حاكيًا له عن الزمخشري في كشافه، وعبارته في تفسير قوله تعالى في سورة الحجر { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُوم} [الحجر: 4] جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون} [الشعراء: 208] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب انتهى.
وتعقبه ابن مالك في شرح تسهيله بأن ما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد، لأن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف من البصريين ولا من الكوفيين معوّل عليه، فوجب أن لا يلتفت إليه.
وأيضًا فإنه معلل بما لا يناسب، وذلك لأن الواو تدلعلى الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وأيضًا مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يصح أن يقال للعاطف مؤكد.
وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلح للحال، نحو إن رجلاً رأيه سديد لسعيد، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يجوز اقترانها بالواو ولعدم صلاحيتها للحال، بخلاف { ولها كتاب معلوم} فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي.
وتعقبه نجم الدين سعيد على الوجه الأوّل بأن الزمخشري أعرف باللغة مع أنه لا يلزم من عدم العرفان بالمعوّل عليه عدمه، وعلى الثاني أن تغاير الشيئين لا ينافي تلاصقهما، والجملة التي هي صفة لها التصاق بالموصوف، والواو أكدت الالتصاق باعتبار أنها في أصلها للجمع المناسب للإلصاق لا أنها عاطفة، وعلى الثالث أن المراد من الالتصاق ليس الالتصاق اللفظي كما فهمه ابن مالك بل المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأوّل.
وتعقبه البدر الدماميني بأن قوله أعرف باللغة مجرد دعوى مع أنها لو سلمت لا تصلح لردّ أن هذا المذهب غير معروف لبصري ولا كوفي، وإنما وجه الردّ أن يقال بل هو معروف، ويبيّن من قاله منهم انتهى.
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبو البقاء، وقال في الدران في محفوظه أن ابن جني سبق الزمخشري بذلك وقوّاه بآية { إلا لها منذرون} وقراءة ابن أبي عبلة إلا لها كتاب بإسقاط الواو، ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس فيكون متصلاً إن حمل على أنه سمع ذلك من عبادة أو الزهري، فيكون منقطعًا.
والجملة اعتراض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا، ولعلها سقطت من ناسخ بعده.
واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا والتقدير هنا أن عبادة بن الصامت أخبر ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وحوله) بالنصب على الظرفية ( عصابة من أصحابه) بكسر العين ما بين العشرة إلى الأربعين، والجملة اسمية حالية وعصابة مبتدأ خبره حوله مقدمًا، ومن أصحابه صفة لعصابة، وأشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان، ولذا ذكر أن الراوي شهد بدرًا وأنه أحد النقباء والمراد به التقوية، فإن الرواية تترجح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه.
ومقول قوله عليه الصلاة والسلام.
( بايعوني) أي عاقدوني ( على) التوحيد ( أن لا تشركوا بالله شيئًا) أي على ترك الإشراك وهو عام، لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي، وقدمه على ما بعده لأنه الأصل.
( و) على أن ( لا تسرقوا) فيه حذف المفعول ليدل على العموم، ( ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصّهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأن قتلهم أكثر من قتل غيرهم، وهو الوأد وهو أشنع القتل، أو أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر.
( ولا تأتوا) بحذف النون، ولغير الأربعة ولا تأتون ( ببهتان) أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا والفضيحة والعار.
وقوله ( تفترونه) من الافتراء أي تختلقونه ( بين أيديكم وأرجلكم) أي من قبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات لأن الأفعال بهما، والمعنى لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم أو أن البهتان ناشىء عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، والمعنى لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحًا مواجهة، ( ولا تعصوا في معروف) وهو ما عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا وليد به تطييبًا لقلوبهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال البيضاوي في الآية والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخصّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به ( فمن وفى) بالتخفيف، وفي رواية أبي ذر وفي بالتشديد، أي ثبت على العهد ( منكم فأجره على الله) فضلاً ووعدًا أي بالجنة، كما وقع التصريح به في الصحيحين من حديث عبادة في رواية الصنابحي.
وعبر بلفظ على وبالأجر للمبالغة في تحقق وقوعه، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة على أنه لا يجب على الله شيء، بل الأجر من فضله عليه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبتالأجر في موضع أحدهما.
( ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون ( من ذلك شيئًا) غير الشرك، بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط والجاز للتبعيض، ( فعوقب) أي به كما رواه أحمد أي بسببه ( في الدنيا) أي بأن أقيم عليه الحد، ( فهو) أي العقاب ( كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي رواية الأربعة فهو كفّارة بحذف له، وقد قيل: إن قتل القاتل حدّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يجز العفو في القاتل، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء أن الحدود كفارات لظاهر الحديث، وفي الترمذي وصححه من حديث عليّ بن أبي طالب مرفوعًا نحو هذا الحديث، وفيه: ومن أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة.
وشيئًا نكرة تفيد العموم لأنها في سياق الشرط، وقد صرح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادته، وحينئذ فيشمل إصابة الشرك وغيره، واستشكل بأن المرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون قتله كفّارة.
وأجيب بأن عموم الحديث مخصوص بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أو المراد به الشرك الأصغر وهو الرياء، وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وأجيب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز فهو محتمل وإن كان ضعيفًا، وتعقب بأنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.
وقال قوم بالوقف لحديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم، وصححه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لا أدري الحدود كفّارة لأهلها أم لا، وأجيب بأن حديث الباب أصح إسنادًا وبأن حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلم عليه السلام، ثم أعلمه الله تعالى آخرًا.
وعورض بتأخر إسلام أبي هريرة، وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، وأجيب بأن حديث أبي هريرة صحيح سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة وإنما هي بعد فتح مكة وآية الممتحنة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة.
وعورض بأن الحديث رواه الحاكم ولا يخفى تساهله في التصحيح.
على أن الدارقطني قال: إن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله، وحينئذ فلا تساوي بينهما.
وعلى ذلك فلا يحتاج إلى الجمع والتوفيق بين الحديثين، وبأن عياضًا وغيره جزموا بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة عند البيعة الأولى بمنى، ويؤيده قوله عصابة المفسر بالنقباء الاثني عشر، بل صرح بذلك في رواية النسائي، ولفظه: بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة في رهط، والرهط ما دون العشرة من الرجال فقط.
وقال ابن دريد: وربما جاوز ذلك قليلاً، وهو ضد الكثير وأقله ثلاثة وأكثر القليل اثنان فتضاف للتسعة فالمجموع أحد عشر، فكان المراد من الرهط هنا أحد عشر نقيبًا، ومع عبادة اثنا عشر نقيبًا.
وإذا ثبت هذا فقد دلّ قطعًا أن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة الأولى لأن الواقعة بعد الفتح كان فيها الرجال والنساء معًا مع العدد الكثير انتهى.
( ومن أصاب من ذلك) المذكور ( شيئًا ثم ستره الله) وفي رواية ابن عساكر وعزاها الحافظ ابن حجر لكريمة زيادة عليه ( فهو) مفوّض ( إلى الله) تعالى ( إن شاء عفا عنه) بفضله، ( وإن شاء عاقبه) بعدله، ( فبايعناه على ذلك) .
مفهوم هذا يتناول من تاب ومن لم يتب، وأنه لم يتحتم دخوله النار بل هو إلى مشيئة الله.
وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، نعم لا يأمن من مكر الله لأنه لا اطّلاع له على قبول توبته.
وقال قوم بالتفرقة بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب.
فإن قلت: ما الحكمة فى عطف الجملة المتضمنة للعقوبة على ما قبلها بالفاء والمتضمنة للستر بثم؟ أجيب باحتمال أنه للتنفير عن مواقعة المعصية، فإن السامع إذا علم أن العقوبة مفاجئة لإصابة المعصية غير متراخية عنها وأن الستر متراخٍ، بعثه ذلك على اجتناب المعصية وتوقيها قاله في المصابيح.
ورجال إسناد هذا الحديث كلهم شاميون وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية قاضٍ عن قاضٍ أبو إدريس وعبادة، ورواية من رآه عليه الصلاة والسلام عمن رآه، لأن أبا إدريس له رؤية،وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والأحكام في وفود الأنصار وفي الحدود، ومسلم في الحدود أيضًا، والترمذي والنسائي وألفاظهم مختلفة.
ولما فرغ المصنف من تلويحه بمناقب الأنصار من بذلهم أرواحهم وأموالهم في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فرارًا بدينهم من فتن الكفر والضلال، شرع يذكر فضيلة العزلة والفرار من الفتن فقال: 12 - باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [18] حدّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبْرَنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو إدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بِنُ عبدِ اللَّهِ أنْ عُبادَةَ بنَ الصَّامِتِ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً وهُو أحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحَوْلَهُ عِصابَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ بايِعُونِي على أَن لاَ تُشْرِكُوا باللَّهِ شَيْئاً ولاَ تَسْرِقوا لاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتلُوا أوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْترُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فمنْ وَفَى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على اللَّهِ وَمَنْ أَصابَ مِن ذلكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنيْا فَهُوَ كفَّارَةٌ لَهُ وَمنْ أصابَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً ثمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إِن شاءَ عَفَا عَنْه وَإِن شاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْناهُ على ذلكَ.. وَجه تَخْصِيص الذّكر بِهَذَا الحَدِيث هُنَا، أَن الانصار هم المبتدئون بالبيعة على إعلاء تَوْحِيد الله وشريعته حَتَّى يموتوا على ذَلِك، فحبهم عَلامَة الْإِيمَان مجازاة لَهُم على حبهم من هَاجر إِلَيْهِم ومواساتهم لَهُم فِي أَمْوَالهم، كَمَا وَصفهم الله تَعَالَى، واتباعاً لحب الله لَهُم قَالَ الله تَعَالَى: { قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} ( آل عمرَان: 31) وَكَانَ الْأَنْصَار مِمَّن تبعه أَولا، فَوَجَبَ لَهُم محبَّة الله، وَمن أحب الله وَجب على الْعباد حبه.
( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي.
الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْقرشِي.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو إِدْرِيس، عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن عبد الله بن عمر الْخَولَانِيّ الدِّمَشْقِي، روى عَن: عبد الله بن مَسْعُود وَعَن معَاذ على الْأَصَح، وَسمع: عبَادَة بن الصَّامِت وَأَبا الدَّرْدَاء وخلقاً كثيرا، ولد يَوْم حنين،.

     وَقَالَ  ابْن مَيْمُونَة ولاه عبد الْملك الْقَضَاء بِدِمَشْق، وَكَانَ من عباد الشَّام وقرائهم، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: عبَادَة، بِضَم الْعين، ابْن الصَّامِت بن قيس بن أحرم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم وَهُوَ قوقل بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة وبدراً وأُحداً وبيعة الرضْوَان والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة أَحَادِيث، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بحديثين، وَهُوَ أول من ولي قَضَاء فلسطين، وَكَانَ طَويلا جسيماً جميلاً فَاضلا، توفّي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ، وَفِي ( الِاسْتِيعَاب) : وَجهه عمر رَضِي الله عَنهُ، إِلَى الشَّام قَاضِيا ومعلماً، فَأَقَامَ بحمص، ثمَّ انْتقل إِلَى فلسطين، وَمَات بهَا وَدفن بِبَيْت الْمُقَدّس، وقبره بهَا مَعْرُوف، وَقيل: توفّي بالرملة.
وَاعْلَم أَن عبَادَة بن الصَّامِت فَرد فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَفِيهِمْ عبَادَة بِدُونِ ابْن الصَّامِت اثْنَي عشر نفسا.
( بَيَان الْأَنْسَاب) الْخَولَانِيّ، فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب ( الأكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ ابْن قحطان.
وَفِي كتاب ( المعارف) : خولان بن سعد بن مذْحج، وَأَبُو إِدْرِيس من خولان ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد، وَكَذَلِكَ مِنْهُم أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مشْكم، وخولان فعلان من: خَال يخول، يُقَال مِنْهُ: فلَان خائل إِذا كَانَ حسن الْقيام على المَال والخزرجي نِسْبَة إِلَى الْخَزْرَج، وَهُوَ أَخ الْأَوْس،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد الْخَزْرَج الرّيح العاصف.
( بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن الأسناد كُله شَامِيُّونَ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، وَقد مر الْكَلَام بَين: حَدثنَا وَأخْبرنَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة القَاضِي عَن القَاضِي، وهما: أَبُو إِدْرِيس وَعبادَة بن الصَّامِت.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة من رأى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، عَمَّن رأى النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا إِدْرِيس من حَيْثُ الرِّوَايَة تَابِعِيّ كَبِير، وَمَعَ هَذَا قد ذكر فِي الصَّحَابَة لِأَن لَهُ رِوَايَة، وَأَبوهُ عبد الله بن عَمْرو الْخَولَانِيّ صَحَابِيّ.
( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الْمَغَازِي وَالْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان عَن شُعْبَة، وَفِي وُفُود الْأَنْصَار عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يَعْقُوب عَن أبي أخي الزُّهْرِيّ، وَعَن عَليّ عَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ البُخَارِيّ عَقِيبه: وَتَابعه عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَفِي الْحُدُود عَن ابْن يُوسُف عَن معمر، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن يحيىالْبَاب، فَإِن الْمَذْكُور فِيهِ الْفِرَار بِالدّينِ من الْفِتَن، وَلَا يحْتَاج أَن يُقَال: لما كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام مترادفين عِنْده..
     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} ( آل عمرَان: 19) أطلق الدّين فِي مَوضِع الْإِيمَان.
فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من لفظ الحَدِيث عد الْفِرَار دينا، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة للدّين، قلت: لم يرد بِكَلَامِهِ الْحَقِيقَة، لِأَن الْفِرَار لَيْسَ بدين، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْفِرَار للخوف على دينه من الْفِتَن شُعْبَة من شعب الدّين، وَلِهَذَا ذكره: بِمن، التبعيضية، وَتَقْدِير الْكَلَام: بَاب الْفِرَار من الْفِتَن شُعْبَة من شعب الدّين.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [18] حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب عن الزهري: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت - وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال - وحوله عصابة من أصحابه -: " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب [به] في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك.
هذا الحديث سمعه أبو إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عبادة، وزيادة عقبة في إسناده: وهم.
وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " وفي " تفسير سورة الممتحنة " من كتابه هذا، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه ( 187 - أ/ ف) .
وكان عبادة قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، لكن هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة أم لا؟ هذا وقع فيه تردد، فرواه ابن إسحاق، عن الزهري وذكر في روايته أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة.
وروى ابن إسحاق - أيضا -، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بيعة النساء وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، الحديث .
خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا .
وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن حبيب.
وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا فذكر الحديث .
وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة.
ولفظ مسلم بهذه الرواية : عن عبادة بن الصامت قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: بايعناه على أن لا نشرك، الحديث.
وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير بيعة النقباء.
وخرجه مسلم، من وجه آخر من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا .
هذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم.
وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس، عنه وقال في حديثه: فتلا علينا آية النساء أن لا نشرك بالله شيئا، الآية .
وخرجه البخاري في " تفسير الممتحنة " من رواية ابن عيينه، عن الزهري وقال فيه: وقرأ آية النساء، وأكثر لفظ سفيان: وقرأ الآية، ثم قال: تابعه عبد الرزاق، عن معمر في الآية ( 5) .
وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما: فقرأ عليهم الآية، زاد الإمام أحمد: التي أخذت على النساء {إذا جاءك المؤمنات} ( 6) [الممتحنة: 12] .
وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة، لأن بيعة النساء مدنية.
وروى هذا الحديث سفيان بن حسين، عن الزهري، وقال في حديثه: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا هذه الآية} قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] حتى فرغ من الثلاث آيات.
خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " وسفيان بن حسين ليس بقوي، خصوصا في حديث الزهري، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا .
وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ينازعوا الأمر أهله، أن يقولوا بالحق .
فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة.
وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة.
وقد خرجها الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه عن جده عبادة – وكان أحد النقباء – قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة الحرب.
وكان عبادة من الاثنى عشر ( 187 - ب / ف) نقيبا الذين بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، وذكر الحديث.
وهذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن يفرض الحرب، فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب.
وفي هذا نظر.
وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه، عن جده قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة الآخرة على السمع والطاعة، فذكره.
وخرجه ابن سعد من وجه آخر، عن عبادة بن الوليد مرسلا .
وخرج الإمام أحمد من وجه آخر، عن عبادة أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه البيعة على السمع والطاعة، الحديث وقال فيه: وعلى أن ننصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا .
وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة.
وخرج – أيضا – هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة وهي البيعة الثانية، وتكون سميت هذه البيعة الثانية، بيعة الحرب، لأن فيها البيعة على منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك يقتضي القتال دونه، فهذا هو المراد بالحرب وقد شهد عبادة البيعتين معا.
ويحتمل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول أية مبايعتهن، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك.
وفي المسند عن أم عطية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة جمع النساء فبايعهن على هذه الآية إلى قوله {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] .
وهذا قبل نزول سورة الممتحنة، فإنها إنما أنزلت قبل الفتح بيسير والله أعلم بحقيقة ذلك كله.
وأما ما بايعهم عليه: فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاث عن أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا.
وفي بعض الروايات: لا يقتلوا أولادهم – كما في لفظ الآية -، وفي بعضها: لا يقتلوا النفس التي حرم الله.
وهذه رواية الصنابحي، عن عبادة.
ثم إن من الرواة من اقتصر علي هذه الأربع ولم يزد عليها.
ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية، ثم اختلفوا في لفظها: فمنهم من قال: " ولا تنتهب " – وهي رواية الصنابحي، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " ومنهم من قال " ولا يعضه – بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة -، خرجها مسلم.
ومنهم من قال: " ولا يغتب بعضنا بعضا " – وهي رواية الإمام أحمد .
وأما الخصلة السادسة: فمنهم من لم يذكرها بالكلية – وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم.
ومنهم من ذكرها وسماها المعصية فقال: " ولا نعصي " – كما في رواية الصنابحي – وفي رواية أبي إدريس: " ولا تعصوا في معروف ".
فأما الشرك والسرقة والزنا والقتل: فواضح، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ( 188 - أ / ف) وليس له مفهوم، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية.
وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم - على ما جاء في رواية البخاري -: فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما يختص به النساء.
وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء: فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس، وقاله مقاتل بن حيان وغيره.
واختلفوا في معنى قوله: " بين أيديهم وأرجلهن ": فقيل لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها.
وقيل: بل أراد بما تفتريه بين يديها: أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها، وبما تفتريه بين رجليها: أن تلده من زنا ثم تلحقه بزوجها.
ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل.
وقيل: البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه، ورجحه ابن عطية وغيره.
وهو الأظهر، فيدخل فيه كذب المرأة فيما اؤتمنت عليه من حمل وحي وغير ذلك.
ومن هؤلاء من قال: أراد بما بين يديها: حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها، وبما بين رجليها: حفظ فرجها، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله.
ولو قيل: إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها لم يبعد ذلك.
وقد دل مبايعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم: أن ذلك لا يختص بالنساء، وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال – أيضا -، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " خرجه مسلم وكذلك القذف، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما.
وكذلك النميمة من البهتان.
وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة: " ولا يعضه بعضكم بعضا " ، فالعضيهة: النميمة.
وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا: " ألا أنبئكم ما العضيهة ؟ هي النميمة القالة بين الناس " .
وروى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: كنا نسمي العضيهة: السحر، وهو اليوم: قيل وقال.
وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال: " لا يبهت بعضكم بعضا "، نقله عنه محمد بن نصر ( 5) .
وذكر أهل اللغة أن العضيهة: الشتيمة، والعضيهة: البهتان، والعاضهة، والمستعضهة: الساحرة المستسحرة ( 6) .
وفي رواية الصنابحي: " ولا ننتهب " والنهبة من البهتان، فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون عليه أبصارهم فيه.
فكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان، فأخذ المال بالنهيى أو بالدعاوى الكاذبة: بهتان، وقد قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} [النساء 20] .
وفي المسند، والترمذي ( 188 - ب / ف) ، والنسائي، عن صفوان ابن عسال أن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت .
فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال: السحر، والمشي ببريء على السلطان، وقذف المحصنات.
وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان.
وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عدد الكبائر ذكر في بعضها القذف، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر، وهذا كله من البهتان المفترى.
وأما الخصلة السادسة: فهي المعصية، وتشمل جميع أنواع المعاصي، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قريب من معنى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] ، وقوله تعالى {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] .
وفي بعض ألفاظ حديث عبادة: " ولا تعصوا في معروف "، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف "، وقد خرجها البخاري في موضع آخر .
وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، فلا يطاع مخلوق إلا في معروف ولا يطاع في معصية الخالق.
وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خصت طاعته بالمعروف – مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف – دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده، ولهذا قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] .
فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي.
ويدخل فيها – أيضا – القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده.
فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم من وفى بها وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل.
فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله – كذا رواية أبي إدريس وأبي الأشعث، عن عبادة، وفي رواية الصنابحي، عنه: فالجنة إن فعلنا ذلك.
وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] .
وفسر الأجر العظيم بالجنة، كذا قاله قتادة .
وغيره من السلف.
ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال.
وأما من لم يوف بها، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل.
والمراد: ما عدا الشرك من الكبائر، فقسمه إلى قسمين: أحدهما: أن يعاقب في الدنيا، فأخبر ( 189 - أ/ف) أن ذلك كفارة له، وفي رواية: " فهو طهور له "، وفي رواية " طهور له أو كفارة " – بالشك -، ورواه بعضهم: " طهور وكفارة " – بالجمع.
وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " .
وروى ابن اسحاق، عن الزهري حديث أبي إدريس، عن عبادة وقال فيه: " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له" .
وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة: " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم .
وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها.
وقد صرح بذلك سفيان الثوري، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار، عنه .
وقال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة .
وإنما قال هذا، لأنه قد روى هذا المعنى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه متعددة، عن علي، وجرير، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم، وفي أسانيد كلها مقال، وحديث عبادة صحيح وثابت.
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أدري ما الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ " وذكر كلاما آخر.
خرجه الحاكم.
وخرج أبو داود بعض الحديث ( 5) .
وقد رواه هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري مرسلا.
قال البخاري في " تاريخه ": المرسل أصح، قال: ولا يثبت هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة .
انتهى.
وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي أياس، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا .
وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا .
وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزما.
فإن كان الأمر كذلك، فحديث عبادة إذن - لم يكن ليلة العقبة بلا تردد، لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة، ولم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم - حينئذ - أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك.
وقد اختلف العلماء: هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة .
وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وعن مجاهد، وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين .
والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، فلابد من توبة.
وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره، ورجحه ابن حزم .
وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما.
واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [المائدة: 33] .
وقد يجاب عن هذا: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة.
وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها.
ويدل على أن الحد يطهر الذنب: قول ماعز للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أصبت حدا فطهرني.
وكذلك قالت له الغامدية ولم ينكر عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه.
ويدخل ( 189 – ب / ف) في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته ": العقوبتان القدرية من الأمراض والأسقام.
والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا.
وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا.
وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر، لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه، وهذه المصائب لا تنافي الستر، والله أعلم.
والقسم الثاني: أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته.
فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه، وهذا موافق لقول الله عز وجل {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] .
وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قوله: إن الله يخلده في النار إذا لم يتب.
وهذا المستور في الدنيا له حالتان: إحداهما: أن يموت غير تائب، فهذا في مشيئة الله - كما ذكرنا.
والثانية: أن يتوب من ذنبه.
فقال طائفة: إنه تحت المشيئة - أيضا -، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة.
والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقال: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّنرَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 136] .
فيكون التائب – حينئذ – ممن شاء الله أن يغفر له.
واستدل بعضهم – وهو ابن حزم - بحديث عبادة هذا: على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر، وهذا مبني على قوله: إن التائب في المشيئة.
والصحيح: أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما، لكن المؤمن يتهم توبتة ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا.
ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة، وإنما الكفارة التوبة، فكيف لا يقتصر على الكفارة؟ بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه.
وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل.
روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم، ونص عليه الشافعي .
ومن أصحابه وأصحابنا من قال: إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه.
وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمعاذ: " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسرا وإن علانية فعلانية " .
وفي إسناده مقال.
وهو إنما هو يدل على إظهار التوبة، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد.
وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة، كحديث ابن عمر في النجوى، وقد خرجه البخاري في " التفسير " .
وخرج الترمذي، وابن ماجه عن علي مرفوعا: " من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه فالله أكرم ( 190 – أ / ف) أن يعود في شيء قد عفا عنه " .
وفي " المسند " ( 5) عن عائشة مرفوعا: " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " وروي مثله ذلك عن علي، وابن مسعود من قولهما.
وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا.
وأصح هذه الأحاديث المذكورة ها هنا: حديث بن عمرو النجوي، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه، والله تعالى أعلم.
وقد قيل: إن البيعة سميت بيعة لأن صاحبها باع نفسه لله.
والتحقيق: أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع لأن المتبايعين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها، وكذلك من بايع الإمام ونحوه فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد وتذكيرا بالمقام عليه.
وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى النساء في يوم عيد وتلا عليهن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية [الممتحنة: 12] وقال: " أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة منهن: نعم .
وفي صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " – ومنا حديث عهد ببيعة – فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " قلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: " ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلى ما نبايعك؟ فقال: " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا " – وأسر كلمة خفية -: " ولا تسألوا الناس شيئا " .
وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة: قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه.
وقد ذكر طائفة من العلماء – منهم القاضي أبو يعلي في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا – أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] .
ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فدل على أنه يعم المؤمنين، وكذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وهذا أمر يخص به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشركه فيه غيره.
ولكن قد روى عثمان أنه كان بايع على الإسلام.
قال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بن بكير قال: ثنا ثابت بن عجلان، عن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من ورائهم فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس فلما قالوا بايعهم.
وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة ( 190 - ب / ف) على الموت، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خرجه البخاري في الجهاد وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة.
وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه: تعالوا نتبايع على أن لا نفر، فبايعوا على ذلك؟ .
قال: ما أحسن هذا.
قلت: فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام؟ قال: لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة .
فصل قال البخاري:13 - باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أعلمكم بالله، وأن المعرفة فعل القلب لقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} .
[البقرة: 225] .
مراده بهذا التبويب: أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى {بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فجعل للقلوب كسبا كما جعل للجوارح الظاهرة كسبا.
والمعرفة مركبة من تصور وتصديق، فهي تتضمن علما وعملا وهو تصديق القلب، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه.
وأصل هذا: أن المعرفة مكتسبة تدرك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم ورجحه ابن جرير الطبري، وروى بإسناده عن الفضيل ابن عياض أنه قال: أهل السنة يقولون: الإيمان والقول والعمل.
وقالت طائفة: إنها اضطرارية لا كسب فيها.
وهو قول بعض أصحابنا وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم.
وخرج البخاري في هذا الباب: حديث:

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  قَوْله بَاب كَذَا)
هُوَ فِي روايتنا بِلَا تَرْجَمَةٍ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَصْلًا فَحَدِيثه عِنْده من جملَة التَّرْجَمَة الَّتِي قبله وعَلى روايتنا فَهُوَ مُتَعَلق بهَا أَيْضا لِأَن الْبَاب إِذا لم تذكر لَهُ تَرْجَمَة خاصه يكون بِمَنْزِلَة الْفَصْل مِمَّا قبله مَعَ تعلقه بِهِ كصنيع مصنفي الْفُقَهَاء وَوجه التَّعْلِيق أَنه لما ذكر الْأَنْصَار فِي الحَدِيث الأول أَشَارَ فِي هَذَا إِلَى ابْتِدَاء السَّبَب فِي تلقيبهم بالأنصار لِأَن أول ذَلِك كَانَ لَيْلَة الْعقبَة لما توافقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عقبَة مني فِي الْمَوْسِم كَمَا سَيَأْتِي شرح ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي السِّيرَة النبويه من هَذَا الْكتاب وَقد أخرج المُصَنّف حَدِيث هَذَا الْبَاب فِي مَوَاضِع أخر فِي بَاب من شهد بَدْرًا لقَوْله فِيهِ كَانَ شهد بَدْرًا وَفِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار لقَوْله فِيهِ وَهُوَ أحد النُّقَبَاء وَأوردهُ هُنَا لتَعَلُّقه بِمَا قبله كَمَا بَيناهُ ثمَّ إِن فِي مَتنه مَا يتَعَلَّق بمباحث الْإِيمَان من وَجْهَيْن آخَرين أَحدهمَا أَن اجْتِنَاب المناهي من الْإِيمَان كامتثال الْأَوَامِر وَثَانِيهمَا أَنه تضمن الرَّد على من يَقُول أَن مرتكب الْكَبِيرَة كَافِر أَو مخلد فِي النَّار كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

[ قــ :18 ... غــ :18] .

     قَوْلُهُ  عَائِذُ اللَّهِ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ أَيْ ذُو عِيَاذَةٍ بِاللَّهِ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ صَحَابِيٌّ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّ لَهُ رُؤْيَةً وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ حُنَيْنٍ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا يَعْنِي حَضَرَ الْوَقْعَةَ الْمَشْهُورَةَ الْكَائِنَةَ بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِبَدْرٍ وَهِيَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ قَاتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْمَغَازِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ أَبُو إِدْرِيسَ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ أَوِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا وَكَذَا .

     قَوْلُهُ  وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ .

     قَوْلُهُ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ قَبْلَهَا مِنْ أَصْلِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ قَالَ وَهُوَ خَبَرُ أَنَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضٌ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِحَذْفِ قَالَ خَطَأً لَكِنْ حَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي مِثْلِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّطْقِ بِهَا وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بَابِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَلَعَلَّهَا سَقَطَتْ هُنَا مِمَّنْ بَعْدَهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عُبَادَةَ حَدَّثَهُ .

     قَوْلُهُ  وَحَوْلَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَالْعِصَابَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا وَقَدْ جُمِعَتْ عَلَى عَصَائِبَ وَعُصَبٍ .

     قَوْلُهُ  بَايِعُونِي زَادَ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي وَالْمُبَايَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعَاهَدَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بَان لَهُم الْجنَّة .

     قَوْلُهُ  وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ خُصَّ الْقَتْلُ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ فَالْعِنَايَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ آكَدُ وَلِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيهِمْ وَهُوَ وَأْدُ الْبَنَاتِ وَقَتْلُ الْبَنِينَ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ أَوْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ لَا يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَوْله وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان الْبُهْتَان الْكَذِب الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ وَخَصَّ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ تَقَعُ بِهِمَا إِذْ كَانَتْ هِيَ الْعَوَامِلَ وَالْحَوَامِلَ لِلْمُبَاشَرَةِ وَالسَّعْيِ وَكَذَا يُسَمُّونَ الصَّنَائِعَ الْأَيَادِيَ وَقَدْ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ بِجِنَايَةٍ قَوْلِيَّةٍ فَيُقَالُ هَذَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَبْهَتُوا النَّاسَ كِفَاحًا وَبَعْضُكُمْ يُشَاهِدُ بَعْضًا كَمَا يُقَالُ.

.

قُلْتُ كَذَا بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِذِكْرِ الْأَرْجُلِ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَيْدِي وَذَكَرَ الْأَرْجُلَ تَأْكِيدًا وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَرْجُلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا فَلَيْسَ بِمَانِعٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ الْقَلْبَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ نُسِبَ إِلَيْهِ الِافْتِرَاءُ كَأَنَّ الْمَعْنَى لَا تَرْمُوا أَحَدًا بِكَذِبٍ تُزَوِّرُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ تَبْهَتُونَ صَاحِبَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ.

     وَقَالَ  أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبَى جَمْرَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ .

     قَوْلُهُ  بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَيْ فِي الْحَالِ وَقَولُهُ وَأَرْجُلِكُمْ أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَرْجُلِ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ أَصْلُ هَذَا كَانَ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَكَنَّى بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ نِسْبَةِ الْمَرْأَةِ الْوَلَدَ الَّذِي تَزْنِي بِهِ أَوْ تَلْتَقِطُهُ إِلَى زَوْجِهَا ثُمَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعَةِ الرِّجَالِ احْتِيجَ إِلَى حَمْلِهِ على غير مَا ورد فِيهِ أَو لَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  وَلَا تَعْصُوا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ وَلَا تَعْصُونِي وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ وَالْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ مِنَ الشَّارِعِ حُسْنُهُ نَهْيًا وَأَمْرًا .

     قَوْلُهُ  فِي مَعْرُوفٍ قَالَ النَّوَوِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَعْصُونِي وَلَا أَحَدَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ بَعْدَهُ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مَعْصِيَةِ لِلَّهِ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالتَّوَقِّي فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ .

     قَوْلُهُ  فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ أَيْ ثَبَتَ عَلَى الْعَهْدِ وَوَفَى بِالتَّخْفِيفِ وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّشْدِيدِ وَهُمَا بِمَعْنًى .

     قَوْلُهُ  فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَطْلَقَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُبَايَعَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُودِ الْعِوَضَيْنِ أَثْبَتَ ذِكْرَ الْأَجْرِ فِي مَوْضِعِ أَحَدِهِمَا وَأَفْصَحَ فِي رِوَايَةٍ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عِبَادَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِتَعْيِينِ الْعِوَضِ فَقَالَ بِالْجنَّةِ وَعَبَّرَ هُنَا بِلَفْظِ عَلَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاجِبَاتِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ تَقْرِيرُ هَذَا فَإِنْ قِيلَ لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَأْمُورَاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْهَا بَلْ ذَكَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ وَلَا تَعْصُوا إِذِ الْعِصْيَانُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ أَن الْكَفّ أيسر من إِن شَاءَ الْفِعْلِ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى اجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ وَالتَّخَلِّيَ عَنِ الرَّذَائِلِ قَبْلَ التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ بِهِ .

     قَوْلُهُ  فَهُوَ أَيِ الْعِقَابُ كَفَّارَةٌ زَادَ أَحْمَدُ لَهُ وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَزَادَ وَطَهُورٌ قَالَ النَّوَوِيُّ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فَالْمُرْتَدُّ إِذَا قُتِلَ عَلَى ارْتِدَادِهِ لَا يَكُونُ الْقَتْلُ لَهُ كَفَّارَةً.

.

قُلْتُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَدْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَدْخُلُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا إِذِ الْقَتْلُ عَلَى الشِّرْكِ لَا يُسَمَّى حَدًّا لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ لِتَرَتُّبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَخِطَابُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِّ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ فَالصَّوَابُ مَا قَالَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشِّرْكِ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْئًا أَيْ شِرْكًا أَيًّا مَا كَانَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُرْفَ الشَّارِعِ إِذَا أَطْلَقَ الشِّرْكَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُقَابِلَ التَّوْحِيدَ وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ وَيُجَابُ بِأَنَّ طَلَبَ الْجَمْعِ يَقْتَضِي ارْتِكَابَ الْمَجَازِ فَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَقِبَ الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرِّيَاءِ لَا عُقُوبَةَ فِيهِ فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا لَكِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَيُمْكِنُ يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَعْلَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

.

قُلْتُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَة معمر عَن بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ فَأَرْسَلَهُ.

.

قُلْتُ وَقَدْ وَصَلَهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاس عَن بن أَبِي ذِئْبٍ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَالْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْقَاضِي حَسَنٌ لَكِنَّ الْقَاضِيَ وَمَنْ تَبِعَهُ جَازِمُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَةَ الْأُولَى بِمِنًى وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ عَامَ خَيْبَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَدِيثُهُ مُتَقَدِّمًا وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ كَانَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمًا وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ كَمَا سَمِعَهُ عُبَادَةُ وَفِي هَذَا تَعَسُّفٌ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ وَأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ وَالْمُبَايَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَقَعْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْعقبَة مَا ذكر بن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَيْضًا قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ الْحَدِيثَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ جَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ وَلَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى وَأَلْفَاظٌ قَرِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبَيْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ صَدَرَتْ مُبَايَعَاتٌ أُخْرَى سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا هَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ الْمَذْكُورَةِ وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمُمْتَحِنَةِ وَهِيَ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُمْ قَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا وَعِنْدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ قَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ قَالَ أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَنِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْبَيْعَةِ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمدَّة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ بن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن بن عُمَرَ اه وَإِذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَحَدَ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَا مِمَّنْ حَضَرَ بَيْعَتَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامُهُ قُرْبَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَضَحَ تَغَايُرُ الْبَيْعَتَيْنِ بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَيْعَةٌ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَشَهِدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَكَانَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِالْتِبَاسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَضَرَ الْبَيْعَتَيْنِ مَعًا وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مِنْ أَجَلِّ مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ فَكَانَ يَذْكُرُهَا إِذَا حَدَّثَ تَنْوِيهًا بِسَابِقِيَّتِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ ذَلِكَ تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْبَيْعَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ وَنَظِيرُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اتِّحَادِ الْبَيْعَتَيْنِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ الْحَرْبِ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ الْحَرْبَ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَة وَيُمكن تَأْوِيل رِوَايَة بن إِسْحَاقَ وَرَدُّهَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ رِوَايَتُهُ عَلَى ثَلَاثِ بَيْعَاتٍ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَقَدْ صرح أَنَّهَا كَانَت قبل أَن يفْرض الْحَرْبُ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّانِيَةُ بَيْعَةُ الْحَرْبِ وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ وَالثَّالِثَةُ بَيْعَةُ النِّسَاءِ أَيْ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى نَظِيرِ بَيْعَةِ النِّسَاء وَالرَّاجِح أَن التَّصْرِيح بذلك وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيُعَكِّرُ على ذَلِك التَّصْرِيح فِي رِوَايَة بن إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ بَيْعَةَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ كَانَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَاتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى النِّسَاءِ لِضَبْطِهَا بِالْقُرْآنِ وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ فَظَاهِرُ هَذَا اتِّحَادُ الْبَيْعَتَيْنِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَا قَرَّرْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا أَيْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى الْإِيوَاءِ وَالنَّصْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ بَايَعْنَاهُ إِلَخْ أَيْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي قَوْلِهِ.

     وَقَالَ  بَايَعْنَاهُ وَعَلَيْكَ بِرَدِّ مَا أَتَى مِنَ الرِّوَايَاتِ مُوهِمًا بِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي نَهَجْتْ إِلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَلَا يَبْقَى بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُبَادَةَ تَعَارُضٌ وَلَا وَجْهَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّوَقُّفِ فِي كَوْنِ الْحُدُودِ كَفَّارَةً وَاعْلَمْ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِرِوَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ رَوَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَفِيهِ مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ الْعُقُوبَةَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبَى تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابت بِإِسْنَاد حَسَنٍ وَلَفْظُهُ مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ بن عَمْرو مَرْفُوعًا مَا عُوقِبَ رَجُلٌ عَلَى ذَنْبٍ إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَةً لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ مَنْ أَزَالَ اللَّبْسَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ وَاللَّهُ الْهَادِي .

     قَوْلُهُ  فَعُوقِبَ بِهِ قَالَ بن التِّينِ يُرِيدُ بِهِ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْجَلْدَ أَو الرَّجْم فِي الزِّنَى قَالَ.

.
وَأَمَّا قَتْلُ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ مَعْلُومَةٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَتْلَ النَّفْسِ فَكَنَّى عَنْهُ.

.

قُلْتُ وَفِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَعُوقِبَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تكون الْعقُوبَة حدا أَو تعزيرا قَالَ بن التِّينِ وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَتْلَ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ رَادِعٌ لِغَيْرِهِ.

.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالطَّلَبُ لِلْمَقْتُولِ قَائِمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَقٌّ.

.

قُلْتُ بَلْ وَصَلَ إِلَيْهِ حق وَأي حَقٍّ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَحَّحَهُ بن حِبَّانَ وَغَيْرُهُ إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَعَنِ بن مَسْعُودٍ قَالَ إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ مَحَا كُلَّ شَيْءٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوُهُ وَلِلْبَزَّارِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ فَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ وَأَيُّ حَقٍّ يَصِلُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَتْلِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلرَّدْعِ فَقَطْ لَمْ يُشْرَعِ الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ وَهَلْ تَدْخُلُ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَغَيْرِهَا فِيهِ نَظَرٌ وَيَدُلُّ لِلْمَنْعِ .

     قَوْلُهُ  وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ لَا تُنَافِي السَّتْرَ وَلَكِنْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ أَنَّ الْمَصَائِبَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبِ الْمَحْدُودُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلٌ للمعتزلة وَوَافَقَهُمْ بن حَزْمٍ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ تَابَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  فَهُوَ إِلَى الله قَالَ الْمَازِني فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ وَرَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيبَ الْفَاسِقِ إِذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَفِّ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالنَّارِ عَلَى أَحَدٍ أَوْ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ بِعَيْنِهِ.

.

قُلْتُ أَمَّا الشِّقُّ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ.

.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ .

     قَوْلُهُ  إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ يَشْمَلُ مَنْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ.

     وَقَالَ  بِذَلِكَ طَائِفَةٌ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَابَ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ هَلْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَوْ لَا وَقِيلَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا يَجِبُ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَتُوبَ سِرًّا وَيَكْفِيَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ بَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ وَيَعْتَرِفَ بِهِ وَيَسْأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِنَ بِتَوْبَتِهِ وَإِلَّا فَلَا تَنْبِيهٌ زَادَ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَنْتَهِبُ وَهُوَ مِمَّا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْبَيْعَةَ مُتَأَخِّرَةٌ لِأَنَّ الْجِهَادَ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَابِ مَا يَقَعُ بَعْدَ الْقِتَالِ فِي الْغَنَائِمِ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا وَلَا يَعْصِي بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ وَوَقَعَ عِنْدَهُ وَلَا يَقْضِي بِقَافٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ فِي تَخْرِيجِهِ.

     وَقَالَ  إِنَّهُ نَهَاكُمْ عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِيَ قَضَاءَ فِلَسْطِينَ فِي زَمَنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ بِالْجَنَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِيَقْضِي أَيْ لَا يَقْضِي بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ.

.

قُلْتُ لَكِنْ يَبْقَى .

     قَوْلُهُ  إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِلَا جَوَابٍ وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ دَعْوَى التَّصْحِيفِ فِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ قُتَيْبَةَ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ اللَّيْثِ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ لَكِنْ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَافِ وَالضَّادِ أَيْضًا وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَولُهُ بِالْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بقوله فِي أَوله بَايَعْنَاهُ وَالله أعلم

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
[ قــ :18 ... غــ :18 ]
- حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب عن الزهري: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت - وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال - وحوله عصابة من أصحابه -: " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب [به] في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك.

هذا الحديث سمعه أبو إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عبادة، وزيادة عقبة في إسناده: وهم.
وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " وفي " تفسير سورة الممتحنة " من كتابه هذا، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه ( 187 - أ/ ف) .
وكان عبادة قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، لكن هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة أم لا؟ هذا وقع فيه تردد، فرواه ابن إسحاق، عن الزهري وذكر في روايته أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة.
وروى ابن إسحاق - أيضا -، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بيعة النساء وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، الحديث .
خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا .
وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن حبيب.
وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا فذكر الحديث .
وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة.
ولفظ مسلم بهذه الرواية : عن عبادة بن الصامت قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: بايعناه على أن لا نشرك، الحديث.
وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير بيعة النقباء.

وخرجه مسلم، من وجه آخر من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا .

هذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم.
وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس، عنه وقال في حديثه: فتلا علينا آية النساء أن لا نشرك بالله شيئا، الآية .
وخرجه البخاري في " تفسير الممتحنة " من رواية ابن عيينه، عن الزهري وقال فيه: وقرأ آية النساء، وأكثر لفظ سفيان: وقرأ الآية، ثم قال: تابعه عبد الرزاق، عن معمر في الآية .
وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما: فقرأ عليهم الآية، زاد الإمام أحمد: التي أخذت على النساء {إذا جاءك المؤمنات} [الممتحنة: 12] .
وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة، لأن بيعة النساء مدنية.
وروى هذا الحديث سفيان بن حسين، عن الزهري، وقال في حديثه: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا هذه الآية} قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] حتى فرغ من الثلاث آيات.
خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " وسفيان بن حسين ليس بقوي، خصوصا في حديث الزهري، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا .

وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ينازعوا الأمر أهله، أن يقولوا بالحق .
فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة.

وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة.
وقد خرجها الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه عن جده عبادة – وكان أحد النقباء – قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة الحرب.
وكان عبادة من الاثنى عشر ( 187 - ب / ف) نقيبا الذين بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، وذكر الحديث.
وهذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن يفرض الحرب، فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب.
وفي هذا نظر.
وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه، عن جده قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة الآخرة على السمع والطاعة، فذكره.

وخرجه ابن سعد من وجه آخر، عن عبادة بن الوليد مرسلا .
وخرج الإمام أحمد من وجه آخر، عن عبادة أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه البيعة على السمع والطاعة، الحديث وقال فيه: وعلى أن ننصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا .
وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة.

وخرج – أيضا – هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة وهي البيعة الثانية، وتكون سميت هذه البيعة الثانية، بيعة الحرب، لأن فيها البيعة على منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك يقتضي القتال دونه، فهذا هو المراد بالحرب وقد شهد عبادة البيعتين معا.
ويحتمل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول أية مبايعتهن، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك.
وفي المسند عن أم عطية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة جمع النساء فبايعهن على هذه الآية إلى قوله {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] .

وهذا قبل نزول سورة الممتحنة، فإنها إنما أنزلت قبل الفتح بيسير والله أعلم بحقيقة ذلك كله.
وأما ما بايعهم عليه: فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاث عن أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا.
وفي بعض الروايات: لا يقتلوا أولادهم – كما في لفظ الآية -، وفي بعضها: لا يقتلوا النفس التي حرم الله.
وهذه رواية الصنابحي، عن عبادة.
ثم إن من الرواة من اقتصر علي هذه الأربع ولم يزد عليها.
ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية، ثم اختلفوا في لفظها: فمنهم من قال: " ولا تنتهب " – وهي رواية الصنابحي، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " ومنهم من قال " ولا يعضه – بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة -، خرجها مسلم.
ومنهم من قال: " ولا يغتب بعضنا بعضا " – وهي رواية الإمام أحمد .
وأما الخصلة السادسة: فمنهم من لم يذكرها بالكلية – وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم.
ومنهم من ذكرها وسماها المعصية فقال: " ولا نعصي " – كما في رواية الصنابحي – وفي رواية أبي إدريس: " ولا تعصوا في معروف ".
فأما الشرك والسرقة والزنا والقتل: فواضح، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ( 188 - أ / ف) وليس له مفهوم، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية.

وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم - على ما جاء في رواية البخاري -: فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما يختص به النساء.
وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء: فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس، وقاله مقاتل بن حيان وغيره.
واختلفوا في معنى قوله: " بين أيديهم وأرجلهن ": فقيل لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها.
وقيل: بل أراد بما تفتريه بين يديها: أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها، وبما تفتريه بين رجليها: أن تلده من زنا ثم تلحقه بزوجها.

ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل.
وقيل: البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه، ورجحه ابن عطية وغيره.
وهو الأظهر، فيدخل فيه كذب المرأة فيما اؤتمنت عليه من حمل وحي وغير ذلك.
ومن هؤلاء من قال: أراد بما بين يديها: حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها، وبما بين رجليها: حفظ فرجها، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله.
ولو قيل: إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها لم يبعد ذلك.

وقد دل مبايعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم: أن ذلك لا يختص بالنساء، وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال – أيضا -، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " خرجه مسلم وكذلك القذف، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما.
وكذلك النميمة من البهتان.
وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة: " ولا يعضه بعضكم بعضا " ، فالعضيهة: النميمة.
وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا: " ألا أنبئكم ما العضيهة ؟ هي النميمة القالة بين الناس " .

وروى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: كنا نسمي العضيهة: السحر، وهو اليوم: قيل وقال.
وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال: " لا يبهت بعضكم بعضا "، نقله عنه محمد بن نصر .
وذكر أهل اللغة أن العضيهة: الشتيمة، والعضيهة: البهتان، والعاضهة، والمستعضهة: الساحرة المستسحرة .
وفي رواية الصنابحي: " ولا ننتهب " والنهبة من البهتان، فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون عليه أبصارهم فيه.
فكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان، فأخذ المال بالنهيى أو بالدعاوى الكاذبة: بهتان، وقد قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} [النساء 20] .

وفي المسند، والترمذي ( 188 - ب / ف) ، والنسائي، عن صفوان ابن عسال أن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت .

فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال: السحر، والمشي ببريء على السلطان، وقذف المحصنات.
وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان.
وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عدد الكبائر ذكر في بعضها القذف، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر، وهذا كله من البهتان المفترى.
وأما الخصلة السادسة: فهي المعصية، وتشمل جميع أنواع المعاصي، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قريب من معنى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] ، وقوله تعالى {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] .
وفي بعض ألفاظ حديث عبادة: " ولا تعصوا في معروف "، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف "، وقد خرجها البخاري في موضع آخر .
وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، فلا يطاع مخلوق إلا في معروف ولا يطاع في معصية الخالق.

وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خصت طاعته بالمعروف – مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف – دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده، ولهذا قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] .
فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي.
ويدخل فيها – أيضا – القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده.

فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم من وفى بها وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل.
فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله – كذا رواية أبي إدريس وأبي الأشعث، عن عبادة، وفي رواية الصنابحي، عنه: فالجنة إن فعلنا ذلك.
وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] .
وفسر الأجر العظيم بالجنة، كذا قاله قتادة .
وغيره من السلف.
ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال.
وأما من لم يوف بها، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل.
والمراد: ما عدا الشرك من الكبائر، فقسمه إلى قسمين:
أحدهما: أن يعاقب في الدنيا، فأخبر ( 189 - أ/ف) أن ذلك كفارة له، وفي رواية: " فهو طهور له "، وفي رواية " طهور له أو كفارة " – بالشك -، ورواه بعضهم: " طهور وكفارة " – بالجمع.
وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " .
وروى ابن اسحاق، عن الزهري حديث أبي إدريس، عن عبادة وقال فيه: " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له" .
وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة: " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم .
وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها.
وقد صرح بذلك سفيان الثوري، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار، عنه .
وقال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة .
وإنما قال هذا، لأنه قد روى هذا المعنى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه متعددة، عن علي، وجرير، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم، وفي أسانيد كلها مقال، وحديث عبادة صحيح وثابت.
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أدري ما الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ " وذكر كلاما آخر.
خرجه الحاكم.
وخرج أبو داود بعض الحديث .
وقد رواه هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري مرسلا.
قال البخاري في " تاريخه ": المرسل أصح، قال: ولا يثبت هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة .
انتهى.
وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي أياس، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا .

وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا .
وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزما.
فإن كان الأمر كذلك، فحديث عبادة إذن - لم يكن ليلة العقبة بلا تردد، لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة، ولم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم - حينئذ - أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك.
وقد اختلف العلماء: هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة .
وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وعن مجاهد، وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين .

والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، فلابد من توبة.
وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره، ورجحه ابن حزم .
وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما.
واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [المائدة: 33] .

وقد يجاب عن هذا: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة.
وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها.
ويدل على أن الحد يطهر الذنب: قول ماعز للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أصبت حدا فطهرني.
وكذلك قالت له الغامدية ولم ينكر عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه.
ويدخل ( 189 – ب / ف) في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته ": العقوبتان القدرية من الأمراض والأسقام.
والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا.
وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا.
وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر، لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه، وهذه المصائب لا تنافي الستر، والله أعلم.

والقسم الثاني: أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته.
فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه، وهذا موافق لقول الله عز وجل {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] .
وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قوله: إن الله يخلده في النار إذا لم يتب.
وهذا المستور في الدنيا له حالتان:
إحداهما: أن يموت غير تائب، فهذا في مشيئة الله - كما ذكرنا.

والثانية: أن يتوب من ذنبه.

فقال طائفة: إنه تحت المشيئة - أيضا -، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة.
والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقال: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 136] .
فيكون التائب – حينئذ – ممن شاء الله أن يغفر له.
واستدل بعضهم – وهو ابن حزم - بحديث عبادة هذا: على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر، وهذا مبني على قوله: إن التائب في المشيئة.
والصحيح: أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما، لكن المؤمن يتهم توبتة ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا.
ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة، وإنما الكفارة التوبة، فكيف لا يقتصر على الكفارة؟ بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه.

وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل.
روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم، ونص عليه الشافعي .
ومن أصحابه وأصحابنا من قال: إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه.
وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمعاذ: " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسرا وإن علانية فعلانية " .
وفي إسناده مقال.
وهو إنما هو يدل على إظهار التوبة، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد.
وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة، كحديث ابن عمر في النجوى، وقد خرجه البخاري في " التفسير " .
وخرج الترمذي، وابن ماجه عن علي مرفوعا: " من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه فالله أكرم ( 190 – أ / ف) أن يعود في شيء قد عفا عنه " .

وفي " المسند " عن عائشة مرفوعا: " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " وروي مثله ذلك عن علي، وابن مسعود من قولهما.
وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا.
وأصح هذه الأحاديث المذكورة ها هنا: حديث بن عمرو النجوي، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه، والله تعالى أعلم.
وقد قيل: إن البيعة سميت بيعة لأن صاحبها باع نفسه لله.

والتحقيق: أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع لأن المتبايعين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها، وكذلك من بايع الإمام ونحوه فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد وتذكيرا بالمقام عليه.
وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى النساء في يوم عيد وتلا عليهن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية [الممتحنة: 12] وقال: " أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة منهن: نعم .
وفي صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " – ومنا حديث عهد ببيعة – فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " قلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: " ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلى ما نبايعك؟ فقال: " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا " – وأسر كلمة خفية -: " ولا تسألوا الناس شيئا " .
وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة: قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه.

وقد ذكر طائفة من العلماء – منهم القاضي أبو يعلي في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا – أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] .
ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فدل على أنه يعم المؤمنين، وكذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وهذا أمر يخص به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشركه فيه غيره.
ولكن قد روى عثمان أنه كان بايع على الإسلام.
قال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بن بكير قال: ثنا ثابت بن عجلان، عن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من ورائهم فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس فلما قالوا بايعهم.
وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة ( 190 - ب / ف) على الموت، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خرجه البخاري في الجهاد وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة.
وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه: تعالوا نتبايع على أن لا نفر، فبايعوا على ذلك؟ .
قال: ما أحسن هذا.

قلت: فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام؟ قال: لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب
هذا( باب) بالتنوين بغير ترجمة: ولفظ الباب سقط عند الأصيلي، وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه مع تعلقه به.
وفي الحديث السابق الإشارة لحب الأنصار، وفي اللاحق ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن ذلك كان ليلة العقبة لما تبايعوا على إعلاء توحيد الله وشريعته، وقد كانوا يسمون قبل ذلك بني قيلة بقاف مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم عليه الصلاة والسلام الأنصار لذلك.


[ قــ :18 ... غــ : 18 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ.
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ

عَاقَبَهُ».
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
[الحديث 18 - أطرافه في: 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي ( قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة القرشي ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة وهو اسم علم أي ذو عياذة الله فهو عطف بيان لقوله أبو إدريس ( بن عبد الله) الصحابي ابن عمر الخولاني الدمشقي الصحابي، لأن مولده كان عام حُنين، التابعي الكبير من حيث الرواية المتوفى سنة ثمانين، ( أن عبادة) بضم العين ( ابن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، وله في البخاري تسعة أحاديث ( رضي الله عنه وكان شهد بدرًا) أي وقعتها، فالنصب بقوله شهد وليس مفعولاً فيه، ( وهو أحد النقباء) جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم وكانوا اثني عشر رجلاً ( ليلة العقبة) بمنى، أي فيها والواو في وهو كواو وكان هي الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أن كون شهود عبادة بدر أو كونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواوان للحال ولا للعطف، قاله العيني.
وهذا ذكره ابن هشام في مغنيه حاكيًا له عن الزمخشري في كشافه، وعبارته في تفسير قوله تعالى في سورة الحجر { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُوم} [الحجر: 4] جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون} [الشعراء: 208] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب انتهى.

وتعقبه ابن مالك في شرح تسهيله بأن ما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد، لأن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف من البصريين ولا من الكوفيين معوّل عليه، فوجب أن لا يلتفت إليه.
وأيضًا فإنه معلل بما لا يناسب، وذلك لأن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وأيضًا مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يصح أن يقال للعاطف مؤكد.

وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلح للحال، نحو إن رجلاً رأيه سديد لسعيد، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يجوز اقترانها بالواو ولعدم صلاحيتها للحال، بخلاف { ولها كتاب معلوم} فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي.

وتعقبه نجم الدين سعيد على الوجه الأوّل بأن الزمخشري أعرف باللغة مع أنه لا يلزم من عدم العرفان بالمعوّل عليه عدمه، وعلى الثاني أن تغاير الشيئين لا ينافي تلاصقهما، والجملة التي هي صفة لها التصاق بالموصوف، والواو أكدت الالتصاق باعتبار أنها في أصلها للجمع المناسب للإلصاق لا أنها عاطفة، وعلى الثالث أن المراد من الالتصاق ليس الالتصاق اللفظي كما فهمه ابن مالك بل المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأوّل.


وتعقبه البدر الدماميني بأن قوله أعرف باللغة مجرد دعوى مع أنها لو سلمت لا تصلح لردّ أن هذا المذهب غير معروف لبصري ولا كوفي، وإنما وجه الردّ أن يقال بل هو معروف، ويبيّن من قاله منهم انتهى.

وقد تبع الزمخشري في ذلك أبو البقاء، وقال في الدران في محفوظه أن ابن جني سبق الزمخشري بذلك وقوّاه بآية { إلا لها منذرون} وقراءة ابن أبي عبلة إلا لها كتاب بإسقاط الواو، ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس فيكون متصلاً إن حمل على أنه سمع ذلك من عبادة أو الزهري، فيكون منقطعًا.
والجملة اعتراض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا، ولعلها سقطت من ناسخ بعده.
واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا والتقدير هنا أن عبادة بن الصامت أخبر ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وحوله) بالنصب على الظرفية ( عصابة من أصحابه) بكسر العين ما بين العشرة إلى الأربعين، والجملة اسمية حالية وعصابة مبتدأ خبره حوله مقدمًا، ومن أصحابه صفة لعصابة، وأشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان، ولذا ذكر أن الراوي شهد بدرًا وأنه أحد النقباء والمراد به التقوية، فإن الرواية تترجح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه.
ومقول قوله عليه الصلاة والسلام.

( بايعوني) أي عاقدوني ( على) التوحيد ( أن لا تشركوا بالله شيئًا) أي على ترك الإشراك وهو عام، لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي، وقدمه على ما بعده لأنه الأصل.
( و) على أن ( لا تسرقوا) فيه حذف المفعول ليدل على العموم، ( ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصّهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأن قتلهم أكثر من قتل غيرهم، وهو الوأد وهو أشنع القتل، أو أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر.
( ولا تأتوا) بحذف النون، ولغير الأربعة ولا تأتون ( ببهتان) أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا والفضيحة والعار.
وقوله ( تفترونه) من الافتراء أي تختلقونه ( بين أيديكم وأرجلكم) أي من قبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات لأن الأفعال بهما، والمعنى لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم أو أن البهتان ناشىء عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، والمعنى لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحًا مواجهة، ( ولا تعصوا في معروف) وهو ما عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا وليد به تطييبًا لقلوبهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال البيضاوي في الآية والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخصّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به ( فمن وفى) بالتخفيف، وفي رواية أبي ذر وفي بالتشديد، أي ثبت على العهد ( منكم فأجره على الله) فضلاً ووعدًا أي بالجنة، كما وقع التصريح به في الصحيحين من حديث عبادة في رواية الصنابحي.
وعبر بلفظ على وبالأجر للمبالغة في تحقق وقوعه، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة على أنه لا يجب على الله شيء، بل الأجر من فضله عليه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت الأجر في موضع أحدهما.
( ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون

( من ذلك شيئًا) غير الشرك، بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط والجاز للتبعيض، ( فعوقب) أي به كما رواه أحمد أي بسببه ( في الدنيا) أي بأن أقيم عليه الحد، ( فهو) أي العقاب ( كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي رواية الأربعة فهو كفّارة بحذف له، وقد قيل: إن قتل القاتل حدّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يجز العفو في القاتل، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء أن الحدود كفارات لظاهر الحديث، وفي الترمذي وصححه من حديث عليّ بن أبي طالب مرفوعًا نحو هذا الحديث، وفيه: ومن أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة.

وشيئًا نكرة تفيد العموم لأنها في سياق الشرط، وقد صرح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادته، وحينئذ فيشمل إصابة الشرك وغيره، واستشكل بأن المرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون قتله كفّارة.


وأجيب بأن عموم الحديث مخصوص بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أو المراد به الشرك الأصغر وهو الرياء، وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وأجيب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز فهو محتمل وإن كان ضعيفًا، وتعقب بأنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.
وقال قوم بالوقف لحديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم، وصححه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لا أدري الحدود كفّارة لأهلها أم لا، وأجيب بأن حديث الباب أصح إسنادًا وبأن حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلم عليه السلام، ثم أعلمه الله تعالى آخرًا.
وعورض بتأخر إسلام أبي هريرة، وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، وأجيب بأن حديث أبي هريرة صحيح سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة وإنما هي بعد فتح مكة وآية الممتحنة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة.
وعورض بأن الحديث رواه الحاكم ولا يخفى تساهله في التصحيح.
على أن الدارقطني قال: إن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله، وحينئذ فلا تساوي بينهما.
وعلى ذلك فلا يحتاج إلى الجمع والتوفيق بين الحديثين، وبأن عياضًا وغيره جزموا بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة عند البيعة الأولى بمنى، ويؤيده قوله عصابة المفسر بالنقباء الاثني عشر، بل صرح بذلك في رواية النسائي، ولفظه: بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة في رهط، والرهط ما دون العشرة من الرجال فقط.
وقال ابن دريد: وربما جاوز ذلك قليلاً، وهو ضد الكثير وأقله ثلاثة وأكثر القليل اثنان فتضاف للتسعة فالمجموع أحد عشر، فكان المراد من الرهط هنا أحد عشر نقيبًا، ومع عبادة اثنا عشر نقيبًا.
وإذا ثبت هذا فقد دلّ قطعًا أن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة الأولى لأن الواقعة بعد الفتح كان فيها الرجال والنساء معًا مع العدد الكثير انتهى.

( ومن أصاب من ذلك) المذكور ( شيئًا ثم ستره الله) وفي رواية ابن عساكر وعزاها الحافظ ابن حجر لكريمة زيادة عليه ( فهو) مفوّض ( إلى الله) تعالى ( إن شاء عفا عنه) بفضله، ( وإن شاء عاقبه) بعدله، ( فبايعناه على ذلك) .
مفهوم هذا يتناول من تاب ومن لم يتب، وأنه لم يتحتم دخوله النار بل

هو إلى مشيئة الله.
وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، نعم لا يأمن من مكر الله لأنه لا اطّلاع له على قبول توبته.
وقال قوم بالتفرقة بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب.

فإن قلت: ما الحكمة فى عطف الجملة المتضمنة للعقوبة على ما قبلها بالفاء والمتضمنة للستر بثم؟ أجيب باحتمال أنه للتنفير عن مواقعة المعصية، فإن السامع إذا علم أن العقوبة مفاجئة لإصابة المعصية غير متراخية عنها وأن الستر متراخٍ، بعثه ذلك على اجتناب المعصية وتوقيها قاله في المصابيح.
ورجال إسناد هذا الحديث كلهم شاميون وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية قاضٍ عن قاضٍ أبو إدريس وعبادة، ورواية من رآه عليه الصلاة والسلام عمن رآه، لأن أبا إدريس له رؤية، وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والأحكام في وفود الأنصار وفي الحدود، ومسلم في الحدود أيضًا، والترمذي والنسائي وألفاظهم مختلفة.

ولما فرغ المصنف من تلويحه بمناقب الأنصار من بذلهم أرواحهم وأموالهم في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فرارًا بدينهم من فتن الكفر والضلال، شرع يذكر فضيلة العزلة والفرار من الفتن فقال:

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  ( بابُُ)

كَذَا وَقع: بابُُ، فِي كل النّسخ، وغالب الرِّوَايَات بِلَا تَرْجَمَة، وَسقط عِنْد الْأصيلِيّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْوَجْه على عَدمه هُوَ: أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ من جملَة التَّرْجَمَة الَّتِي قبله؛ وعَلى وجوده هُوَ: أَنه لما ذكر الْأَنْصَار فِي الْبابُُ الَّذِي قبله أَشَارَ فِي هَذَا الْبابُُ إِلَى ابْتِدَاء السَّبَب فِي تلقيبهم بالأنصار، لِأَن أول ذَلِك كَانَ لَيْلَة الْعقبَة، لما توافقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد عقبَة منى فِي الْمَوْسِم، وَلِأَن الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة كلهَا فِي أُمُور الدّين، وَمن جُمْلَتهَا كَانَ حب الْأَنْصَار، والنقباء كَانُوا مِنْهُم، ولمبايعتهم أثر عَظِيم فِي إعلاء كلمة الدّين، فَلَا جرم ذكرهم عقيب الْأَنْصَار، وَلما لم يكن لَهُ تَرْجَمَة على الْخُصُوص، وَكَانَ فِيهِ تعلق بِمَا قبله، فصل بَينهمَا بقوله: بابُُ، كَمَا يفعل بِمثل هَذَا فِي مصنفات المصنفين بقَوْلهمْ: فصل كَذَا مُجَردا.
فَإِن قلت: أهوَ مُعرب أم لَا؟ قلت: كَيفَ يكون معرباً، وَالْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب، وَإِنَّمَا حكمه حكم الْأَسَامِي الَّتِي تعد بِلَا تركيب بَعْضهَا بِبَعْض.
فَافْهَم.

[ قــ :18 ... غــ :18 ]
- حدّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبْرَنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو إدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بِنُ عبدِ اللَّهِ أنْ عُبادَةَ بنَ الصَّامِتِ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً وهُو أحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحَوْلَهُ عِصابَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ بايِعُونِي على أَن لاَ تُشْرِكُوا باللَّهِ شَيْئاً ولاَ تَسْرِقوا لاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتلُوا أوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْترُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فمنْ وَفَى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على اللَّهِ وَمَنْ أَصابَ مِن ذلكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنيْا فَهُوَ كفَّارَةٌ لَهُ وَمنْ أصابَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً ثمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إِن شاءَ عَفَا عَنْه وَإِن شاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْناهُ على ذلكَ..
وَجه تَخْصِيص الذّكر بِهَذَا الحَدِيث هُنَا، أَن الانصار هم المبتدئون بالبيعة على إعلاء تَوْحِيد الله وشريعته حَتَّى يموتوا على ذَلِك، فحبهم عَلامَة الْإِيمَان مجازاة لَهُم على حبهم من هَاجر إِلَيْهِم ومواساتهم لَهُم فِي أَمْوَالهم، كَمَا وَصفهم الله تَعَالَى، واتباعاً لحب الله لَهُم قَالَ الله تَعَالَى: { قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} ( آل عمرَان: 31) وَكَانَ الْأَنْصَار مِمَّن تبعه أَولا، فَوَجَبَ لَهُم محبَّة الله، وَمن أحب الله وَجب على الْعباد حبه.

( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي.
الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْقرشِي.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو إِدْرِيس، عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن عبد الله بن عمر الْخَولَانِيّ الدِّمَشْقِي، روى عَن: عبد الله بن مَسْعُود وَعَن معَاذ على الْأَصَح، وَسمع: عبَادَة بن الصَّامِت وَأَبا الدَّرْدَاء وخلقاً كثيرا، ولد يَوْم حنين،.

     وَقَالَ  ابْن مَيْمُونَة ولاه عبد الْملك الْقَضَاء بِدِمَشْق، وَكَانَ من عباد الشَّام وقرائهم، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: عبَادَة، بِضَم الْعين، ابْن الصَّامِت بن قيس بن أحرم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم وَهُوَ قوقل بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة وبدراً وأُحداً وبيعة الرضْوَان والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة أَحَادِيث، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بحديثين، وَهُوَ أول من ولي قَضَاء فلسطين، وَكَانَ طَويلا جسيماً جميلاً فَاضلا، توفّي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ، وَفِي ( الِاسْتِيعَاب) : وَجهه عمر رَضِي الله عَنهُ، إِلَى الشَّام قَاضِيا ومعلماً، فَأَقَامَ بحمص، ثمَّ انْتقل إِلَى فلسطين، وَمَات بهَا وَدفن بِبَيْت الْمُقَدّس، وقبره بهَا مَعْرُوف، وَقيل: توفّي بالرملة.
وَاعْلَم أَن عبَادَة بن الصَّامِت فَرد فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَفِيهِمْ عبَادَة بِدُونِ ابْن الصَّامِت اثْنَي عشر نفسا.

( بَيَان الْأَنْسَاب) الْخَولَانِيّ، فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب ( الأكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ ابْن قحطان.
وَفِي كتاب ( المعارف) : خولان بن سعد بن مذْحج، وَأَبُو إِدْرِيس من خولان ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد، وَكَذَلِكَ مِنْهُم أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مشْكم، وخولان فعلان من: خَال يخول، يُقَال مِنْهُ: فلَان خائل إِذا كَانَ حسن الْقيام على المَال والخزرجي نِسْبَة إِلَى الْخَزْرَج، وَهُوَ أَخ الْأَوْس،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد الْخَزْرَج الرّيح العاصف.

( بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن الأسناد كُله شَامِيُّونَ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، وَقد مر الْكَلَام بَين: حَدثنَا وَأخْبرنَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة القَاضِي عَن القَاضِي، وهما: أَبُو إِدْرِيس وَعبادَة بن الصَّامِت.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة من رأى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، عَمَّن رأى النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا إِدْرِيس من حَيْثُ الرِّوَايَة تَابِعِيّ كَبِير، وَمَعَ هَذَا قد ذكر فِي الصَّحَابَة لِأَن لَهُ رِوَايَة، وَأَبوهُ عبد الله بن عَمْرو الْخَولَانِيّ صَحَابِيّ.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الْمَغَازِي وَالْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان عَن شُعْبَة، وَفِي وُفُود الْأَنْصَار عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يَعْقُوب عَن أبي أخي الزُّهْرِيّ، وَعَن عَليّ عَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ البُخَارِيّ عَقِيبه: وَتَابعه عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَفِي الْحُدُود عَن ابْن يُوسُف عَن معمر، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن يحيى بن يحيى وَابْن بكر النَّاقِد وَإِسْحَاق بن نمير عَن ابْن عُيَيْنَة وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر كلهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مثل إِحْدَى رِوَايَات البُخَارِيّ، وَمُسلم قَالَ: ( كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مجْلِس فَقَالَ: تُبَايِعُونِي على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَلَفظه قَالَ: ( بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط، فَقَالَ أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا، وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تشْربُوا وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، وَلَا تعصوني فِي مَعْرُوف، فَمن وفى مِنْكُم فَأَجره على الله، وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا فَأخذ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ وطهور، وَمن ستره الله فَذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ غفر لَهُ) .
وَله فِي الْأُخْرَى نَحْو رِوَايَة التِّرْمِذِيّ.

( بَيَان اللُّغَات) قَوْله: ( وَكَانَ شهد) أَي: حضر، وأصل الشُّهُود الْحُضُور، يُقَال: شهده شُهُودًا، أَي: حَضَره وَهُوَ من بابُُ: علم يعلم، وَجَاء شهد بالشَّيْء، بِضَم الْهَاء، يشْهد بِهِ من الشَّهَادَة، قَالَ فِي ( الْعبابُ) هَذِه لُغَة فِي شهد يشْهد.
وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ { وَمَا شَهِدنَا إلاَّ بِمَا علمنَا} ( يُوسُف: 81) بِضَم الْهَاء، وَقوم شُهُود أَي: حُضُور، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر كَمَا ذكرنَا.
وَشهد لَهُ بِكَذَا شَهَادَة.
أَي: أدّى مَا عِنْده من الشَّهَادَة، وَشهد الرجل على كَذَا شَهَادَة، وَهُوَ خبر قَاطع.
قَوْله: ( بَدْرًا) وَهُوَ مَوضِع الْغَزْوَة الْكُبْرَى الْعُظْمَى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يذكر وَيُؤَنث، مَاء مَعْرُوف على نَحْو أَرْبَعَة مراحل من الْمَدِينَة، وَقد كَانَ لرجل يدعى بَدْرًا، فسميت باسمه.
قلت: بدر اسْم بِئْر حفرهَا رجل من بني النجار، اسْمه بدر، وَفِي ( الْعبابُ) : فَمن ذكَّر قَالَ: هُوَ اسْم قليب، وَمن أنثَّهُ قَالَ: هُوَ اسْم بِئْر،.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: بدر بِئْر كَانَت لرجل سمي بَدْرًا، أَو قَالَ أهل الْحجاز: هُوَ بدر بن قُرَيْش بن الْحَارِث بن يخلد بن النَّضر،.

     وَقَالَ  ابْن الْكَلْبِيّ: هُوَ رجل من جُهَيْنَة.
قَوْله: ( أحد النُّقَبَاء) جمع: نقيب، وَهُوَ النَّاظر على الْقَوْم وضمينهم وعريفهم، وَقد نقب على قومه ينقب نقابة، مِثَال: كتب يكْتب كِتَابَة، إِذا صَار نَقِيبًا وَهُوَ: العريف، قَالَ الْفراء: إِذا أردْت أَنه لم يكن نَقِيبًا بِفعل، قلت: نقب نقابة، بِالضَّمِّ؛ نقابة، بِالْفَتْح، ونقب، بِالْكَسْرِ لُغَة؛ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: النقابة، بِالْكَسْرِ: اسْم، وبالفتح: الْمصدر، مثل الْولَايَة وَالْولَايَة.
قَوْله: ( لَيْلَة الْعقبَة) أَي: الْعقبَة الَّتِي تنْسب إِلَيْهَا جَمْرَة الْعقبَة الَّتِي بمنى، وَعقبَة الْجَبَل مَعْرُوفَة وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع العالي مِنْهُ، وَفِي ( الْعبابُ) : التَّرْكِيب يدل على ارْتِفَاع وَشدَّة وصعوبة.
قَوْله: ( وَحَوله) يُقَال: حوله وحواله وحواليه وحوليه، بِفَتْح اللَّام فِي كلهَا، أَي: يحيطون بِهِ.
قَوْله: ( عِصَابَة) ، بِكَسْر الْعين، وَهِي الْجَمَاعَة من النَّاس لَا وَاحِد لَهَا، وَهُوَ مَا بَين الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين وأُخذ إِمَّا من العصب الَّذِي بِمَعْنى الشدَّة، كَأَنَّهُمْ يشد بَعضهم بَعْضًا، وَمِنْه الْعِصَابَة أَي الْخِرْقَة تشد على الْجَبْهَة، وَمِنْه العصب لِأَنَّهُ يشد الْأَعْضَاء بِمَعْنى الْإِحَاطَة، يُقَال: عصب فلَان بفلان إِذا أحَاط بِهِ.
قَوْله: ( بايعوني) من الْمُبَايعَة، والمبايعة على الْإِسْلَام عبارَة عَن المعاقدة والمعاهدة عَلَيْهِ، سميت بذلك تَشْبِيها بالمعاوضة الْمَالِيَّة.
كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَبِيع مَا عِنْده من صَاحبه، فَمن طرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد الثَّوَاب وَمن طرفهم الْتِزَام الطَّاعَة؛ وَقد تعرف بِأَنَّهَا عقد الإِمَام الْعَهْد بِمَا يَأْمر النَّاس بِهِ، وَفِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: تَعَالَوْا بايعوني.
قَوْله: ( لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) أَي: وحدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ أصل الْإِيمَان وأساس الْإِسْلَام، فَلذَلِك قدمه على أخوته.
قَوْله: ( شَيْئا) عَام لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّهْي لِأَنَّهُ كالنفي، قَوْله: ( بِبُهْتَان) الْبُهْتَان، بِالضَّمِّ: الْكَذِب الَّذِي يبهت سامعه، أَي يدهشه لفظاعته، يُقَال: بَهته بهتاناً إِذا كذب عَلَيْهِ بِمَا يبهته من شدَّة نكره، وَزعم الْبنانِيّ أَن أَبَا زيد قَالَ: بَهته يبهته بهتاناً: رَمَاه فِي وَجهه، أَو من وَرَائه بِمَا لم يكن، والبهَّات الَّذِي يعيب النَّاس بِمَا لم يَفْعَلُوا،.

     وَقَالَ  يَعْقُوب وَالْكسَائِيّ: هُوَ الْكَذِب..
     وَقَالَ  صَاحب ( الْعين) : البهت استقبالك بِأَمْر تقذفه بِهِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيء لايعلمه، وَالِاسْم: الْبُهْتَان.
والبهت أَيْضا: الْحيرَة،.

     وَقَالَ  الزّجاج وقطرب: بهت الرجل انْقَطع وتحير.
وَبِهَذَا الْمَعْنى بهت وبهت.
قَالَ: والبهتان الْكَذِب الَّذِي يتحير من عظمه وشأنه، وَقد بَهته إِذا كذب عَلَيْهِ؛ زَاد قطرب: بهاتة وبهتا، وَفِي ( الْمُحكم) : باهته استقلبه بِأَمْر يقذفه بِهِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيء لَا يُعلمهُ، والبهيتة: الْبَاطِل الَّذِي يتحير من بُطْلَانه، والبهوت: المباهت، وَالْجمع: بهت وبهوت، وَعِنْدِي أَن بهوتاً جمع باهت لَا جمع بهوت، وَقِرَاءَة السَّبع { فبهت الَّذِي كفر} ( يُوسُف: 258) وَقِرَاءَة ابْن حَيْوَة: فبهت، بِضَم الْهَاء، لُغَة فِي بهت..
     وَقَالَ  ابْن جني: وَقد يجوز أَن يكون بهت بِالْفَتْح لُغَة فِي بهت،.

     وَقَالَ  الْأَخْفَش: قِرَاءَة بهت كدهش وحزن، قَالَ: وبهت، بِالضَّمِّ أَكثر من بهت بِالْكَسْرِ، يَعْنِي أَن الضمة تكون للْمُبَالَغَة.
وَفِي ( الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: بَهته يبهته بهتاً إِذا أَخذه بَغْتَة، وبهته بهتاً وبهتاناً وبهتا فَهُوَ بهاة إِذا قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يَفْعَله مُوَاجهَة، وَهُوَ مبهوت، والبهت لَا يكون إلاَّ مُوَاجهَة بِالْكَذِبِ على الْإِنْسَان، وَأما قَول أبي النَّجْم:
( سبى الحماة وابهتوا عَلَيْهَا)

فإنَّ على، مقحمة، وَإِنَّمَا الْكَلَام بَهته، وَلَا يُقَال: بهت عَلَيْهِ؛ وَفِي ( الصِّحَاح) : بهت الرجل بِالْكَسْرِ إِذا دهش تحير، وبهت بِالضَّمِّ مثله، وأفصح مِنْهُمَا: بهت، لِأَنَّهُ يُقَال: رجل مبهوت، وَلَا يُقَال: باهت وَلَا بهيت، قَالَه الْكسَائي.
قلت: فِيهِ نظر لما مر، وَلقَوْل الْقَزاز: بهت يبهت، وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهِي: بهت يبهت بهتاً.
قَالَ هُوَ وَابْن دُرَيْد فِي ( الجمهرة) : هُوَ رجل باه وبهات؛.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ: { وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان} ( الممتحنة: 12) أَي: لَا يَأْتِين بِولد عَن معارضته فتنسبه إِلَى الزَّوْج كَانَ ذَلِك بهتان وفرية، وَيُقَال كَانَت الْمَرْأَة تلْتَقط الْوَلَد فتتبناه..
     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ هَهُنَا قذف الْمُحْصنَات وَهُوَ من الْكَبَائِر، وَيدخل فِيهِ الاغتياب لَهُنَّ ورميهن بالمعصية..
     وَقَالَ  أَيْضا: لَا تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً ومواجهة، وَهَذَا كَمَا يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك.
قَوْله: ( تفترونه) من الافتراء وَهُوَ الاختلاق، والفرية: الْكَذِب.
يُقَال: فرى فلَان كَذَا، إِذا أختلقه، وافتراه: اختلقه، وَالِاسْم: الْفِرْيَة، وَفُلَان يفري الفرى، إِذا كَانَ يَأْتِي بالعجب فِي عمله، قَالَ تَعَالَى: { لقد جِئْت شَيْئا فرياً} ( مَرْيَم: 27) أَي: مصنوعاً مختلقاً، وَيُقَال: عَظِيما.
قَوْله: ( وَلَا تعصوا) ، وَفِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، والعصيان خلاف الطَّاعَة، قَوْله: ( فِي مَعْرُوف) أَي: حسن، وَهُوَ مَا لم ينْه الشَّارِع فِيهِ، أَو مَعْنَاهُ مَشْهُور أَي: مَا عرف فعله من الشَّارِع واشتهر مِنْهُ، وَيُقَال: فِي مَعْرُوف، أَي: فِي طَاعَة الله تَعَالَى، وَيُقَال: فِي كل بر وتقوى..
     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: الْمَعْرُوف مَا عرف من الشَّارِع حسنه،.

     وَقَالَ  الزّجاج: أَي الْمَأْمُور بِهِ، وَفِي ( النِّهَايَة) : هُوَ اسْم جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله تَعَالَى وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات.
قَوْله: ( فَمن وفى مِنْكُم) أَي: ثَبت على مَا بَايع عَلَيْهِ، يُقَال بتَخْفِيف الْفَاء وتشديدها، يُقَال: وفى بالعهد وأوفى ووفي ثلاثي ورباعي، ووفى بالشَّيْء ثلاثي، ووفت ذِمَّتك أَيْضا و: أوفى الشَّيْء ووفي، و: أوفي الْكَيْل ووفاه، وَلَا يُقَال فيهمَا وفى قَوْله: ( وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا) : من، هِيَ التبعيضية، وشيئاً، عَام لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط، وَصرح ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهُ كالنفي فِي إِفَادَة الْعُمُوم كنكرة وَقعت فِي سِيَاقه قَوْله: ( كَفَّارَة) الْكَفَّارَة: الفعلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة، أَي: تسترها، يُقَال: كفرت الشَّيْء أكفر، بِالْكَسْرِ، كفرا أَي: سترته، ورماد مكفور إِذا سفت الرّيح التُّرَاب عَلَيْهِ حَتَّى غطته، وَمِنْه الْكَافِر لِأَنَّهُ ستر الْإِيمَان وغطاه.

( بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: ( عَائِذ الله) عطف بَيَان عَن قَوْله أَبُو إِدْرِيس، وَلِهَذَا ارْتَفع.
قَوْله: ( إِن عبَادَة) أَصله بِأَن عبَادَة، قَوْله: ( وَكَانَ شهد بَدْرًا) الْوَاو فِيهِ هِيَ الْوَاو الدَّاخِلَة على الْجُمْلَة الْمَوْصُوف بهَا لتأكيد لصوقها بموصوفها.
وإفادة أَن اتصافه بهَا أَمر ثَابت، وَكَذَلِكَ الْوَاو فِي قَوْله: ( وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) وَلَا شكّ أَن كَون شُهُود عبَادَة بَدْرًا، وَكَونه من النُّقَبَاء صفتان من صِفَاته، وَلَا يجوز أَن تكون الواوان للْحَال وَلَا للْعَطْف على مَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق سليم، قَوْله: ( بَدْرًا) مَنْصُوب بقوله: شهد، وَلَيْسَ هُوَ مفعول فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مفعول بِهِ، لِأَن تَقْدِيره شهد الْغَزْوَة الَّتِي كَانَت ببدر، قَوْله: ( وَهُوَ) مُبْتَدأ وَخَبره: أحد النُّقَبَاء، و ( لَيْلَة الْعقبَة) نصب على الظَّرْفِيَّة، قَوْله: ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بِأَن، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا التَّرْكِيب: أَن عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا شكّ أَن قَوْله: وَكَانَ شهد بَدْرًا إِلَى قَوْله: إِن، معترض؟ قلت: تَقْدِيره: أَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ أَو أخبر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سَاقِط من أصل الرِّوَايَة، وَسُقُوط هَذَا غير جَائِز، وَإِنَّمَا جرت عَادَة أهل الحَدِيث بِحَذْف: قَالَ، إِذا كَانَ مكرراً نَحْو: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ هَذَا ينطقون بهَا عِنْد الْقِرَاءَة، وَأما هُنَا فَلَا وَجه لجَوَاز الْحَذف، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه ثَبت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بابُُ: من شهد بَدْرًا، وَالظَّاهِر أَنَّهَا سَقَطت من النساخ من بعده، فاستمروا عَلَيْهِ، وَقد روى أَحْمد بن حَنْبَل عَن أبي الْيَمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد: أَن عبَادَة حَدثهُ.
قَوْله: ( قَالَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن، قَوْله: ( وَحَوله عِصَابَة) جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَقَوله: عِصَابَة، هِيَ الْمُبْتَدَأ، و: حوله، نصب على الظَّرْفِيَّة مقدما خَبره، قَوْله: ( من أَصْحَابه) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة للعصابة، أَي: عِصَابَة كائنة من أَصْحَابه، من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن تكون للْبَيَان، قَوْله: ( بايعوني) : جملَة مقول القَوْل، قَوْله: ( على أَن) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: على ترك الْإِشْرَاك بِاللَّه شَيْئا، قَوْله: ( وَلَا تَسْرِقُوا) وَمَا بعده كلهَا عطف على: لَا تُشْرِكُوا، قَوْله: ( تفترونه) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة لبهتان، قَوْله: ( وَلَا تعصوا) أَيْضا عطف على الْمَنْفِيّ فِيمَا قبله، قَوْله: ( فَمن وفى) كلمة: من، شَرْطِيَّة مُبْتَدأ، ووفى جملَة صلتها، قَوْله: ( فَأَجره) مُبْتَدأ ثَان، وَقَوله: ( على الله) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَدخلت الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ الشَّرْط، قَوْله: ( وَمن) ، مُبْتَدأ مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، و ( أصَاب) ، جملَة صلتها، ( شَيْئا) مفعولة.
قَوْله: ( فَعُوقِبَ) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على قَوْله: أصَاب، قَوْله: ( فَهُوَ) مُبْتَدأ ثَان، وَقَوله: ( كَفَّارَة) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَالْفَاء لأجل الشَّرْط، قَوْله: ( وَمن أصَاب) الخ إعرابه مثل إِعْرَاب مَا قبله.
فَإِن قلت: فَلم قَالَ فِي قَوْله: فَعُوقِبَ، بِالْفَاءِ وَفِي قَوْله: ثمَّ ستره الله، بثم؟ قلت: الْفَاء هَهُنَا للتعقيب، ثمَّ التعقيب فِي كل شَيْء بِحَسبِهِ، فَيجوز هَهُنَا أَن يكون بَين الْإِصَابَة وَالْعِقَاب مُدَّة طَوِيلَة أَو قَصِيرَة وَذَلِكَ بِحَسب الْوُقُوع، وَيجوز أَن تكون الْفَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} ( الْحَج: 63) وَأما: ثمَّ، فَإِن وَضعهَا للتراخي، وَقد يتَخَلَّف، وَهَهُنَا: ثمَّ لَيست على بابُُهَا، لِأَن السّتْر عِنْد إِرَادَة الله تَعَالَى تكون عقيب الْإِصَابَة وَلَا يتراخى.
فَافْهَم.

( بَيَان الْمعَانِي) .
قَوْله: ( وَكَانَ شهد بَدْرًا) قد قُلْنَا إِنَّه صفة لعبادة، و: الْوَاو، لتأكيد لصوقها بالموصوف.
فَإِن قلت: هَذَا كَلَام من؟ قلت: يجوز أَن يكون من كَلَام أبي إِدْرِيس، فَيكون مُتَّصِلا إِذا حمل على أَنه سمع ذَلِك من عبَادَة، وَيجوز أَن يكون من كَلَام الزُّهْرِيّ، فَيكون مُنْقَطِعًا، وَكَذَا الْكَلَام فِي قَوْله: ( وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) .
وَالْمرَاد من النُّقَبَاء: نقباء الْأَنْصَار، وهم الَّذين تقدمُوا لأخذ الْبيعَة لنصرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة، وهم اثْنَي عشر رجلا، وهم الْعِصَابَة الْمَذْكُورَة: أسعد بن زُرَارَة.
وعَوْف بن الْحَارِث.
وَأَخُوهُ معَاذ وهما ابْنا عفراء.
وذكوان بن عبد قيس، وَذكر ابْن سعد فِي طبقاته أَنه مُهَاجِرِي أَنْصَارِي.
وَرَافِع بن مَالك الزرقيان.
وَعبادَة بن الصَّامِت.
وعباس بن عبَادَة بن نَضْلَة.
وَيزِيد بن ثَعْلَبَة من بلَى.
وَعقبَة بن عَامر.
وَقُطْبَة بن عَامر، فَهَؤُلَاءِ عشرَة من الْخَزْرَج.
وَمن الْأَوْس: أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان من بلي.
وعويم بن سَاعِدَة.
اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعرض نَفسه على قبائل الْعَرَب فِي كل موسم، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة إِذا لَقِي رهطاً من الْخَزْرَج، فَقَالَ: أَلا تجلسون أكلمكم؟ قَالُوا: بلَى، فجلسوا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، وتلى عَلَيْهِم الْقُرْآن، وَكَانُوا قد سمعُوا من الْيَهُود أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أظل زَمَانه.
فَقَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله إِنَّه لذاك، فَلَا تسبقن الْيَهُود عَلَيْكُم، فَأَجَابُوهُ، فَلَمَّا انصرفوا إِلَى بِلَادهمْ وذكروه لقومهم فَشَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم، فَأتى فِي الْعَام الْقَابِل اثْنَا عشر رجلا إِلَى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار، أحدهم عبَادَة بن الصَّامِت، فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ، وَهِي بيعَة الْعقبَة الأولى فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء يَعْنِي، مَا قَالَ الله تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن} ( الممتحنة: 12) ثمَّ انصرفوا وَخرج فِي الْعَام الآخر سَبْعُونَ رجلا مِنْهُم إِلَى الْحَج، فواعدهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَ كَعْب بن مَالك: لما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وعدنا فِيهَا بتنا أول اللَّيْل مَعَ قَومنَا، فَلَمَّا استثقل النَّاس من النّوم تسللنا من فرشنا حَتَّى اجْتَمَعنَا بِالْعقبَةِ، فَأَتَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَمه الْعَبَّاس لَا غير، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ علمْتُم، وَهُوَ فِي مَنْعَة ونصرة من قومه وعشيرته، وَقد أبي إلاَّ الِانْقِطَاع إِلَيْكُم، فَإِن كُنْتُم وافين بِمَا عاهدتموه فَأنْتم وَمَا تحملتم، وإلاَّ فاتركوه فِي قومه.
فَتكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَاعيا إِلَى الله مرغباً فِي الْإِسْلَام تالياً لِلْقُرْآنِ، فأجبناه بِالْإِيمَان، فَقَالَ: إِنِّي أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم بِهِ أبناءكم، فَقُلْنَا: ابْسُطْ يدك نُبَايِعك عَلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَتَيْ عشر نَقِيبًا، فاخرجنا من كل فرقة نَقِيبًا، وَكَانَ عبَادَة نقيب بني عَوْف، فَبَايعُوهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه بيعَة الْعقبَة الثَّانِيَة: وَله بيعَة ثَالِثَة مَشْهُورَة وَهِي الْبيعَة الَّتِي وَقعت بِالْحُدَيْبِية تَحت الشَّجَرَة عِنْد توجهه من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، تسمى: بيعَة الرضْوَان، وَهَذِه بعد الْهِجْرَة، بِخِلَاف الْأَوليين: وَعبادَة شَهِدَهَا أَيْضا فَهُوَ من الْمُبَايِعين فِي الثَّلَاث رَضِي الله عَنهُ، قَوْله: ( وَلَا تَسْرِقُوا) فِيهِ حذف الْمَفْعُول ليدل على الْعُمُوم، قَوْله: ( فَعُوقِبَ) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: فَعُوقِبَ بِهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أَحْمد.
قَوْله: ( فَهُوَ) أَي: الْعقَاب، وَهَذَا مثل هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: { اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} ( الْمَائِدَة: 8) فَإِنَّهُ يرجع إِلَى الْعدْل الَّذِي دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا، وَكَذَلِكَ قَوْله: فَعُوقِبَ، يدل على الْعقَاب، وَقَوله: هُوَ، يرجع إِلَيْهِ، قَوْله: ( كَفَّارَة) ، فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: كَفَّارَة لَهُ، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد.
وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بابُُ الْمَشِيئَة من كتاب التَّوْحِيد، وَزَاد أَيْضا: ( وطهور) .
قَالَ النَّوَوِيّ: عُمُوم هَذَا الحَدِيث مَخْصُوص بقوله تَعَالَى: { إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} ( النِّسَاء: 48 و 116) فالمرتد إِذا قتل على الرِّدَّة لَا يكون الْقَتْل لَهُ كَفَّارَة.
قلت: أَو يكون مَخْصُوصًا بالاجماع.
أَو لفظ ذَلِك إِشَارَة إِلَى غير الشّرك بِقَرِينَة السّتْر، فَإِنَّهُ يَسْتَقِيم فِي الْأَفْعَال الَّتِي يُمكن إظهارها واخفاؤها.
وَأما الشّرك.
أَي: الْكفْر، فَهُوَ من الْأُمُور الْبَاطِنَة، فَإِنَّهُ ضد الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح..
     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: قَالُوا: المُرَاد مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: ( فَمن وفى) ، وَهُوَ خَاص بهم لقَوْله: ( مِنْكُم) .
تَقْدِيره: وَمن أصَاب مِنْكُم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ من ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا أَي أقيم الْحَد عَلَيْهِ، لم يكن لَهُ عُقُوبَة لأجل ذَلِك الْقيام، وَهُوَ ضَعِيف، لِأَن الْفَاء فِي: فَمن، لترتب مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا، وَالضَّمِير فِي: مِنْكُم، للعصابة الْمَعْهُودَة، فَكيف يخصص الشّرك بِالْغَيْر؟ فَالصَّحِيح أَن المُرَاد بالشرك الرِّيَاء لِأَنَّهُ الشّرك الْخَفي قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا} ( الْكَهْف: 110) وَيدل عَلَيْهِ تنكير شَيْئا، أَي: شركا أياً مَا كَانَ، وَفِيه نظر، لِأَن عرف الشَّارِع يَقْتَضِي أَن لَفْظَة: الشّرك، عِنْد الْإِطْلَاق تحمل على مُقَابل التَّوْحِيد، سِيمَا فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَكَثْرَة عَبدة الْأَصْنَام، وَأَيْضًا عقيب الْإِصَابَة بالعقوبة فِي الدُّنْيَا، والرياء لَا عُقُوبَة فِيهِ.
فَتبين أَن المُرَاد الشّرك، وَأَنه مَخْصُوص.

وَقَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه عبد الْوَاحِد السفاقسي فِي ( شَرحه للْبُخَارِيّ) فِي قَوْله: ( فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا) يُرِيد بِهِ الْقطع فِي السّرقَة، وَالْحَد فِي الزِّنَا.
وَأما قتل الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَة مَعْلُومَة، إلاَّ أَن يُرِيد قتل النَّفس، فكنى بالأولاد عَنهُ، وعَلى هَذَا إِذا قتل الْقَاتِل كَانَ كَفَّارَة لَهُ.
وَحكي عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل وَغَيره: أَن قتل الْقَاتِل حد وإرداع لغيره، وَأما فِي الْآخِرَة فالطلب للمقتول قَائِم لِأَنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ حق، وَقيل: يبْقى لَهُ حق التشفي.
قلت: وَردت أَحَادِيث تدل صَرِيحًا أَن حق الْمَقْتُول يصل إِلَيْهِ بقتل الْقَاتِل.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَصَححهُ: ( أَن السَّيْف محاء للخطايا) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: ( إِذا جَاءَ الْقَتْل محى كل شَيْء) ، وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحوه.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: ( لَا يمر الْقَتْل بذنب إلاَّ محاه) ، وَقَوله: إِن قتل الْقَاتِل حد وإرداع.
الخ فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم يجز الْعَفو عَن الْقَاتِل..
     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى الْحُدُود كَفَّارَة لهَذَا الحَدِيث، وَمِنْهُم من وقف لحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ( لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا أم لَا) لَكِن حَدِيث عبَادَة أصح، إِسْنَادًا، وَيُمكن، يَعْنِي على طَرِيق الْجمع بَينهمَا، أَن يكون حَدِيث أبي هُرَيْرَة ورد أَولا قبل أَن يعلم، ثمَّ أعلمهُ الله تَعَالَى آخرا.

وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَاحْتج من وفْق بقوله تَعَالَى: { ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} ( الْمَائِدَة: 33) لَكِن من قَالَ: إِن الْآيَة فِي الْكَفَّارَة فَلَا حجَّة فِيهَا.
وَأَيْضًا، يُمكن أَن يكون حَدِيث عبَادَة مُخَصّصا لعُمُوم الْآيَة، أَو مُبينًا أَو مُفَسرًا لَهَا.
فَإِن قيل: حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى، وَأَبُو هُرَيْرَة إِنَّمَا أسلم بعد ذَلِك بِسبع سِنِين عَام خَيْبَر، فَكيف يكون حَدِيثه مُتَقَدما؟ قيل: يُمكن أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة مَا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر كَانَ سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما وَلم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك: إِن الْحُدُود كَفَّارَة، كَمَا سَمعه عبَادَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ تعسف ويبطله أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، صرح بِسَمَاعِهِ، وَأَن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، وَهُوَ سَابق على حَدِيث عبَادَة والمبايعة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة، لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا نَص بيعَة الْعقبَة مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل الْمَغَازِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن حضر من الْأَنْصَار أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ نساءكم وأبناءكم، فَبَايعُوهُ على ذَلِك، وعَلى أَن يرحل إِلَيْهِم هُوَ وَأَصْحَابه، ثمَّ صدرت مبايعات أُخْرَى: مِنْهَا هَذِه الْبيعَة، وَإِنَّمَا وَقعت بعد فتح مَكَّة بعد أَن نزلت الْآيَة الَّتِي فِي الممتحنة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك} ( الممتحنة: 12) ونزول هَذِه الْآيَة مُتَأَخّر بعد قصَّة الْحُدَيْبِيَة بِلَا خلاف، وَالدَّلِيل على ذَلِك عِنْد البُخَارِيّ، فِي كتاب الْحُدُود، من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بايعهم قَرَأَ الْآيَة كلهَا، وَعِنْده فِي تَفْسِير الممتحنة من هَذَا الْوَجْه قَالَ: قَرَأَ آيَة النِّسَاء.
وَلمُسلم من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: قَالَ فَتلا علينا آيَة النِّسَاء أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا، وللنسائي، من طَرِيق الْحَارِث بن فُضَيْل عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( أَلا تبايعونني على مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء: أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) ؟ الحَدِيث.
وللطبراني من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا السَّنَد: ( بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء يَوْم فتح مَكَّة) ، وَلمُسلم من طَرِيق أبي الْأَشْعَث عَن عبَادَة فِي هَذَا الحَدِيث: ( أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَخذ على النِّسَاء) ، فَهَذِهِ أَدِلَّة صَرِيحَة فِي أَن هَذِه الْبيعَة إِنَّمَا صدرت بعد نزُول الْآيَة، بل بعد فتح مَكَّة، وَذَلِكَ بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي، عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) .
فَذكر مثل حَدِيث عبَادَة، وَرِجَاله ثِقَات.
وَقد قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: إِذا صَحَّ الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر انْتهى.

وَإِذا كَانَ عبد الله بن عمر وَاحِد من حضر هَذِه الْبيعَة وَلَيْسَ هُوَ من الْأَنْصَار، وَلَا مِمَّن حضر بيعتهم بمنى، صَحَّ تغاير البيعتين: بيعَة الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة وَهِي قبل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة، وبيعة أُخْرَى وَقعت بعد فتح مَكَّة وشهدها عبد الله بن عمر وَكَانَ إِسْلَامه بعد الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا حصل الالتباس من جِهَة أَن عبَادَة بن الصَّامِت حضر البيعتين مَعًا، وَكَانَت بيعَة الْعقبَة من أجل مَا يتمدح بِهِ، فَكَانَ يذكرهَا إِذا حدث تنويهاً بسابقته، فَلَمَّا ذكر هَذِه الْبيعَة الَّتِي صدرت على مثل بيعَة النِّسَاء عقب ذَلِك، توهم من لم يقف على حَقِيقَة الْحَال أَن الْبيعَة الأولى وَقعت على ذَلِك.
انْتهى كَلَامه.

قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه.
الأول: أَن قَوْله: ويبطله، أَن أَبَا هُرَيْرَة صرح بِسَمَاعِهِ غير مُسلم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا، أَنه يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر، فَلذَلِك صرح بِالسَّمَاعِ، وَهَذَا غير مَمْنُوع وَلَا محَال؛ وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَنه صرح بِالسَّمَاعِ لتوثقه بِالسَّمَاعِ من صَحَابِيّ آخر، فَإِن الصَّحَابَة كلهم عدُول لَا يتَوَهَّم فيهم الْكَذِب.
الثَّانِي: أَن قَوْله: وَإِن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، لَا يلْزم من عدم نزُول الْحُدُود فِي تِلْكَ الْحَالة انْتِفَاء كَون الْحُدُود كَفَّارَات فِي الْمُسْتَقْبل، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِي حَدِيث عبَادَة أَن من أصَاب مِمَّا يجب فِيهِ الْحُدُود الَّتِي تنزل عَلَيْهَا بعد هَذَا، ثمَّ عُوقِبَ بِسَبَب ذَلِك بِأَن أَخذ مِنْهُ الْحَد، فَإِن ذَلِك الْحَد يكون كَفَّارَة لَهُ، وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم قبل نزُول الْحُدُود أَن حَال أمته لَا تستقيم إلاَّ بالحدود، فَأخْبر فِي حَدِيث عبَادَة بِنَاء على مَا كَانَ على مَا كَانَ علمه قبل الْوُقُوع.
الثَّالِث: أَن قَوْله: وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، غير مُسلم، لِأَن الحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) وَالْبَزَّار فِي ( مُسْنده) من رِوَايَة معمر عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد علم مساهلة الْحَاكِم فِي بابُُ التَّصْحِيح، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: إِن عبد الرَّزَّاق تفرد بوصله، وَإِن هِشَام بن يُوسُف رَوَاهُ عَن معمر فَأرْسلهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَتَى يُسَاوِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت حَتَّى يَقع بَينهمَا تعَارض فَيحْتَاج إِلَى الْجمع والتوفيق؟ فَإِن قلت: قد وَصله آدم بن أبي إِيَاس، عَن ابْن أبي ذِئْب أخرجه الْحَاكِم أَيْضا.
قلت: وَلَو وَصله، هُوَ أَو غَيره، فَإِن قطع غَيره مِمَّا يُورث عدم التَّسَاوِي بِحَدِيث عبَادَة، وَصِحَّة حَدِيث عبَادَة مُتَّفق عَلَيْهَا بِخِلَاف حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نَص عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض وَغَيره، فَلَا تَسَاوِي، فَلَا تعَارض، فَلَا احْتِيَاج إِلَى التَّكَلُّف بِالْجمعِ والتوفيق.
الرَّابِع: أَن قَوْله: والمبايعة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، غير مُسلم، لِأَن القَاضِي عِيَاض وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة الأجلاء قد جزموا بِأَن حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى.

وَنُقِيم بِصِحَّة مَا قَالُوا دَلَائِل.
مِنْهَا: أَنه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: ( وَحَوله عِصَابَة) .
وفسروا أَن الْعِصَابَة هم النُّقَبَاء الأثني عشر، وَلم يكن غَيرهم هُنَاكَ، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: ( قَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط) ، الحَدِيث: وَقد قَالَ أهل اللُّغَة: إِن الرَّهْط: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة.
قَالَ الله تَعَالَى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط} ( النَّمْل: 48) قَالَ ابْن دُرَيْد رُبمَا جَاوز ذَلِك قَلِيلا، قَالَه فِي ( الْعبابُ) والقليل ضد الْكثير، وَأَقل الْكثير ثَلَاثَة، وَأكْثر الْقَلِيل اثْنَان، فَإِذا أضفنا الْإِثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعَة يكون أحد عشر، وَكَانَ المُرَاد من الرَّهْط هُنَا أحد عشر نَقِيبًا، وَمَعَ عبَادَة يكونُونَ اثْنَي عشر نَقِيبًا، فَإِذا ثَبت هَذَا فقد دلّ قطعا أَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة الْبيعَة الأولى، لِأَن الْبيعَة الَّتِي وَقعت بعد فتح مَكَّة على زعم هَذَا الْقَائِل كَانَ فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَانُوا بعد كثير.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله لَيْلَة الْعقبَة دَلِيل على أَن هَذِه الْبيعَة كَانَت هِيَ الأولى، لِأَنَّهُ لم يذكر فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا ذكر فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يَوْم فتح مَكَّة، وَلَا يلْزم من كَون الْبيعَة يَوْم فتح مَكَّة أَن تكون الْبيعَة الْمَذْكُورَة هِيَ إِيَّاهَا غَايَة الْأَمر أَن عبَادَة قد أخبر أَنه وَقعت بيعَة أُخْرَى يَوْم فتح مَكَّة، وَكَانَ هُوَ فِيمَن بَايعُوهُ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَالثَّالِث: أَن مَا وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ من طَرِيق الصنَابحِي عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: ( إِنِّي من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ : بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا)
.
الحَدِيث يدل على أَن الْمُبَايعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الْمَذْكُور كَانَت لَيْلَة الْعقبَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أخبر فِيهِ أَنه كَانَ من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة، وَأخْبر أَنهم بَايعُوهُ، وَلم يثبت لنا أَن أحدا بَايعه عَلَيْهِ السَّلَام، قبلهم، فَدلَّ على أَن بيعتهم أول المبايعات، وَأَن الحَدِيث الْمَذْكُور كَانَ لَيْلَة الْعقبَة.
وَأما احتجاج هَذَا الْقَائِل فِي دَعْوَاهُ بِمَا وَقع فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا من قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة على مَا ذكره فَلَا يتم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن عبَادَة لما حضر البيعات مَعَ النَّبِي زسمع مِنْهُ قِرَاءَة الْآيَات الْمَذْكُورَة فِي البيعات الَّتِي وَقعت بعد الْحُدَيْبِيَة أَو بعد فتح مَكَّة، ذكرهَا فِي حَدِيثه، بِخِلَاف حَدِيث الْبيعَة الأولى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قِرَاءَة شَيْء من الْآيَات.
وَتمسك هَذَا الْقَائِل أَيْضا بِمَا زَاد فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَلَا ننتهب على أَن هَذِه الْبيعَة مُتَأَخِّرَة، لِأَن الْجِهَاد عِنْد بيعَة الْعقبَة لم يكن فرضا، وَالْمرَاد بالانتهاب: مَا يَقع بعد الْقِتَال فِي الْمَغَانِم، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَن الانتهاب أَعم من أَن يكون فِي الْمَغَانِم وَغَيرهَا، وتخصيصه بالمغانم تحكم ومخالف للغة.

( استنباط الْأَحْكَام) : وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: أَن آخر الحَدِيث يدل على أَن الله لَا يجب عَلَيْهِ عِقَاب عاصٍ، وَإِذا لم يجب عَلَيْهِ هَذَا لَا يجب عَلَيْهِ ثَوَاب مُطِيع أصلا، إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ.
الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ( فَهُوَ إِلَى الله) أَي: حكمه من الْأجر وَالْعِقَاب مفوض إِلَى الله تَعَالَى، وَهَذَا يدل على أَن من مَاتَ من أهل الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة، إِن شَاءَ الله عَفا عَنهُ وَأدْخلهُ الْجنَّة أول مرّة، وَإِن شَاءَ عذبه فِي النَّار ثمَّ يدْخلهُ الْجنَّة وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،.

     وَقَالَ ت الْمُعْتَزلَة: صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ بِغَيْر التَّوْبَة لَا يُعْفَى عَنهُ فيخلد فِي النَّار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يوجبون الْعقَاب على الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة وَبعدهَا الْعَفو عَنْهَا.
الثَّالِث: قَالَ الْمَازرِيّ: فِيهِ رد على الْخَوَارِج الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ.
الرَّابِع: قَالَ الطَّيِّبِيّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْكَفّ عَن الشَّهَادَة بالنَّار على أحد وبالجنة لأحد إلاَّ من ورد النَّص فِيهِ بِعَيْنِه.
الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحُدُود كَفَّارَات، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ من الصَّحَابَة غير وَاحِد مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم وَفِيه: ( وَمن أصَاب ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَالله أكْرم أَن يثني بالعقوبة على عَبده فِي الْآخِرَة) ، وَمِنْهُم: أَبُو تَمِيمَة الْجُهَنِيّ أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَمِنْهُم: خُزَيْمَة بن ثَابت، أخرج حَدِيثه أَحْمد بِإِسْنَاد حسن وَلَفظه: ( من أصَاب ذَنبا أقيم الْحَد على ذَلِك الذَّنب فَهُوَ كَفَّارَته) .
وَمِنْهُم: ابْن عمر، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: ( مَا عُوقِبَ رجل على ذَنْب إِلَّا جعله الله كَفَّارَة لما أصَاب من ذَلِك الذَّنب) .

( الأسئلة والأجوبة) : مِنْهَا مَا قيل: قتل غير الْأَوْلَاد أَيْضا مَنْهِيّ إِذا كَانَ بِغَيْر حق، فتخصيصه بِالذكر يشْعر بِأَن غَيره لَيْسَ مَنْهِيّا.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا مَفْهُوم اللقب وَهُوَ مَرْدُود على أَنه لَو كَانَ من بابُُ المفهومات الْمُعْتَبرَة المقبولة فَلَا حكم لَهُ هَهُنَا، لِأَن اعْتِبَار جَمِيع المفاهيم، إِنَّمَا هُوَ إِذا لم يكن خرج مخرج الْأَغْلَب، وَهَهُنَا هُوَ كَذَلِك، لأَنهم كَانُوا يقتلُون الْأَوْلَاد غَالِبا خشيَة الإملاق، فخصص الْأَوْلَاد بِالذكر لِأَن الْغَالِب كَانَ كَذَلِك.
قَالَ التَّيْمِيّ: خص الْقَتْل بالأولاد لمعنيين: أَحدهمَا: أَن قَتلهمْ هُوَ أكبر من قتل غَيرهم، وَهُوَ الوأد، وَهُوَ أشنع الْقَتْل.
وَثَانِيهمَا: أَنه قتل وَقَطِيعَة رحم، فصرف الْعِنَايَة إِلَيْهِ أَكثر.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى الإطناب فِي قَوْله: وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، حَيْثُ قيل: تَأْتُوا وَوصف الْبُهْتَان بالافتراء، والافتراء والبهتان من وَاد واحدٍ وَزيد عَلَيْهِ: بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، وهلا اقْتصر على: وَلَا تبهتوا النَّاس؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ مزِيد التَّقْرِير وتصوير بشاعة هَذَا الْفِعْل.
وَمِنْهَا مَا قيل: فَمَا معنى إِضَافَته إِلَى الْأَيْدِي والأرجل؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان من قبل أَنفسكُم، وَالْيَد وَالرجل كنايتان عَن الذَّات، لِأَن مُعظم الْأَفْعَال يَقع بهما، وَقد يُعَاقب الرجل بِجِنَايَة قولية فَيُقَال لَهُ: هَذَا بِمَا كسبت يداك، أَو مَعْنَاهُ: وَلَا تغشوه من ضمائركم، لِأَن المفتري إِذا أَرَادَ اخْتِلَاق قَول فَإِنَّهُ يقدره ويقرره أَولا فِي ضَمِيره، ومنشأ ذَلِك مَا بَين الْأَيْدِي والأرجل من الْإِنْسَان وَهُوَ الْقلب، وَالْأول: كِنَايَة عَن إِلْقَاء الْبُهْتَان من تِلْقَاء أنفسهم، وَالثَّانِي: عَن إنْشَاء الْبُهْتَان من دخيلة قُلُوبهم مَبْنِيا على الْغِشّ المبطن..
     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً مُوَاجهَة، وَهَذَا كَمَا يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك..
     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: هَذَا غير صَوَاب من حَيْثُ إِن الْعَرَب، وَإِن قَالَت: فعلته بَين أَيدي الْقَوْم، أَي: بحضرتهم لم تقل: فعلته بَين أَرجُلهم، وَلم ينْقل عَنْهُم هَذَا أَلْبَتَّة..
     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هُوَ صَوَاب، إِذْ لَيْسَ الْمَذْكُور الأرجل فَقَط، بل المُرَاد الْأَيْدِي، وَذكر الأرجل تَأْكِيدًا لَهُ وتابعاً لذَلِك، فالمخطىء مخطىء وَيُقَال: يحْتَمل أَن يُرَاد بِمَا بَين الْأَيْدِي والأرجل الْقلب، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يترجم اللِّسَان عَنهُ، فَلذَلِك نسب إِلَيْهِ الافتراء،، فَإِن الْمَعْنى: لَا ترموا أحدا بكذب تزوِّرونه فِي أَنفسكُم ثمَّ تبهتون صَاحبكُم بألسنتكم..
     وَقَالَ  أَبُو مُحَمَّد بن أبي جَمْرَة: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: بَين أَيْدِيكُم، أَي: فِي الْحَال، قَوْله: وأرجلكم أَي: فِي الْمُسْتَقْبل، لِأَن السَّعْي من أَفعَال الأرجل..
     وَقَالَ  غَيره: أصل هَذَا كَانَ فِي بيعَة النِّسَاء، وكنى بذلك كَمَا قَالَ الْهَرَوِيّ فِي ( الغريبين) عَن نِسْبَة الْمَرْأَة الْوَلَد الَّذِي تَزني بِهِ أَو تلتقطه إِلَى زَوجهَا، ثمَّ لما اسْتعْمل هَذَا اللَّفْظ فِي بيعَة الرِّجَال احْتِيجَ إِلَى حمله على غير مَا ورد فِيهِ أَولا.
قلت: وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: وَلَا نقْتل أَوْلَادنَا، وَلَا يعضه بَعْضنَا بَعْضًا، أَي: لَا يسخر.
وَقيل: لَا يَأْتِي بِبُهْتَان، يُقَال: عضهت الرجل رميته بالعضيهة؛ قَالَ الْجَوْهَرِي: العضيهة البهيتة، وَهُوَ الْإِفْك والبهتان، تَقول يَا للعضيهة.
بِكَسْر اللَّام، وَهِي استغاثة، وَأَصله من: عضهه عضهاً بِالْفَتْح،.

     وَقَالَ  الْكسَائي: العضه الْكَذِب، وَجَمعهَا عضون، مثل: عزة وعزون، وَيُقَال نقصانه الْهَاء وَأَصله عضهة.
وَمِنْهَا مَا قيل: لم قيد قَوْله: ( وَلَا تعصوا) ، بقوله: ( فِي مَعْرُوف) ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قَيده بذلك تطييباً لنفوسهم، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لَا يَأْمر إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ..
     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يحْتَمل فِي معنى الحَدِيث: وَلما تعصوني، وَلَا أجد عَلَيْكُم أولى من اتباعي إِذا أَمرتكُم بِالْمَعْرُوفِ، فَيكون التَّقْيِيد بِالْمَعْرُوفِ عَائِدًا إِلَى الِاتِّبَاع، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تعصوا وَلم يقل وَلَا تعصوني.
قلت: فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، فِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، فحينئذٍ الْأَحْسَن هُوَ الْجَواب الأول..
     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فِي آيَة المبايعات: فَإِن قلت: لَو اقْتصر على قَوْله: لَا يَعْصِينَك، فقد علم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْمر إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ.
قلت: نبه بذلك على أَن طَاعَة الْمَخْلُوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق جديرة بغاية التوقي والاجتناب.
وَمِنْهَا مَا قيل: قد ذكر فِي الاعتقاديات والعمليات كلتيهما، فلِمَ اكْتفى فِي الاعتقاديات بِالتَّوْحِيدِ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل والأساس.
وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ مَا ذكر الْإِتْيَان بالواجبات وَاقْتصر على ترك المنهيات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يقْتَصر حَيْثُ قَالَ: وَلَا تعصوا فِي مَعْرُوف، إِذْ الْعِصْيَان مُخَالفَة الْأَمر، أَو اقْتصر لِأَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَلم تشرع الْأَفْعَال بعد.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قدم ترك المنهيات على فعل المأمورات؟ وَأجِيب: بِأَن التخلي عَن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ ترك سَائِر المنهيات وَلم يقل مثلا { وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم} ( الْأَنْعَام: 152، والإسراء: 34) وَغير ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت حرَام آخر، أَو اكْتفى بِالْبَعْضِ ليقاس الْبَاقِي عَلَيْهِ، أَو لزِيَادَة الاهتمام بالمذكورات.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: ( فَأَجره على الله) يشْعر بِالْوُجُوب على الله لكلمة: على وَأجِيب: بِأَن هَذَا وَارِد على سَبِيل التفخيم نَحْو قَوْله تَعَالَى: { فقد وَقع أجره على الله} ( النِّسَاء: 100) وَيتَعَيَّن حمله على غير ظَاهره للأدلة القاطعة على أَنه لَا يجب على الله شَيْء.
وَمِنْهَا مَا قيل: لفظ الْأجر مشْعر بِأَن الثَّوَاب إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحقّ كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة لَا مُجَرّد فضل كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أطلق الْأجر لِأَنَّهُ مشابه لِلْأجرِ، صُورَة لترتبه عَلَيْهِ.