هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
26 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، قَالاَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
26 حدثنا أحمد بن يونس ، وموسى بن إسماعيل ، قالا : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : حدثنا ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي العمل أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله . قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،  عن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ .

Narrated Abu Huraira:

Allah's Messenger (ﷺ) was asked, What is the best deed? He replied, To believe in Allah and His Apostle (Muhammad). The questioner then asked, What is the next (in goodness)? He replied, To participate in Jihad (religious fighting) in Allah's Cause. The questioner again asked, What is the next (in goodness)? He replied, To perform Hajj (Pilgrim age to Mecca) 'Mubrur, (which is accepted by Allah and is performed with the intention of seeking Allah's pleasure only and not to show off and without committing a sin and in accordance with the traditions of the Prophet).

0026 D’après Sa’id ben al-Mussayyab, Abu Hurayra rapporte qu’on avait interrogé le Messager de Dieu : « Quelle oeuvre est la meilleure ? » « Croire en Dieu et en son Messager » répondit le Prophète. « Et quoi après ? » « Combattre pour la cause de Dieu. » « Et puis quoi ? » « Un pèlerinage parfaitement accompli. »

":"ہم سے احمد بن یونس اور موسیٰ بن اسماعیل دونوں نے بیان کیا ، انھوں نے کہا ہم سے ابراہیم بن سعید نے بیان کیا ، انھوں نے کہا ہم سے ابن شہاب نے بیان کیا ، وہ سعید بن المسیب رضی اللہ عنہ سے روایت کرتے ہیں ، وہ حضرت ابوہریرہ رضی اللہ عنہ سے کہرسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم سے دریافت کیا گیا کہ کون سا عمل سب سے افضل ہے ؟ آپ صلی اللہ علیہ وسلم نے فرمایا ” اللہ اور اس کے رسول پر ایمان لانا “ کہا گیا ، اس کے بعد کون سا ؟ آپ صلی اللہ علیہ وسلم نے فرمایا کہ ” اللہ کی راہ میں جہاد کرنا “ کہا گیا ، پھر کیا ہے ؟ آپ صلی اللہ علیہ وسلم نے فرمایا ” حج مبرور “ ۔

0026 D’après Sa’id ben al-Mussayyab, Abu Hurayra rapporte qu’on avait interrogé le Messager de Dieu : « Quelle oeuvre est la meilleure ? » « Croire en Dieu et en son Messager » répondit le Prophète. « Et quoi après ? » « Combattre pour la cause de Dieu. » « Et puis quoi ? » « Un pèlerinage parfaitement accompli. »

شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [26] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ الْكُوفِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ .

     قَوْلُهُ  سُئِلَ أَبْهَمَ السَّائِلَ وَهُوَ أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَحَدِيثه فِي الْعتْق قَوْله قيل ثمَّ مَاذَا قَالَ الْجِهَاد وَقع فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ جِهَادٌ فَوَاخَى بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي التَّنْكِيرِ بِخِلَافِ مَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ.

     وَقَالَ  الْكِرْمَانِيُّ الْإِيمَانُ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادُ قَدْ يَتَكَرَّرُ فَالتَّنْوِينُ لِلْإِفْرَادِ الشَّخْصِيِّ وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ إِذِ الْجِهَادُ لَوْ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّكْرَارِ لَمَا كَانَ أَفْضَلَ وَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ التَّعْظِيمُ وَهُوَ يُعْطِي الْكَمَالَ وَبِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ الْعَهْدُ وَهُوَ يُعْطِي الْإِفْرَادَ الشَّخْصِيِّ فَلَا يُسَلَّمُ الْفَرْقُ.

.

قُلْتُ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَنَّ التَّنْكِيرَ وَالتَّعْرِيفَ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ لِأَنَّ مَخْرَجَهُ وَاحِدٌ فَالْإِطَالَةُ فِي طَلَبِ الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ طَائِلَةٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

     قَوْلُهُ  حَجٌّ مَبْرُورٌ أَيْ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ بَرَّ حَجُّكُ وَقِيلَ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ وَقِيلَ الَّذِيلَا رِيَاءَ فِيهِ فَائِدَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجِهَادَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ وَذَكَرَ الْعتْق وَفِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ الْبِرِّ ثُمَّ الْجِهَادِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرَ السَّلَامَةَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَفْظَةَ مِنْ مُرَادَةٌ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَعْقَلُ النَّاسِ وَالْمُرَادُ مِنْ أَعْقَلِهِمْ وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ الْجِهَادَ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ رُكْنٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ نَفْعَ الْحَجِّ قَاصِرٌ غَالِبًا وَنَفْعَ الْجِهَادِ مُتَعَدٍّ غَالِبًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ وَوُقُوعُهُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذْ ذَاكَ مُتَكَرِّرٌ فَكَانَ أهم مِنْهُ فَقدم وَالله أعلم! ! ( قَولُهُ بَابُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ) حَذَفَ جَوَابَ قَوْلِهِ إِذَا لِلْعِلْمِ بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَمُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهُوَ الَّذِي يُرَادِفُ الْإِيمَانَ وَيَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ وَعَلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْد الله الْإِسْلَام وَقَولُهُ تَعَالَى فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ من الْمُسلمين وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهُوَ مُجَرَّدُ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ فَالْحَقِيقَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هِيَ الشَّرْعِيَّةُ وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمَ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بَاطِنُهُ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ تَصْدُقْ عَلَيْهِ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ.

.
وَأَمَّا اللُّغَوِيَّةُ فَحَاصِلَةٌ

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [26] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».
قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ».
[الحديث طرفه في: 1519] .
وبالسند السابق أول هذا التعليق إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبة إلى جده لشهرته به وإنما اسم أبيه عبد الله اليربوعي التميمي الكوفي المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائتين (و) كذا حدّثنا (موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم السابق (قالا) بالتثنية (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف السابق (قال حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سعيد بن المسيب) بضم الميم وكسر المثناة التحتية والفتح فيها أشهر وكان يكرهه ابن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي إمام التابعين في الشرع وفقيه الفقهاء المتوفى سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين وهو زوج بنت أَبي هريرة وأبوه وجده صحابيان (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر أن وأبهم السائل وهو أبو ذر وحديثه في العتق (أي العمل أفضل)، أي أكثر ثوابًا عند الله تعالى وهو مبتدأ وخبر (قال) ولغير الأربعة وكريمة قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو (إيمان بالله ورسوله.
قيل: ثم ماذا) أي أيّ شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال) عليه الصلاة والسلام هو (الجهاد في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله أفضل لبذله نفسه.
(قيل: ثم ماذا) أفضل؟ (قال) عليه الصلاة واالسلام هو (حج مبرور) أي مقبول أي لا يخالطه إثم أو لا رياء فيه، وعلامة القبول أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله، وقد وقع هنا الجهاد بعد الإيمان.
وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثمّ الجهاد، وفي الحديث السابق ذكر السلامة من اليد واللسان وكلها في الصحيح.
وقد أجيب بأن اختلاف الأجوبة في ذلك لاختلاف الأحوال والأشخاص، ومن ثم لم يذكر الصلاة والزكاة والصيام في حديث هذا الباب.
وقد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير من جميع الوجوه في جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال، وإنما قدم الجهاد على الحج للاحتياج إليه أول الإسلام، وتعريف الجهاد باللام دون الإيمان والحج إما لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة في المعنى على أنه وقع في مسند الحرث بن أبي أسامة ثم جهاد بالتنكير هذا من جهة النحو، وأما من جهة المعنى فلأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنوّنا للإفراد والجهاد قد يتكَرر فعرف والتعريف للكمال.
وفي إسناد هذا الحديث أربعة كلهم مدنيون وفيه شيخان للمؤلف والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الإيمان، والنسائي والترمذي باختلاف بينهم في ألفاظه.
19 - باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلاَمِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} .
فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} هذا (باب) بالتنوين (إذا لم يكن) أي إن لم يكن (الإسلام على الحقيقة) الشرعية (وكان على الاستسلام) أي الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلم (أو) كان على (الخوف من القتل) لا ينتفع به في الآخرة فإذا متضمنة معنى الشرط والجزاء محذوف وتقديره نحو ما قدرته (لقوله تعالى) ولأبي ذر والأصيلي عز وجل: (قالت الأعراب) أهل البدو ولا واحد له من لفظه ومقول قولهم (آمنا) نزلت في نفر من بني أسلم قدموا المدينة في سنة مجدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون، فقال الله تعالى: { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .
فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار للشهادة لا بالحقيقة، ومن ثم قال تعالى: (قل لم تؤمنوا) لأن كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا إذ لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، فعدل عنه إلى هذا النظم ليفيد تكذيب دعواهم.
وفي هذه الآية كما قال الإمام أبو بكر بن الطيب حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة في قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان فقط، ومثل هذه الآية في الدلالة لذلك قوله تعالى: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَان} [المجادلة: 22] .
ولم يقل كتب في ألسنتهم، ومن أقوى ما يردّ به عليهم الإجماع على كفر المنافقين مع كونهم أظهروا الشهادتين.
(فإذا كان) أي الإسلام (على الحقيقة) الشرعية وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله تعالى (فهو على قوله جل ذكره: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] .
أي لا دين مرضي عنده تعالى سواه، وفتح الكسائي همزة أن على أنه بدل من أنه بدل الكل من الكل إن فسر الإسلام بالإيمان وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة، وقد استدل المؤلف بهذه الآية على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان وهو قول جماعة من المحدثين وجمهور المعتزلة والمتكلمين، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين} [الذاريات: 35، 36] .
فاستثنى المسلمين من المؤمنين، والأصل في الاستثناء كون المستثنى من جنس المستثنى منه فيكون الإسلام هو الإيمان وردّ بقوله تعالى: { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .
فلو كان شيئًا واحدًا لزم إثبات شيء ونفيه في حالة واحدة وهو مُحال.
وأجيب بأن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى انقياد الظاهر من غير انقياد الباطن كما تقدم قريبًا، ثم استدل المؤلف أيضًا على مذهبه بقوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى { دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
جواب الشرط.
ووجه الدلالة على ترادفهما أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً، فتعين أن يكون عينه لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) فينتج أن الإيمان هو الإسلام وسقط للكشميهني والحموي من قوله: ومن يبتغ إلخ.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [26] حدّثنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إسمَاعِيلَ قالاَ حدّثنا إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حدّثنا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيد بْنِ المُسيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرةَ أَن رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ فقالَ إيمانٌ باللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذا قالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيل ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
( الحَدِيث 26 طرفه فِي: 1519) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي اطلاق الْعَمَل على الْإِيمَان..
     وَقَالَ  ابْن بطال: الْآيَة حجَّة فِي أَن الْعَمَل بِهِ ينَال دَرَجَات الْآخِرَة، وَأَن الْإِيمَان قَول وَعمل، وَيشْهد لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة أهل السّنة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَمن بعدهمْ.
ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُرَاد البُخَارِيّ بالتبويب،.

     وَقَالَ  أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْإِيمَان من الْعَمَل، وَفرق فِي أَحَادِيث أخر بَين الْإِيمَان والأعمال، وَأطلق اسْم الْإِيمَان مُجَردا على التَّوْحِيد، وعملَ الْقلب، وَالْإِسْلَام على النُّطْق وَعمل الْجَوَارِح، وَحَقِيقَة الْإِيمَان مُجَرّد التَّصْدِيق المطابق لِلْقَوْلِ وَالْعقد، وَتَمَامه بِتَصْدِيق الْعَمَل بالجوارح، فَلهَذَا أَجمعُوا أَنه لَا يكون مُؤمن تَامّ الْإِيمَان إِلَّا باعتقاد وَقَول وَعمل، وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي يُنجي رَأْسا من نَار جَهَنَّم، ويعصم المَال وَالدَّم، وعَلى هَذَا يَصح إِطْلَاق الْإِيمَان على جَمِيعهَا، وعَلى بَعْضهَا من: عقد أَو قَول أَو عمل وعَلى هَذَا لَا شكّ بِأَن التَّصْدِيق والتوحيد أفضل الْأَعْمَال إِذْ هُوَ شَرط فِيهَا.
( بَيَان رِجَاله) : وهم سِتَّة.
الأول: أَحْمد بن يُونُس: هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله بن قيس الْيَرْبُوعي التَّمِيمِي، يكنى بِأبي عبد الله، واشتهر بِأَحْمَد بن يُونُس مَنْسُوبا إِلَى جده.
يُقَال: إِنَّه مولى الفضيل بن عِيَاض، مَالِكًا سمع وَابْن أبي ذِئْب وَاللَّيْث والفضيل وخلقا كثيرا، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وروى البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن مُوسَى عَنهُ، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ ثِقَة متقنا،.

     وَقَالَ  أَحْمد فِيهِ: شيخ الْإِسْلَام، وَتُوفِّي فِي ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة.
الثَّانِي: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم، وَقد سبق ذكره.
الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ، وَقد سبق ذكره.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد سبق ذكره.
الْخَامِس: سعيد بن الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْيَاء على الْمَشْهُور، وَقيل بِالْكَسْرِ، وَكَانَ يكره فتحهَا، وَأما غير وَالِد سعيد فبالفتح من غير خلاف: كالمسيب بن رَافع، وَابْنه الْعَلَاء بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَالْمُسَيب هُوَ ابْن حزن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي الْمُعْجَمَة، ابْن أبي وهب بن عَمْرو بن عايذ بِالْيَاءِ آخر بالحروف والذال الْمُعْجَمَة، ابْن عمرَان بن مَخْزُوم بن يقظة، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالْقَاف والظاء الْمُعْجَمَة بن مرّة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي إِمَام التَّابِعين وفقيه الْفُقَهَاء، أَبوهُ وجده صحابيان أسلما يَوْم فتح مَكَّة، ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: لأَرْبَع سمع عمر وَعُثْمَان وعليا وَسعد بن أبي وَقاص وَأَبا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ زوج بنت أبي هُرَيْرَة، وَأعلم النَّاس بحَديثه، وروى عَنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، وَاتَّفَقُوا على جلالته وإمامته، وتقدمه على أهل عصره فِي الْعلم وَالتَّقوى،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي التَّابِعين أوسع علما مِنْهُ،.

     وَقَالَ  أَحْمد: سعيد أفضل التَّابِعين، فَقيل لَهُ: فسعيد عَن عمر حجَّة.
قَالَ: فَإِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: لَيْسَفَإِن فَائِدَة قَوْله { لم تؤمنوا} ( الحجرات: 14) تَكْذِيب دَعوَاهُم وَقَوله: { وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} ( الحجرات: 14) تَوْقِيت لما امروا بِهِ ان يَقُولُوا، كَأَنَّهُ قيل لَهُم: وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا، حِين لم تثبت مواطأة قُلُوبكُمْ لألسنتكم.
النَّوْع الثَّالِث: قَالَ ابو بكر بن الطّيب: هَذِه الْآيَة حجَّة على الكرامية وَمن وافقهم من المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الايمان هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، وَقد رد الله تَعَالَى قَوْلهم فِي مَوضِع آخر من كِتَابه فَقَالَ: { أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الايمان} ( المجادلة: 22) وَلم يقل: كتب فِي ألسنتهم، وَمن أقوى مَا يرد عَلَيْهِم بِهِ الْإِجْمَاع على كفر الْمُنَافِقين، وَإِن كَانُوا قد اظهروا الشَّهَادَتَيْنِ.
النَّوْع الرَّابِع: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِذكر هَذِه الْآيَة هَهُنَا على أَن الاسلام الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمُعْتَبر وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عقد الْقلب الْمُصدق لإقرار اللِّسَان الَّذِي لَا ينفع عِنْد الله غَيره، أَلا ترى كَيفَ قَالَ تَعَالَى: { قل لم تؤمنوا} ( الحجرات: 14) حَيْثُ قَالُوا بألسنتهم دون تَصْدِيق قُلُوبهم..
     وَقَالَ : { وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} ( الحجرات: 14) .
الْوَجْه السَّادِس: فِي قَوْله تَعَالَى: { ان الدّين عِنْد الله الاسلام} ( آل عمرَان: 19) وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.
الأول: ان هَذِه الْجُمْلَة مستأنفة مُؤَكدَة للجملة الاولى، وَهِي قَوْله تَعَالَى: { شهد الله أَنه لَا اله الا هُوَ} ( آل عمرَان: 18) الْآيَة، وقرىء بِفَتْح: أَن، على الْبَدَلِيَّة من الأول، كَأَنَّهُ قَالَ: شهد الله أَن الدّين عِنْد الله الاسلام، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: ان الدّين عِنْد الله للاسلام، بلام التَّأْكِيد فِي الْخَبَر.
الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيّ: لما ظهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْمَدِينَةِ قدم عَلَيْهِ حبران من أَحْبَار أهل الشَّام، فَلَمَّا أبصرا الْمَدِينَة قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا أشبه هَذِه الْمَدِينَة بِصفة مَدِينَة النَّبِي الَّذِي يخرج فِي آخر الزَّمَان، فَلَمَّا دخلا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعرفاه بِالصّفةِ والنعت قَالَا لَهُ: أَنْت مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم.
قَالَا: وَأَنت أَحْمد؟ قَالَ: نعم، قَالَا: إِنَّا نَسْأَلك عَن شَهَادَة، فَإِن أَنْت أخبرتنا بهَا آمنا بك وَصَدَّقنَاك.
قَالَ لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( سلاني) .
فَقَالَا: أخبرنَا عَن أعظم شَهَادَة فِي كتاب الله تَعَالَى، فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: { شهد الله} الى قَوْله { ان الدّين عِنْد الله الاسلام} ( آل عمرَان: 19) ؛ فَأسلم الرّجلَانِ وصدقا برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام.
الثَّالِث: ان البُخَارِيّ اسْتدلَّ بهَا على أَن الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الدّين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن الدّين هُوَ الاسلام، فَلَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا، وَاسْتدلَّ بهَا أَيْضا على أَن الْإِسْلَام والايمان وَاحِد، وأنهما مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُحدثين، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة والمتكلمين؛ وَقَالُوا أَيْضا: إِنَّه اسْتثْنى الْمُسلمين من الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: { فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} ( الذاريات: 35) وَالْأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء أَن يكون الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان، وعورض بقوله تَعَالَى: { قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} ( الحجرات: 14) فَلَو كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِدًا لزم إِثْبَات شَيْء ونفيه فِي حَالَة وَاحِدَة، وانه محَال.
الْوَجْه السَّابِع فِي قَوْله تَعَالَى: { من يبتغ غير الاسلام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} ( آل عمرَان: 19) وَالْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن.
الأول: فِي مَعْنَاهُ، فَقَوله: { وَمن يبتغ} ( آل عمرَان: 19) اي: وَمن يطْلب، من بغيت الشَّيْء طلبته، وبغيتك الشَّيْء طلبته لَك يُقَال بغى بغية وبغاء بِالضَّمِّ وبغاية.
قَوْله { فَلَنْ يقبل مِنْهُ} ( آل عمرَان: 19) جَوَاب الشَّرْط.
قَوْله: { هُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} ( آل عمرَان: 19) اي: من الَّذين وَقَعُوا فِي الخسران مُطلقًا من غير تَقْيِيد، قصدا للتعميم.
وقرىء وَمن يبتغ غير الاسلام، بالادغام.
الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ مثل مَا اسْتدلَّ بقوله: { ان الدّين عِنْد الله الاسلام} ( آل عمرَان: 19) وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على اتِّحَاد الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَان الْإِيمَان لَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا.
واجيب: بِأَن الْمَعْنى: وَمن يبتغ دينا غير دين مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَنْ يقبل مِنْهُ.
قلت: ظَاهره يدل على أَنه لَو كَانَ الْإِيمَان غير الاسلام لم يقبل قطّ، فَتعين أَن يكون عينه، لَان الْإِيمَان هُوَ الدّين، وَالدّين هُوَ الاسلام، لقَوْله تَعَالَى: { ان الدّين عِنْد الله الاسلام} ( آل عمرَان: 19) فينتج أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أول كتاب الايمان.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [26] أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور ".
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإيمان كله عمل؛ مناقضة لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية؛ فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان.
ومقصود البخاري هاهنا: أن يسمى عملا - أيضا -،، أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير ذلك؛ فإنه لا يخالف فيه أحد، فصار الإيمان كله – على ما قرره – عملا.
والمقصود بهذا الباب: تقرير أن قول اللسان: عمله؛ واستدل لذلك بقوله تعالى {وَتِلْك َ الْجَنَّةُ الَّتِي ( 196 - أ / ف) أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقوله { {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .
ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان، وبها يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة – كما سبق ذكره.
وفي " المسند "، عن معاذ بن جبل مرفوعا: " مفتاح الجنة: لا إله إلا الله " .
وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] : عن قول لا إله إلا الله؛ ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد.
وممن روي عنه هذا التفسير: ابن عمر، ومجاهد .
ورواه ليث بن أبي سليم، عن بشير بن نهيك، عن أنس موقوفا .
روي عنه مرفوعا – أيضا – خرجه الترمذي وغربه ( 5) .
وقال الدارقطني: ليث غير قوي، ورفعه غير صحيح .
وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله بن بطة، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح؛ واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان.
وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله " بدل الشهادتين "؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج "، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل.
وقد كان طائفة من المرجئة يقولون: الإيمان قول وعمل – موافقة لأهل الحديث -، ثم يفسرون العمل بالقول ويقولون: هو عمل اللسان.
وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابه بن سوار وأنكره عليه وقال: هو أخبث قول ما سمعت أن أحدا قال به ولا بلغني.
يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف .
لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل بهذا التفسير؛ فإنه بدعة وفيه عي وتكرير؛ إذ العمل على هذا القول بعينه، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا.
ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال، فإنه قال في رواية أبي طالب – في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا، قال بعضهم: له نيته، ويحتج بقوله: " الأعمال بالنيات " قال أحمد: ما يشبه هذا بالعمل؛ إنما هذا لفظ كلام المرجئة يقولون: القول هو عمل.
لا يحكم عليه بالنية ولا هو من العمل.
وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال وأنه لا يدخل تحت قوله " الأعمال بالنيات ".
وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة ".
وهذا على إطلاقه لا يصح؛ فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية وألفاظ عقود البيع ( 196 - ب /ف) والنكاح وغيرهما أقوال ويؤثر فيها النية عند أحمد، كما تؤثر النية [في] بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا.
وقد نص أحمد على أن من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول.
وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا.
وهذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية.
ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان – أيضا.
وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول في العمل، وأن الأقوال تدخل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الأعمال بالنيات " وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم.
وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا فقال قولا هل يحنث أم لا؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا؟ وقد حكى القاضي أبو يعلي في ذلك اختلافا بين الفقهاء، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك.
وأخذه من رواية أبي طالب، عن أحمد – التي سبق ذكرها – واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف؛ ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا.
ومن الناس من قال: القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل.
وهو الذب ذكره ابن الخشاب النحوي وغيره.
وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] .
فصل قال البخاري:19 - باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله عز وجل {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .
فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] وقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
معنى هذا الكلام: أن الإسلام يطلق باعتبارين: أحدهما: باعتبار الإسلام الحقيقي وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} وقال { {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} .
والثاني: باعتبار الاستسلام ظاهرا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا كإسلام المنافقين، واستدل بقوله تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وحمله عل الاستسلام خوفا وتقية.
وهذا مروي عن طائفة من السلف، منهم مجاهد، وابن زيد، ومقاتل بن حيان وغيرهم .
وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزي – كما رجحه البخاري -؛ لأنهما لا يفارقان بين الإسلام والإيمان، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر.
وهو اختيار ابن عبد البر، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود.
وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية ( 197 – أ / ف) على الفرق بينهما ويقول: نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام كما نفي الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي.
وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس، وقتادة، والنخعي، وروي عن ابن زيد معناه – أيضا -، وهو قول الزهري، وحماد بن زيد، وأحمد، ورجحه ابن جرير وغيره .
واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان.
وكذا قال قتادة في هذه الآية قال: " قولوا أسلمنا ": شهادة أن لا إله إلا الله، وهو دين الله، والإسلام درجة الإيمان تحقيق في القلب ووالهجرة في الإيمان درجة، والجهاد درجة، والقتل في سبيل الله درجة.
خرجه ابن أبي حاتم.
فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصل الدين، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم، وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صح به إسلامهم، ويدل عليه: {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] .
واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان في حقيقة الفرق بينهما.
فقالت طائفة: الإسلام: كلمة الشهادتين، والإيمان العمل.
وهذا مروي عن الزهري وابن أبي ذئب ، وهو رواية عن أحمد ، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى وغيره من أصحابه.
ويشبه هذا: قول ابن زيد في تفسير هذه الآية قال: لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم فرد الله عليهم وقال: {لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} فقال: الإسلام إقرار، والإيمان تصديق .
وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث.
وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن أحمد وقال: الصحيح: أن مذهبه: أن الإسلام قول وعمل ورواية واحدة؛ ولكن لا يدخل كل الأعمال في الإسلام كما يدخل في الإيمان، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام.
كذا قال، وأكثر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة فلو لم تكن الصلاة من الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرا.
والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا.
وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام والإيمان خاص، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة.
هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي، وضعفه ابن نصر المروزي من جهة راويه عنه وهو فضيل بن يسار، وطعن فيه ، وروي عن حماد ابن زيد نحو هذا – أيضا.
وحكى رواية عن أحمد – أيضا -؛ فإنه قال في رواية الشالنجي في مرتكب الكبائر: يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام.
ونقل حنبل عن أحمد معناه .
وقد تأول هذه الرواية القاضي أبو يعلى وأقرها غيره، وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة وابن حامد وغيرهما من الأصحاب.
وقالت طائفة: الفرق بين الإسلام والإيمان: أن الإيمان هو التصديق تصديق القلب فهو علم القلب وعمله، والإسلام: الخضوع والاستسلام والانقياد؛ فهو عمل القلب والجوارح.
وهذا قول كثير من العلماء، وقد حكاه أبو الفضيل التميمي عن أصحاب أحمد، وهو قول طوائف من المتكلمين ( 197 - ب/ ف) ؛ لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان وتدخل في الإسلام.
وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان مع اختلافهم في دخولها الإسلام – كما سبق – فلهذا قال كثير من العلماء: إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ.
وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن السلام والإيمان ففرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان المنفرد بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل.
وقد حكى هذا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة، وروي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدل عليه ، وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص والله أعلم.
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن: الحسن، وابن سيرين، وشريك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيي بن معين، ومؤمل ابن إهاب، وحكى عن مالك - أيضا -، وقد سبق حكايته عن قتادة، وداود بن أبي هند، والزهري، وابن أبي ذئب، وحماد بن زيد، وأحمد ، وأبي خيثمة وكذلك حكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة.
فحكاية ابن نصر وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد؛ بل قد قيل: إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق، والله أعلم.
وخرج البخاري في هذا الباب حديث:

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  ( قَولُهُ بَابُ مَنْ قَالَ هُوَ مُضَافٌ حَتْمًا .

     قَوْلُهُ  إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ مُطَابَقَةُ الْآيَاتِ
وَالْحَدِيثِ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ بِمُفْرَدِهِ عَلَى بَعْضِ الدَّعْوَى فَ.

     قَوْلُهُ  بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا تَعْمَلُونَ مَعْنَاهُ تُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ خَاصًّا وَقَولُهُ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ خَاصٌّ بِعَمَلِ اللِّسَانِ عَلَى مَا نَقَلَ الْمُؤَلِّفُ وَقَولُهُ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ عَامٌّ أَيْضًا وَقَولُهُ فِي الْحَدِيثِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ فِي جَوَابِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالنُّطْقَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَالْحَجَّ لَيْسَا مِنَ الْإِيمَانِ لِمَا تَقْتَضِيهِ ثمَّ من الْمُغَايَرَةَ وَالتَّرْتِيبَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا التَّصْدِيقُ هَذِهِ حَقِيقَتُهُ وَالْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ .

     قَوْلُهُ  اورثتموها)
أَيْ صُيِّرَتْ لَكُمْ إِرْثًا وَأَطْلَقَ الْإِرْثَ مَجَازًا عَن الْإِعْطَاء لتحَقّق الِاسْتِحْقَاق وَمَا فِي قَوْلِهِ بِمَا إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِعَمَلِكُمْ وَإِمَّا مَوْصُولَةٌ أَيْ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالْبَاءُ للملابسة أَو للمقابلة فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْحَدِيثِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَبُولِ وَالْمُثْبَتَ فِي الْآيَةِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ وَالْقَبُولُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَلَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ مِنْ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَقِيلَ وَقَعَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَأُجِيبَ كُلُّ سَائِلٍ بِالْحَالِ اللَّائِقِ بِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْقَفَّالِ .

     قَوْلُهُ .

     وَقَالَ  عِدَّةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره وَفِي إِسْنَاده ضعف وَمِنْهُم بن عُمَرَ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ فِي التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ وَالدُّعَاءِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَمِنْهُمْ مُجَاهِدٌ رَوَيْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  لَنَسْأَلَنَّهُمْ إِلَخْ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا أَيِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ.

.

قُلْتُ لِتَخْصِيصِهِمْ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ أَجْمَعِينَ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخفض جناحك للْمُؤْمِنين فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فَإِنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ بَاقِي الْأَعْمَالِ فَفِيهَا الْخِلَافُ فَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ يَقُولُ إِنَّهُمْ مسئولون عَنِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ يَقُولُ إِنَّمَا يُسْأَلُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَطْ فَالسُّؤَالُ عَنِ التَّوْحِيدِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ .

     وَقَالَ  أَيِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمِثْلِ هَذَا أَيِ الْفَوْزِ الْعَظِيمِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَأَوَّلَهَا بِمَا تَأَوَّلَ بِهِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ أَيْ فَلْيُؤْمِنِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يُحْمَلُ الْعَمَلُ عَلَى عُمُومِهِ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يقبل وَمَنْ قَبِلَ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَعْمَلَ وَمَنْ عَمِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَ فَإِذَا وَصَلَ قَالَ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ تَنْبِيهٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي رَأَى قَرِينَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِي بَعْدَهُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ لَا حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ وَالِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِبْهَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[ قــ :26 ... غــ :26] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ الْكُوفِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ .

     قَوْلُهُ  سُئِلَ أَبْهَمَ السَّائِلَ وَهُوَ أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَحَدِيثه فِي الْعتْق قَوْله قيل ثمَّ مَاذَا قَالَ الْجِهَاد وَقع فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ جِهَادٌ فَوَاخَى بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي التَّنْكِيرِ بِخِلَافِ مَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ.

     وَقَالَ  الْكِرْمَانِيُّ الْإِيمَانُ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادُ قَدْ يَتَكَرَّرُ فَالتَّنْوِينُ لِلْإِفْرَادِ الشَّخْصِيِّ وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ إِذِ الْجِهَادُ لَوْ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّكْرَارِ لَمَا كَانَ أَفْضَلَ وَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ التَّعْظِيمُ وَهُوَ يُعْطِي الْكَمَالَ وَبِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ الْعَهْدُ وَهُوَ يُعْطِي الْإِفْرَادَ الشَّخْصِيِّ فَلَا يُسَلَّمُ الْفَرْقُ.

.

قُلْتُ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَنَّ التَّنْكِيرَ وَالتَّعْرِيفَ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ لِأَنَّ مَخْرَجَهُ وَاحِدٌ فَالْإِطَالَةُ فِي طَلَبِ الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ طَائِلَةٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

     قَوْلُهُ  حَجٌّ مَبْرُورٌ أَيْ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ بَرَّ حَجُّكُ وَقِيلَ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ وَقِيلَ الَّذِي لَا رِيَاءَ فِيهِ فَائِدَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجِهَادَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ وَذَكَرَ الْعتْق وَفِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ الْبِرِّ ثُمَّ الْجِهَادِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرَ السَّلَامَةَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَفْظَةَ مِنْ مُرَادَةٌ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَعْقَلُ النَّاسِ وَالْمُرَادُ مِنْ أَعْقَلِهِمْ وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ الْجِهَادَ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ رُكْنٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ نَفْعَ الْحَجِّ قَاصِرٌ غَالِبًا وَنَفْعَ الْجِهَادِ مُتَعَدٍّ غَالِبًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ وَوُقُوعُهُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذْ ذَاكَ مُتَكَرِّرٌ فَكَانَ أهم مِنْهُ فَقدم وَالله أعلم! !

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  17 - فصل
من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقول الله تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] .
وقال عدة من أهل العلم في قوله عز وجل {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] : عن قول لا إله إلا الله.
وقال {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .

ثم خرج حديث:
[ قــ :26 ... غــ :26 ]
- أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور ".

مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإيمان كله عمل؛ مناقضة لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية؛ فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان.

ومقصود البخاري هاهنا: أن يسمى عملا - أيضا -،، أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير ذلك؛ فإنه لا يخالف فيه أحد، فصار الإيمان كله – على ما قرره – عملا.

والمقصود بهذا الباب: تقرير أن قول اللسان: عمله؛ واستدل لذلك بقوله تعالى {وَتِلْك َ الْجَنَّةُ الَّتِي ( 196 - أ / ف) أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقوله { {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .
ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان، وبها يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة – كما سبق ذكره.
وفي " المسند "، عن معاذ بن جبل مرفوعا: " مفتاح الجنة: لا إله إلا الله " .
وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] : عن قول لا إله إلا الله؛ ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد.

وممن روي عنه هذا التفسير: ابن عمر، ومجاهد .
ورواه ليث بن أبي سليم، عن بشير بن نهيك، عن أنس موقوفا .
روي عنه مرفوعا – أيضا – خرجه الترمذي وغربه .
وقال الدارقطني: ليث غير قوي، ورفعه غير صحيح .
وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله بن بطة، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح؛ واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان.

وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله " بدل الشهادتين "؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج "، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل.

وقد كان طائفة من المرجئة يقولون: الإيمان قول وعمل – موافقة لأهل الحديث -، ثم يفسرون العمل بالقول ويقولون: هو عمل اللسان.
وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابه بن سوار وأنكره عليه وقال: هو أخبث قول ما سمعت أن أحدا قال به ولا بلغني.
يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف .
لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل بهذا التفسير؛ فإنه بدعة وفيه عي وتكرير؛ إذ العمل على هذا القول بعينه، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا.

ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال، فإنه قال في رواية أبي طالب – في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا، قال بعضهم: له نيته، ويحتج بقوله: " الأعمال بالنيات " قال أحمد: ما يشبه هذا بالعمل؛ إنما هذا لفظ كلام المرجئة يقولون: القول هو عمل.
لا يحكم عليه بالنية ولا هو من العمل.
وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال وأنه لا يدخل تحت قوله " الأعمال بالنيات ".
وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة ".
وهذا على إطلاقه لا يصح؛ فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية وألفاظ عقود البيع ( 196 - ب /ف) والنكاح وغيرهما أقوال ويؤثر فيها النية عند أحمد، كما تؤثر النية [في] بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا.
وقد نص أحمد على أن من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول.
وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا.
وهذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية.
ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان – أيضا.

وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول في العمل، وأن الأقوال تدخل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الأعمال بالنيات "
وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم.
وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا فقال قولا هل يحنث أم لا؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا؟
وقد حكى القاضي أبو يعلي في ذلك اختلافا بين الفقهاء، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك.
وأخذه من رواية أبي طالب، عن أحمد – التي سبق ذكرها – واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف؛ ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا.

ومن الناس من قال: القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل.
وهو الذب ذكره ابن الخشاب النحوي وغيره.

وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] .

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب مَنْ قَالَ إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ..
     وَقَالَ  عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عَنْ قَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ..
     وَقَالَ  { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
( باب) بغير تنوين لإضافته إلى قوله: ( من قال إن الإيمان هو العمل لقول الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت عز وجل ( وتلك) مبتدأ خبره ( الجنة التي أورثتموها) أي صيرت لكم إرثًا فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق أو المورث الكافر وكان له نصيب منه، ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن.
وقال البيضاوي: شبّه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، والإشارة إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون} [الزخرف: 70] .
والجملة صفة للجنة، أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو تلك، والتي أورثتموها صفة أخرى والخبر { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [الزخرف: 72] .
أي تؤمنون.
وما مصدرية أي بعملكم أو موصولة أي بالذي كنتم تعملونه، والباء للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم أي لثواب أعمالكم أو للمقابلة، وهي التي تدخل على الأعواض كاشتريت بألف، ولا تنافي بين ما في الآية وحديث لن يدخل أحد الجنة

بعمله لأن المثبت في الآية الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه والمقبول إنما هو من رحمة الله تعالى، فآلى ذلك إلى أنه لم يقع الدخول إلا برحمته، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في محله بعون الله وقوته وقد أشبعت الكلام عليه في الواهب فليراجع.

( قال عدّة) بكسر العين وتشديد الدال أي عدد ( من أهل العلم) كأنس بن مالك فيما رواه الترمذي مرفوعًا بإسناد فيه ضعف، وابن عمر فيما رواه الطبري في تفسيره، والطبراني في الدعاء له، ومجاهد فيما رواه عبد الرزاق في تفسيره ( في قوله تعالى) وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت عز وجل ( فوربك) يا محمد ( لنسألنهم) أي المقتسمين جواب القسم مؤكدًا باللام ( أجمعين) تأكيد للضمير في لنسألنهم مع الشمول في افراد المخصوصين ( عما كانوا يعملون عن لا إله إلاّ الله) وفي رواية عن قول لا إله إلا الله وسقط لأبوي ذر والوقت والأصيلي لفظ قول، ولفظ رواية ابن عساكر قال: عن لا إله إلا الله، لكن قال النووي: المعنى لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بل دليل فلا تقبل انتهى.

ومراده كما قاله صاحب عمدة القاري: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تقبل، لأن الكلام عامّ في السؤال عن التوحيد وغيره، فدعوى التخصيص بالتوحيد يحتاج إلى دليل خارجي، فإن استدل بحديث الترمذي فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله أجمعين حتى يدخل فيه المسلم والكافر لكونه مخاطبًا بالتوحيد قطعًا وبباقي الأعمال على الخلاف، فالمانع من الثاني يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط للاتفاق عليه، وإنما التعميم هنا في قوله { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون} [الحجر: 93] .
فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكم، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] .
لأن في القيامة مواقف مختلفه وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يسألون، وفي آخر لا يسألون أو لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ لمستحقه.

( وقال) الله تعالى وسقط لغير الأربعة لفظ وقال ( لمثل هذا) أي لنيل مثل هذا الفوز العظيم { فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} [الصافات: 61] .
أي فليؤمن المؤمنون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهذا يدل على أن الإيمان هو العمل كما ذهب إليه المصنف، لكن اللفظ عامّ ودعوى التخصيص بلا رهان لا تقبل.
نعم إطلاق العمل على الإيمان صحيح من حيث أن الإيمان هو عمل القلب: لكن لا يلزم من ذلك أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض البخاري من هذا الباب وغيره إثبات أن العمل من أجزاء الإيمان ردًّا على من يقول: إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان، فحينئذ لا يتم مقصوده على ما لا يخفى وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإيمان فلا نزاع فيه لأن الإيمان عمل القلب وهو التصديق، وقد سبق البحث في ذلك.



[ قــ :26 ... غــ : 26 ]
- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».
قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ».
[الحديث 26 - طرفه في: 1519] .

وبالسند السابق أول هذا التعليق إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: ( حدّثنا أحمد بن يونس) نسبة إلى جده لشهرته به وإنما اسم أبيه عبد الله اليربوعي التميمي الكوفي المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائتين ( و) كذا حدّثنا ( موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم السابق ( قالا) بالتثنية ( حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف السابق ( قال حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بضم الميم وكسر المثناة التحتية والفتح فيها أشهر وكان يكرهه ابن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي إمام التابعين في الشرع وفقيه الفقهاء المتوفى سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين وهو زوج بنت أَبي هريرة وأبوه وجده صحابيان ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه.

( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر أن وأبهم السائل وهو أبو ذر وحديثه في العتق ( أي العمل أفضل) ، أي أكثر ثوابًا عند الله تعالى وهو مبتدأ وخبر ( قال) ولغير الأربعة وكريمة قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ( إيمان بالله ورسوله.
قيل: ثم ماذا)
أي أيّ شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ ( قال) عليه الصلاة والسلام هو ( الجهاد في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله أفضل لبذله نفسه.
( قيل: ثم ماذا) أفضل؟ ( قال) عليه الصلاة واالسلام هو ( حج مبرور) أي مقبول أي لا يخالطه إثم أو لا رياء فيه، وعلامة القبول أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله، وقد وقع هنا الجهاد بعد الإيمان.
وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثمّ الجهاد، وفي الحديث السابق ذكر السلامة من اليد واللسان وكلها في الصحيح.
وقد أجيب بأن اختلاف الأجوبة في ذلك لاختلاف الأحوال والأشخاص، ومن ثم لم يذكر الصلاة والزكاة والصيام في حديث هذا الباب.
وقد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير من جميع الوجوه في جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال، وإنما قدم الجهاد على الحج للاحتياج إليه أول الإسلام، وتعريف الجهاد باللام دون الإيمان والحج إما لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة في المعنى على أنه وقع في مسند الحرث بن أبي أسامة ثم جهاد بالتنكير هذا من جهة النحو، وأما من جهة المعنى فلأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنوّنا للإفراد والجهاد قد يتكَرر فعرف والتعريف للكمال.
وفي إسناد هذا الحديث أربعة كلهم مدنيون وفيه شيخان للمؤلف والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الإيمان، والنسائي والترمذي باختلاف بينهم في ألفاظه.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  ( بابُُ مَنْ قَالَ: إنّ الإيمَانَ هُوَ العَمَلُ لقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول: إِن لفظ بابُُ مُضَاف إِلَى مَا بعده وَلَا يجوز غَيره قطعا، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا بابُُ من قَالَ إِلَخ وأصل الْكَلَام: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول من قَالَ: إِن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِنَّه عقد الْبابُُ الأول للتّنْبِيه على أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان ردا على المرجئة، وَهَذَا الْبابُُ أَيْضا مَعْقُود لبَيَان أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، ردا عَلَيْهِم..
     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين، فِي شَرحه فِي هَذَا الْبابُُ: إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الْإِيمَان قَول بِلَا عمل،.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض عَن غلاتهم: إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن مُظهِر الشَّهَادَتَيْنِ يدْخل الْجنَّة وَإِن لم يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِه.
الثَّالِث: وَجه مُطَابقَة الْآيَة للتَّرْجَمَة هُوَ: أَن الْإِيمَان لما كَانَ هُوَ السَّبَب لدُخُول العَبْد الْجنَّة وَالله، عز وَجل، أخبر بِأَن الْجنَّة هِيَ الَّتِي أورثوها بأعمالهم حَيْثُ قَالَ: { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) دلّ ذَلِك على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى أطلق على قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله الْعَمَل، فَدلَّ على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، فعلى هَذَا معنى قَوْله: { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) : بِمَا كُنْتُم تؤمنون، على مَا زَعمه البُخَارِيّ، على مَا نقل عَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَلَكِن اللَّفْظ عَام وَدَعوى التَّخْصِيص بِلَا برهَان لَا تقبل، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ تَخْصِيص بِلَا دَلِيل، وَهَهُنَا مناقشة أُخْرَى، وَهِي: إِن إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان صَحِيح، من حَيْثُ إِن الْإِيمَان هُوَ عمل الْقلب، وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْعَمَل من نفس الْإِيمَان؛ وَقصد البُخَارِيّ من هَذَا الْبابُُ وَغَيره إثْبَاته أَن الْعَمَل من أَدَاء الْإِيمَان ردا على من يَقُول: إِن الْعَمَل لَا دخل لَهُ فِي مَاهِيَّة الْإِيمَان، فَحِينَئِذٍ لَا يتم مَقْصُوده على مَا لَا يخفى، وَإِن كَانَ مُرَاده جَوَاز إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان فَهَذَا لَا نزاع فِيهِ لأحد، لِأَن الْإِيمَان عمل الْقلب وَهُوَ التَّصْدِيق.
الرَّابِع: قَوْله: وَتلك الْإِشَارَة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله: { ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} ( الزخرف: 70) وَهِي مُبْتَدأ وَالْجنَّة خَبره، وَقَوله { الَّتِي أورثتموها} صفة الْجنَّة، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَو الْجنَّة صفة للمبتدأ الَّذِي هُوَ اسْم الْإِشَارَة و { الَّتِي أورثتموها} ( الزخرف: 72) خبر الْمُبْتَدَأ، وَالَّتِي أَو { الَّتِي أورثتموها} ( الزخرف: 72) صفة و { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) الْخَبَر وَالْبَاء تتَعَلَّق بِمَحْذُوف كَمَا فِي الظروف الَّتِي تقع أَخْبَارًا، وَفِي الْوَجْه الأول تتَعَلَّق: بأورثتموها، وقرىء: ورثتموها.
فَإِن قلت: الإيراث إبْقَاء المَال بعد الْمَوْت لمن يسْتَحقّهُ، وَحَقِيقَته ممتنعة على الله تَعَالَى، فَمَا معنى الإيراث هَهُنَا؟ قلت: هَذَا من بابُُ التَّشْبِيه، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: شبهت فِي بَقَائِهَا على أَهلهَا بِالْمِيرَاثِ الْبَاقِي على الْوَرَثَة، وَيُقَال: الْمُورث هُنَا الْكَافِر، وَكَانَ لَهُ نصيب مِنْهَا وَلَكِن كفره مَنعه فانتقل مِنْهُ إِلَى الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا معنى الإيراث.
وَيُقَال: الْمُورث هُوَ الله تَعَالَى وَلكنه مجَاز عَن الْإِعْطَاء على سَبِيل التَّشْبِيه لهَذَا الْإِعْطَاء بالإيراث.
فَإِن قلت: كلمة: مَا فِي قَوْله { بِمَا كُنْتُم} ( الزخرف: 72) مَا هِيَ؟ قلت: يجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، فَالْمَعْنى: بكونكم عاملين، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، فَالْمَعْنى: بِالَّذِي كُنْتُم تعملونه.
فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْآيَة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) ؟ قلت: الْبَاء فِي قَوْله: بِمَا كُنْتُم لَيست للسَّبَبِيَّة، بل للملابسة أَي: أورثتموها مُلَابسَة لأعمالكم، أَي: لثواب أَعمالكُم، أَو للمقابلة نَحْو: أَعْطَيْت الشَّاة بالدرهم..
     وَقَالَ  الشَّيْخ جمال الدّين: الْمَعْنى الثَّامِن للباء الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الأعواض: كاشتريته بِأَلف دِرْهَم، وَقَوْلهمْ: هَذَا بِذَاكَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى { ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) وَإِنَّمَا لم نقدرها بَاء السَّبَبِيَّة كَمَا قَالَت الْمُعْتَزلَة، وكما قَالَ الْجَمِيع فِي: ( لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) لِأَن الْمُعْطِي بعوض قد يُعْطي مجَّانا، وَأما الْمُسَبّب فَلَا يُوجد بِدُونِ السَّبَب، وَقد تبين أَنه لَا تعَارض بَين الحَدِيث وَالْآيَة لاخْتِلَاف محلي الْبابَُُيْنِ جمعا بَين الْأَدِلَّة..
     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَو إِن الْجنَّة فِي تِلْكَ الْجنَّة جنَّة خَاصَّة أَي: تِلْكَ الْجنَّة الْخَاصَّة الرفيعة الْعَالِيَة بِسَبَب الْأَعْمَال، وَأما أصل الدُّخُول فبرحمة الله.
قلت: أُشير بِهَذِهِ الْجنَّة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِيمَا قبلهَا، وَهِي الْجنَّة الْمَعْهُودَة، وَالْإِشَارَة تمنع مَا ذكره،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ، فِي الْجَواب: إِن دُخُول الْجنَّة بِسَبَب الْعَمَل، وَالْعَمَل برحمة الله تَعَالَى.
قلت: الْمُقدمَة الأولى مَمْنُوعَة لِأَنَّهَا تخَالف صَرِيح الحَدِيث فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا.

وَقَالَ عِدّةٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُم أجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} ( الْحجر: 92) عَنْ قولِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ.

الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.
الأول: إِن الْعدة، بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الدَّال: هِيَ الْجَمَاعَة، قلَّت أَو كثرت؛ وَفِي ( الْعبابُ) تَقول: أنفدت عدَّة كتب، أَي: جمَاعَة كتب، وَيُقَال: فلَان إِنَّمَا يَأْتِي أَهله الْعدة أَي يَأْتِي أَهله فِي الشَّهْر والشهرين، وعدة الْمَرْأَة أَيَّام إقرائها وَأما الْعد بِدُونِ الْهَاء فَهُوَ: المَاء الَّذِي لَا يَنْقَطِع، كَمَاء الْعين وَمَاء الْبِئْر.
وَالْعد أَيْضا: الْكَثْرَة.
قَوْله: ( عدَّة) مَرْفُوع بقال، وَيجوز فِيهِ قَالَ.

     وَقَالَ ت لِأَن التَّأْنِيث فِي عدَّة غير حَقِيقِيّ، وَكلمَة من فِي قَوْله: ( من أهل الْعلم) للْبَيَان، قَوْله: ( فِي قَوْله) يتَعَلَّق بقال، وَالْخطاب فِي: { فوربك} ( الْحجر: 92) للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِيهِ للقسم، وَقَوله: { لنسألنهم} ( الْحجر: 92) جَوَاب الْقسم مؤكدا بِاللَّامِ.
قَوْله: { عَن قَول} ( الْحجر: 92) يتَعَلَّق بقوله: { لنسألنهم} أَي: لنسألنهم عَن كلمة الشَّهَادَة الَّتِي هِيَ عنوان الْإِيمَان، وَعَن سَائِر أَعْمَالهم الَّتِي صدرت مِنْهُم.
الثَّانِي: أَن الْجَمَاعَة الَّذين ذَهَبُوا إِلَى مَا ذكره نَحْو أنس بن مَالك وَعبد الله بن عمر وَمُجاهد بن جبر رَضِي الله عَنْهُم، وَأخرج التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا، عَن أنس: { فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} ( الْحجر: 92) قَالَ: ( عَن لَا إِلَه إِلَّا الله) وَفِي إِسْنَاده لَيْث بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَالَّذِي روى عَن ابْن عمر فِي ( التَّفْسِير) للطبري وَفِي كتاب ( الدُّعَاء) للطبراني، وَالَّذِي روى عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير عبد الرَّزَّاق وَغَيره..
     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فِي الْآيَة وَجه آخر وَهُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى لنسألنهم عَن أَعْمَالهم كلهَا الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّكْلِيف؛ وَقَول من خص بِلَفْظ التَّوْحِيد دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل ثمَّ روى حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَضَعفه،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لتخصيصهم، وَجه من جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: أَجْمَعِينَ، فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر، فَإِن الْكَافِر مُخَاطب بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خلاف، بِخِلَاف بَاقِي الْأَعْمَال فَفِيهَا الْخلاف، فَمن قَالَ إِنَّهُم مخاطبون يَقُول: إِنَّهُم مسؤولون عَن الْأَعْمَال كلهَا.
وَمن قَالَ: إِنَّهُم غير مخاطبين، يَقُول: إِنَّمَا يسْأَلُون عَن التَّوْحِيد فَقَط، فالسؤال عَن التَّوْحِيد مُتَّفق عَلَيْهِ، فَحمل الْآيَة عَلَيْهِ أولى بِخِلَاف الْحمل على جَمِيع الْأَعْمَال لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف.
قلت: هَذَا الْقَائِل قصد بِكَلَامِهِ الرَّد على النَّوَوِيّ، وَلكنه تاه فِي كَلَامه، فَإِن النَّوَوِيّ لم يقل بِنَفْي التَّخْصِيص لعدم التَّعْمِيم فِي الْكَلَام، وَإِنَّمَا قَالَ: دَعْوَى التَّخْصِيص بِلَا دَلِيل خارجي لَا تقبل، وَالْأَمر كَذَلِك غإن الْكَلَام عَام فِي السُّؤَال عَن التَّوْحِيد وَغَيره ثمَّ دَعْوَى التَّخْصِيص بِالتَّوْحِيدِ يحْتَاج إِلَى دَلِيل من خَارج، فَإِن استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فقد أجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ ضَعِيف، وَهَذَا الْقَائِل فهم أَيْضا أَن النزاع فِي أَن التَّخْصِيص والتعميم هُنَا إِنَّمَا هُوَ من جِهَة التَّعْمِيم هُنَا إِنَّمَا هُوَ من جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: { أَجْمَعِينَ} ( الْحجر: 92) وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَوْله: { عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} ( الْحجر: 92) فَإِن الْعَمَل هُنَا أَعم من أَن يكون توحيدا أَو غَيره، وتخصيصه بِالتَّوْحِيدِ تحكم قَوْله فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم، وَالْكَافِر غير مُسلم، لِأَن الضَّمِير فِي لنسألنهم، يرجع إِلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين، وهم نَاس مخصوصون.
وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ، وَقعت توكيدا للضمير الْمَذْكُور فِي النِّسْبَة مَعَ الشُّمُول فِي أَفْرَاده المخصوصين، ثمَّ تَفْرِيع هَذَا الْقَائِل بقوله: فَإِن الْكَافِر إِلَخ لَيْسَ لَهُ دخل فِي صُورَة النزاع على مَا لَا يخفى.
الثَّالِث: مَا قيل: إِن هَذِه الْآيَة أَثْبَتَت السُّؤَال على سَبِيل التوكيد القسمي،.

     وَقَالَ  فِي آيَة أُخْرَى { فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه أنس وَلَا جَان} ( الرَّحْمَن: 39) فنفت السُّؤَال.
وَأجِيب: بِأَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف مُخْتَلفَة وأزمنة متطاولة، فَفِي موقف أَو زمَان يسْأَلُون وَفِي آخرلا يسْأَلُون سُؤال استخبار بل سُؤال توبيخ،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فِي هَذِه الْآيَة: لنسألهم سُؤال تقريع، وَيُقَال: قَوْله: { لَا يسْأَل عَن ذَنبه أنس وَلَا جَان} ( الرَّحْمَن: 39) نَظِير قَوْله: { وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ( الْأَنْعَام: 164، الْإِسْرَاء: 15، فاطر: 18، وَالزمر: 7) .

{ وقالَ لِمثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) أَي: قَالَ الله تَعَالَى لمثل هَذَا، وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى قَوْله { إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) وَذكر هَذِه الْآيَة لَا يكون مطابقا للتَّرْجَمَة إلاَّ إِذا كَانَ معنى قَوْله: { فليعمل الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) فليؤمن الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِن هَذَا دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل، وَإِلَى هَذِه الْآيَة من قَوْله تَعَالَى: { فاقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} ( الصافات: 50) قصَّة الْمُؤمن وقرينه، وَذَلِكَ أَنه كَانَ يتَصَدَّق بِمَالِه لوجه الله، عز وَجل، فَاحْتَاجَ، فاستجدى بعض إخوانه، فَقَالَ: وَأَيْنَ مَالك؟ قَالَ: تَصَدَّقت بِهِ ليعوضني الله خيرا مِنْهُ.
فَقَالَ: أئنك لمن المصدقين بِيَوْم الدّين، أَو: من المتصدقين لطلب الثَّوَاب، وَالله لَا أُعْطِيك شَيْئا.
وَقَوله تَعَالَى: { أإذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون} ( الصافات: 53) حِكَايَة عَن قَول القرين، وَمعنى: لمدينون: لمجزيون من الدّين، وَهُوَ الْجَزَاء.
وَقَوله: { قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون} ( الصافات: 54) يَعْنِي: قَالَ ذَلِك الْقَائِل: هَل أَنْتُم مطلعون إِلَى النَّار؟ وَيُقَال: الْقَائِل هُوَ الله تَعَالَى، وَيُقَال: بعض الْمَلَائِكَة يَقُول لأهل الْجنَّة هَل تحبون أَن تطلعوا فتعلموا أَيْن منزلتكم من منزلَة أهل النَّار؟ وَقَوله: { فَاطلع} ( الصافات: 54) أَي: فَإِن اطلع.
قَوْله: { فِي سَوَاء الْجَحِيم} ( الصافات: 55) أَي: فِي وَسطهَا.
قَوْله: { تالله إِن كدت} ( الصافات: 56) إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَهِي تدخل على: كَاد كَمَا تدخل على: كَانَ، وَاللَّام، هِيَ الفارقة بَينهَا وَبَين النافية، والإرداء: الإهلاك، وَأَرَادَ بِالنعْمَةِ: الْعِصْمَة والتوفيق والبراءة من قرين السوء، وإنعام الله بالثواب، وَكَونه من أهل الْجنَّة.
قَوْله: { من المحضرين} ( الصافات: 11) أَي: من الَّذين أحضروا الْعَذَاب.
وَقَوله: { إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) أَي إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي نَحن فِيهِ، وَيُقَال: هَذَا من قَول الله تَعَالَى تقريرا لقَولهم وَتَصْدِيقًا لَهُ.
وَقَوله: { لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) مُرْتَبِط بقوله: إِن هَذَا أَي لأجل مثل هَذَا الْفَوْز العطيم، وَهُوَ دُخُول الْجنَّة والنجاة من النَّار فليعمل الْعَامِلُونَ فِي الدُّنْيَا..
     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون قَائِل ذَلِك الْمُؤمن الَّذِي رأى قرينه، وَيحْتَمل أَن يكون كَلَامه انْقَضى عِنْد قَوْله: { الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) وَالَّذِي بعد ابْتِدَاء من قَول الله عز وَجل لَا حِكَايَة عَن قَول الْمُؤمن، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام المُصَنّف الْقَائِل.
قلت: الْمُفَسِّرُونَ ذكرُوا فِي قَائِل هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال.
الأول: إِن الْقَائِل هُوَ ذَلِك الْمُؤمن.
وَالثَّانِي: إِنَّه هُوَ الله عز وَجل.
وَالثَّالِث: إِنَّه بعض الْمَلَائِكَة.
وَلَا يحْتَاج أَن يُقَال فِي ذَلِك بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي ذكره هَذَا الشَّارِح، لِأَن كَلَامه يُوهم بِأَن هَذَا تصرف من عِنْده فَلَا يَصح ذَلِك، ثمَّ قَوْله وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام المُصَنّف أَرَادَ بِهِ البُخَارِيّ كَلَام غير صَحِيح أَيْضا من وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَن البُخَارِيّ لم يقْصد مَا ذكره هَذَا الشَّارِح قطّ، لِأَن مُرَاده من ذكره هَذِه الْآيَة بَيَان إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان لَيْسَ إِلَّا، وَالْآخر: ذكر فعل وإبهام فَاعله من غير مرجع لَهُ وَمن غير قرينَة على تَعْيِينه غير صَحِيح.



[ قــ :26 ... غــ :26 ]
- حدّثنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إسمَاعِيلَ قالاَ حدّثنا إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حدّثنا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيد بْنِ المُسيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرةَ أَن رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ فقالَ إيمانٌ باللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذا قالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيل ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.

( الحَدِيث 26 طرفه فِي: 1519)
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي اطلاق الْعَمَل على الْإِيمَان..
     وَقَالَ  ابْن بطال: الْآيَة حجَّة فِي أَن الْعَمَل بِهِ ينَال دَرَجَات الْآخِرَة، وَأَن الْإِيمَان قَول وَعمل، وَيشْهد لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة أهل السّنة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَمن بعدهمْ.
ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُرَاد البُخَارِيّ بالتبويب،.

     وَقَالَ  أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْإِيمَان من الْعَمَل، وَفرق فِي أَحَادِيث أخر بَين الْإِيمَان والأعمال، وَأطلق اسْم الْإِيمَان مُجَردا على التَّوْحِيد، وعملَ الْقلب، وَالْإِسْلَام على النُّطْق وَعمل الْجَوَارِح، وَحَقِيقَة الْإِيمَان مُجَرّد التَّصْدِيق المطابق لِلْقَوْلِ وَالْعقد، وَتَمَامه بِتَصْدِيق الْعَمَل بالجوارح، فَلهَذَا أَجمعُوا أَنه لَا يكون مُؤمن تَامّ الْإِيمَان إِلَّا باعتقاد وَقَول وَعمل، وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي يُنجي رَأْسا من نَار جَهَنَّم، ويعصم المَال وَالدَّم، وعَلى هَذَا يَصح إِطْلَاق الْإِيمَان على جَمِيعهَا، وعَلى بَعْضهَا من: عقد أَو قَول أَو عمل وعَلى هَذَا لَا شكّ بِأَن التَّصْدِيق والتوحيد أفضل الْأَعْمَال إِذْ هُوَ شَرط فِيهَا.

( بَيَان رِجَاله) : وهم سِتَّة.
الأول: أَحْمد بن يُونُس: هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله بن قيس الْيَرْبُوعي التَّمِيمِي، يكنى بِأبي عبد الله، واشتهر بِأَحْمَد بن يُونُس مَنْسُوبا إِلَى جده.
يُقَال: إِنَّه مولى الفضيل بن عِيَاض، مَالِكًا سمع وَابْن أبي ذِئْب وَاللَّيْث والفضيل وخلقا كثيرا، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وروى البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن مُوسَى عَنهُ، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ ثِقَة متقنا،.

     وَقَالَ  أَحْمد فِيهِ: شيخ الْإِسْلَام، وَتُوفِّي فِي ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة.
الثَّانِي: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم، وَقد سبق ذكره.
الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ، وَقد سبق ذكره.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد سبق ذكره.
الْخَامِس: سعيد بن الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْيَاء على الْمَشْهُور، وَقيل بِالْكَسْرِ، وَكَانَ يكره فتحهَا، وَأما غير وَالِد سعيد فبالفتح من غير خلاف: كالمسيب بن رَافع، وَابْنه الْعَلَاء بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَالْمُسَيب هُوَ ابْن حزن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي الْمُعْجَمَة، ابْن أبي وهب بن عَمْرو بن عايذ بِالْيَاءِ آخر بالحروف والذال الْمُعْجَمَة، ابْن عمرَان بن مَخْزُوم بن يقظة، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالْقَاف والظاء الْمُعْجَمَة بن مرّة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي إِمَام التَّابِعين وفقيه الْفُقَهَاء، أَبوهُ وجده صحابيان أسلما يَوْم فتح مَكَّة، ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: لأَرْبَع سمع عمر وَعُثْمَان وعليا وَسعد بن أبي وَقاص وَأَبا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ زوج بنت أبي هُرَيْرَة، وَأعلم النَّاس بحَديثه، وروى عَنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، وَاتَّفَقُوا على جلالته وإمامته، وتقدمه على أهل عصره فِي الْعلم وَالتَّقوى،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي التَّابِعين أوسع علما مِنْهُ،.

     وَقَالَ  أَحْمد: سعيد أفضل التَّابِعين، فَقيل لَهُ: فسعيد عَن عمر حجَّة.
قَالَ: فَإِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: لَيْسَ فِي التَّابِعين أنبل من سعيد بن الْمسيب، وَهُوَ أثبتهم..
     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي ( تَهْذِيب الْأَسْمَاء) : وَأما قَوْلهم: إِنَّه أفضل التَّابِعين، فمرادهم أفضلهم فِي عُلُوم الشَّرْع، وَإِلَّا فَفِي ( صَحِيح) مُسلم عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ( إِن خير التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ أويس، وَبِه بَيَاض، فَمُرُوهُ فليستغفر لكم) ..
     وَقَالَ  أَحْمد بن عبد الله: كَانَ صَالحا فَقِيها من الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَعور..
     وَقَالَ  ابْن قُتَيْبَة: كَانَ جده حزن أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ أَنْت سهل، قَالَ: لَا بل أَنا حزن، ثَلَاثًا، قَالَ سعيد: فَمَا زلنا نَعْرِف تِلْكَ الحزونة فِينَا، فَفِي وَلَده سوء خلق، وَكَانَ حج أَرْبَعِينَ حجَّة لَا يَأْخُذ الْعَطاء، وَكَانَ لَهُ بضَاعَة أَربع مائَة دِينَار يتجر بهَا فِي الزَّيْت، وَكَانَ جَابر بن الْأسود على الْمَدِينَة، فدعى سعيدا إِلَى الْبيعَة لِابْنِ الزبير فَأبى، فَضَربهُ سِتِّينَ سَوْطًا وَطَاف بِهِ الْمَدِينَة، وَقيل: ضربه هِشَام بن الْوَلِيد أَيْضا حِين امْتنع لِلْبيعَةِ للوليد وحبسه وحلقه، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو خمس وَتِسْعين فِي خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة: سنة الْفُقَهَاء، لِكَثْرَة من مَاتَ فِيهَا مِنْهُم..
     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين فِي ( شَرحه) وَفِي نسب سعيد هَذَا يتفاضل النساب فِي تَحْقِيقه، فَإِن فِي بني مَخْزُوم عابدا، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالدَّال الْمُهْملَة، وعايذ بِالْمُثَنَّاةِ آخر الْحُرُوف والذال الْمُعْجَمَة، فَالْأول: هُوَ عَابِد بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم، وَمن وَلَده السَّائِب وَالْمُسَيب ابْنا أبي السَّائِب، وَاسم أبي السَّائِب صَيْفِي بن عَابِد بن عبد الله، وَولده عبد الله بن السَّائِب، شريك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِيهِ: ( نعم الشَّرِيك) ، وَقيل: الشَّرِيك أَبوهُ السَّائِب، وعتيق بن عَابِد بن عبد الله، وَكَانَ على خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنْهَا، قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأما عايذ بن عمرَان فَمن وَلَده: سعيد وَأَبوهُ كَمَا تقدم، وَفَاطِمَة، أم عبد الله وَالِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنت عَمْرو بن عايذ بن عمرَان وهبيرة بن أبي وهيب بن عَمْرو بن عايذ بن عمرَان، وهبيرة هَذَا هُوَ زوج أم هانىء بنت أبي طَالب فر من الْإِسْلَام يَوْم فتح مَكَّة، فَمَاتَ كَافِرًا بِنَجْرَان وَالله أعلم.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ، وَقد مر ذكره.

( بَيَان لطائف اسناده) : مِنْهَا: ان فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: ان فِيهِ شيخين للْبُخَارِيّ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة كلهم مدنيون
( بَيَان من أخرجه غَيره) : أخرجه مُسلم أَيْضا فِي كتاب الْإِيمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَفِي رِوَايَة للنسائي: ( أى الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله) وَلم يزدْ وَأخرجه الترمذى ايضاً ولفطه: ( قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْأَعْمَال خير) ؟ وَذكر الحَدِيث وَفِيه قَالَ: ( الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل)
( بَيَان اللُّغَات) : قَوْله: ( أفضل) أَي: الْأَكْثَر ثَوابًا عِنْد الله، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل من فضَل يفضُل، من بابُُ: دخل يدخُل، وَيُقَال: فضِل يفضَل من بابُُ: سمِع يسمَع، حَكَاهَا ابْن السّكيت، وَفِيه لُغَة ثَالِثَة: فضِل بِالْكَسْرِ، يفضُل بِالضَّمِّ، وَهِي مركبة شَاذَّة لَا نَظِير لَهَا.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا إِنَّمَا يَجِيء على لغتين، قَالَ: وَكَذَلِكَ: نعم ينعم، ومت تَمُوت، ودمت تدوم، وكدت تكَاد، وَفِي ( الْعبابُ) : فضلته فضلا أَي: غلبته بِالْفَضْلِ، وَفضل مِنْهُ شَيْء، وَالْفضل والفضيلة خلاف النَّقْص والنقيصة.
قَوْله: ( الْجِهَاد) مصدر جَاهد فِي سَبِيل الله مجاهدة وجهاداً، وَهُوَ من الْجهد بِالْفَتْح، وَهُوَ الْمَشَقَّة وَهُوَ الْقِتَال مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله؛ والسبيل: الطَّرِيق، يذكر وَيُؤَنث.
قَوْله: ( حج مبرور) الْحَج فِي اللُّغَة: الْقَصْد، وَأَصله من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد اخرى، فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه فِي كل سنة، قَالَه الْأَزْهَرِي.
وَفِي ( الْعبابُ) : رجل محجوج أَي: مَقْصُود، وَقد حج بَنو فلَان فلَانا إِذا اطالوا الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ قَالَ المخبل السَّعْدِيّ:
( واشهد من عَوْف حلولاً كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا)

قَالَ ابْن السّكيت: يَقُول: يكثرون الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ هَذَا الأَصْل، ثمَّ تعورف اسْتِعْمَاله فِي الْقَصْد إِلَى مَكَّة حرسها الله للنسك تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه حجا فَأَنا حَاج، وَيجمع على حجج، مثل: بازل وبزل، وعائد وعوذ إنتهى.
وَفِي الشَّرْع: الْحَج، قصد زِيَارَة الْبَيْت على وَجه التَّعْظِيم..
     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْحَج قصد الْكَعْبَة للنسك بملابسة الْوُقُوف بِعَرَفَة.
قلت: الْحُلُول، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، يُقَال: قوم حُلُول، أَي: نزُول، وَكَذَلِكَ: حَلَال، بِالْكَسْرِ، والسب، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الْعِمَامَة والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وبالقاف: هُوَ لقب، واسْمه: الْحصين.
قَالَ ابْن السّكيت لقب الزبْرِقَان لصفرة عمَامَته، والمبرور: هُوَ الَّذِي لَا يخالطه إِثْم، وَمِنْه: برت يَمِينه إِذا سلم من الْحِنْث.
وَقيل: هُوَ المقبول، وَمن عَلَامَات الْقبُول أَنه إِذا رَجَعَ يكون حَاله خيرا من الْحَال الَّذِي قبله، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا تتعقبه مَعْصِيّة، وهما داخلان فِيمَا قبلهمَا، وَالْبر، بِالْكَسْرِ: الطَّاعَة وَالْقَبُول، يُقَال: بر حجك، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا لازمين، وبر الله حجك، وَأبر الله اي قبله، فَلهُ أَرْبَعَة استعمالات..
     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: المبرور المتقبل، يُقَال: بر الله حجه يبره اي: تقبله، وَأَصله من الْبر، وَهُوَ اسْم لجماع الْخَيْر، وبررت فلَانا أبره برا، إِذا وصلته وكل عمل صَالح بر، وَجعل لبيد الْبر: التَّقْوَى، فَقَالَ:
( وَمَا الْبر إلاَّ مضمرات من التقى ... وَمَا المَال إلاّ معمرات ودائع)

قَوْله: مضمرات، يَعْنِي الخفايا من التقى، قَوْله: وَمَا المَال إلاّ معمرات: اي المَال الَّذِي فِي أَيْدِيكُم ودائع مُدَّة عمركم ثمَّ يصير لغيركم.
واما قَول عَمْرو ابْن ام مَكْتُوم:
( نحز رؤوسهم فِي غير بر)

فَمَعْنَاه: فِي غير طَاعَة.
وَفِي ( الْعبابُ) : المبرة وَالْبر: خلاف العقوق، وَقَوله تَعَالَى: { اتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} ( الْبَقَرَة: 44) أَي: بالاتساع فِي الْإِحْسَان وَالزِّيَادَة مِنْهُ وَقَوله عز وَجل: { لن تنالوا الْبر} ( الْبَقَرَة: 189) قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْجنَّة وَالْبر أَيْضا: الصِّلَة، تَقول مِنْهُ: بررت وَالِدي، بِالْكَسْرِ، و: بررته، بِالْفَتْح، أبره برا، والمبرور: الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا خلابة،.

     وَقَالَ  ابو الْعَبَّاس: هُوَ الَّذِي لَا يدالس فِيهِ وَلَا يوالس، يدالس فِيهِ: يظلم فِيهِ، ويوالس: يخون.

( بَيَان الاعراب:) قَوْله: ( سُئِلَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع لانها خبر: إِن، والسائل هُوَ: ابو ذَر رَضِي الله عَنهُ، وَحَدِيثه فِي الْعتْق.
قَوْله: ( أَي الْعَمَل) ؟ كَلَام إضافي: مُبْتَدأ وَخَبره: ( أفضل) وَأي، هَهُنَا استفهامية، وَلَا تسْتَعْمل إلاَّ مُضَافا إِلَيْهِ إلاَّ فِي النداء والحكاية، يُقَال: جَاءَنِي رجل، فَتَقول: أَي: يَا هَذَا، وَجَاءَنِي رجلَانِ فَتَقول: أَيَّانَ، وَرِجَال فَتَقول: أيون.
فَإِن قلت: ( افضلْ) أفعل التَّفْضِيل وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِأحد الأَوجه الثَّلَاثَة، وَهِي: الْإِضَافَة، وَاللَّام، وَمن، فَلَا يجوز أَن يُقَال: زيد أفضل.
قلت: إِذا علم يجوز اسْتِعْمَاله مُجَردا نَحْو: الله اكبر، أَي: أكبر من كل شَيْء؟ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { اتستبدلون الذى هُوَ ادنى بالذى هُوَ خير} ( الْبَقَرَة: 61) ؟ وَسَوَاء فِي ذَلِك كَون أفعل خَبرا كَمَا فِي الْآيَة، أَو غير خبر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { يعلم السِّرّ واخفى} ( طه: 7) وَقد يجرد: أفعل عَن معنى التَّفْضِيل وَيسْتَعْمل مُجَردا مؤولاً باسم الْفَاعِل، نَحْو قَوْله تَعَالَى: { هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الارض} ( النَّجْم: 32) ، وَقد يؤول بِالصّفةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ اهون عَلَيْهِ} ( الرّوم: 27) قَوْله: ( قَالَ) اي: النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ( إِيمَان بِاللَّه) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ إِيمَان بِاللَّه، وَالتَّقْدِير: أفضل الاعمال الْإِيمَان بِاللَّه.
قَوْله: ( وَرَسُوله) بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَالْإِيمَان بِرَسُولِهِ.
قَوْله: ( قيل) ، مَجْهُول قَالَ، وَأَصله: نقلت كسرة الْوَاو إِلَى الْقَاف بعد سلب حركتها، فَصَارَ: قَول، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْوَاو، ثمَّ قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، فَصَارَ: قيل، وَالْقَائِل هُوَ السَّائِل فِي الاول.
قَوْله: ( ثمَّ مَاذَا) ، كلمة ثمَّ للْعَطْف مَعَ التَّرْتِيب الذكري، وَمَا مُبْتَدأ و: ذَا، خَبره، وَكلمَة: مَا، استفهامية، و: ذَا، اسْم اشارة وَالْمعْنَى: ثمَّ أَي شَيْء افضل بعد الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله؟ وَيجوز أَن تكون الْجمل كلهَا استفهاماً على التَّرْتِيب.
قَوْله ( الْجِهَاد) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ الْجِهَاد وَالتَّقْدِير: أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله الْجِهَاد، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي إِعْرَاب قَوْله: ( ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حج مبرور) .

( بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) : فِيهِ حذف الْمُبْتَدَأ فِي ثَلَاث مَوَاضِع الَّذِي هُوَ الْمسند إِلَيْهِ لكَونه مَعْلُوما إحترازاً عَن الْعَبَث؛ وَفِيه تنكير الْإِيمَان وَالْحج وتعريف الْجِهَاد، وَذَلِكَ لِأَن الايمان وَالْحج لَا يتَكَرَّر وجوبهما بِخِلَاف الْجِهَاد فَإِنَّهُ قد يتَكَرَّر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال، إِذْ الْجِهَاد لَو أَتَى بِهِ مرّة مَعَ الِاحْتِيَاج إِلَى التّكْرَار لما كَانَ أفضل..
     وَقَالَ  بَعضهم: وَتعقب عَلَيْهِ بَان التنكير من جملَة وجوهه: التَّعْظِيم، وَهُوَ يُعْطي الْكَمَال، وَبِأَن التَّعْرِيف من جملَة وجوهه: الْعَهْد، وَهُوَ يُعْطي الْإِفْرَاد الشخصي، فَلَا يسلم الْفرق.
قلت: هَذَا التعقيب فَاسد، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون التَّعْظِيم من جملَة وُجُوه التنكير أَن يكون دَائِما للتعظيم، بل يكون تَارَة للإفراد، وَتارَة للنوعية، وَتارَة للتعظيم، وَتارَة للتحقير، وَتارَة للتكثير، وَتارَة للتقليل.
وَلَا يعرف الْفرق وَلَا يُمَيّز إلاَّ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّة على وَاحِد مِنْهَا، وَهَهُنَا دلّت الْقَرِينَة أَن التنكير للإفراد الشخصي.
وَقَوله: وَبَان التَّعْرِيف من وجوهه الْعَهْد فَاسد عِنْد الْمُحَقِّقين، لِأَن عِنْدهم أصل التَّعْرِيف للْعهد، وَفرق كثير بَين كَونه للْعهد وَبَين كَون الْعَهْد من وجوهه، على أَنا، وَإِن سلمنَا مَا قَالَه، وَلَكنَّا لَا نسلم كَونه للْعهد هَهُنَا، لَان تَعْرِيف الإسم تَارَة يكون لوَاحِد من أَفْرَاد الْحَقِيقَة الجنسية بِاعْتِبَار عهديته فِي الذِّهْن، لكَونه فَردا من أفرادها، وَتارَة يكون لاستغراق جَمِيع الْأَفْرَاد، وَلَا يفرق بَينهمَا إلاَّ بِالْقَرِينَةِ على أَنا نقُول: إِن الْمَعْهُود الذهْنِي فِي الْمَعْنى كالنكرة، نَحْو: رجل فَإِن السُّوق، فِي قَوْلك: ادخل السُّوق، يحْتَمل كل فَرد فَرد من أَفْرَاد السُّوق على الْبَدَل، كَمَا أَن: رجلا، يحْتَمل كل فَرد فَرد من ذُكُور بني آدم على الْبَدَل، وَلِهَذَا يقدر، يسبني، فِي قَول الشَّاعِر:
( وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني ... فمضيت ثمت، قلت: لَا يعنيني)

وَصفا للئيم لَا حَالا، لوُجُوب كَون ذِي الْحَال مَعْرُوفَة، واللئيم كالنكرة، فَافْهَم.
فان قلت: قد وَقع فِي ( مُسْند الْحَارِث بن أبي اسامة) عَن ابراهيم بن سعد: ثمَّ جِهَاد، بالتنكير، كَمَا وَقع: إِيمَان وَحج.
قلت: يكون التنكير فِي الْجِهَاد على هَذِه الرِّوَايَة للإفراد الشخصي، كَمَا فِي الْإِيمَان وَالْحج، مَعَ قطع النّظر عَن تكرره عِنْد الِاحْتِيَاج، أَو يكون التَّنْوِين فِي الثَّلَاثَة إِشَارَة إِلَى التَّعْظِيم، وَبِهَذَا يرد على من يَقُول: إِن التنكير والتعريف فِيهِ من تصرف الروَاة، لِأَن مخرجه وَاحِد، فالإطالة فِي طلب الْفرق فِي مثل هَذَا غير طائلة، وَلَقَد صدق الْقَائِل: انباض عَن غير توتير.

بَيَان استنباط الْفَوَائِد مِنْهَا: الدّلَالَة على نيل الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ.
وَمِنْهَا: الدّلَالَة على أَن الْإِيمَان قَول وَعمل.
وَمِنْهَا: الدّلَالَة على أَن الْأَفْضَل بعد الْإِيمَان الْجِهَاد، وَبعده الْحَج المبرور.
فان قلت: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: ( أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة على وَقتهَا) ثمَّ ذكر بر الْوَالِدين، ثمَّ الْجِهَاد.
وَفِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: ( أَي الاسلام خير؟ قَالَ: تطعم الطَّعَام، وتقرأ السَّلَام على من عرفت وَمن لم تعرف) .
وَفِي حَدِيث ابي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ: ( أَي الْإِسْلَام افضل؟ قَالَ: من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده) .
وَفِي حَدِيث ابي ذَر، رَضِي الله عَنهُ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَالْجهَاد فِي سَبيله.
قلت: فَأَي الرّقاب افضل؟ قَالَ: أغلاها ثمنا وأنفسها عِنْد أَهلهَا)
الحَدِيث وَلم يذكر فِيهِ الْحَج، وَكلهَا فِي الصَّحِيح.
قلت: قد ذكر الإِمَام الْحُسَيْن بن الْحسن بن مُحَمَّد بن حَكِيم الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي، عَن الْقفال الْكَبِير الشَّافِعِي الشَّاشِي، واسْمه ابو بكر مُحَمَّد بن عَليّ، فِي كَيْفيَّة الْجمع وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه جرى على اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، كَمَا رُوِيَ أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: حجَّة لمن يحجّ افضل من أَرْبَعِينَ غَزْوَة، وغزوة لمن حج أفضل من أَرْبَعِينَ حجَّة، وَالْآخر أَن لَفْظَة: من، مُرَادة، وَالْمرَاد من أفضل الْأَعْمَال، كَذَا.
كَمَا يُقَال: فلَان أَعقل النَّاس، أَي من أعقلهم، وَمِنْه قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: ( خَيركُمْ خَيركُمْ لأَهله) .
وَمَعْلُوم انه لَا يصير بذلك خير النَّاس.
قلت: وبالجواب الأول أجَاب القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: أعلم كل قوم بِمَا لَهُم إِلَيْهِ حَاجَة، وَترك مَا لم تَدعهُمْ إِلَيْهِ حَاجَة، أَو ترك مَا تقدم علم السَّائِل إِلَيْهِ أَو علمه بِمَا لم يكمله من دعائم الْإِسْلَام وَلَا بلغه عمله، وَقد يكون للمتأهل للْجِهَاد الْجِهَاد فِي حَقه أولى من الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد يكون لَهُ أَبَوَانِ لَو تَركهمَا لضاعا، فَيكون برهما أفضل، لقَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: ( ففيهما فَجَاهد) وَقد يكون الْجِهَاد أفضل من سَائِر الْأَعْمَال عِنْد اسْتِيلَاء الْكفَّار على بِلَاد الْمُسلمين.
قلت: الْحَاصِل أَن اخْتِلَاف الْأَجْوِبَة، فِي هَذِه الْأَحَادِيث لاخْتِلَاف الْأَحْوَال، وَلِهَذَا سقط ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام فِي هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاث مُقَدمَات على الْحَج وَالْجهَاد، وَيُقَال: إِنَّه قد يُقَال: خير الْأَشْيَاء كَذَا، وَلَا يُرَاد أَنه خير من جَمِيع الْوُجُوه فِي جَمِيع الْأَحْوَال والاشخاص، بل فِي حَال دون حَال، فَإِن قيل: كَيفَ قدم الْجِهَاد على الْحَج، مَعَ أَن الْحَج من أَرْكَان الاسلام، وَالْجهَاد فرض كِفَايَة؟ يُقَال: إِنَّمَا قدمه للاحتياج إِلَيْهِ أول الْإِسْلَام، ومحاربة الْأَعْدَاء، وَيُقَال: إِن الْجِهَاد قد يتَعَيَّن كَسَائِر فروض الْكِفَايَة، وَإِذا لم يتَعَيَّن لم يَقع الاَّ فرض كِفَايَة، وَأما الْحَج فَالْوَاجِب مِنْهُ حجَّة وَاحِدَة، وَمَا زَاد نفل فَإِن قابلت وَاجِب الْحَج بمتعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد أفضل لهَذَا الحَدِيث، وَلِأَنَّهُ شَارك الْحَج فِي الْفَرْضِيَّة، وَزَاد بِكَوْنِهِ نفعا مُتَعَدِّيا إِلَى سَائِر الْأمة، وبكونه ذبا عَن بَيْضَة الْإِسْلَام.
وَقد قيل: ثمَّ، هَهُنَا للتَّرْتِيب فِي الذّكر كَقَوْلِه تَعَالَى: { ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} ( الْبَلَد: 17) وَقيل: ثمَّ لَا يَقْتَضِي ترتيباً، فَإِن قابلت نفل الْحَج بِغَيْر متعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد أفضل لما أَنه يَقع فرض كِفَايَة، وَهُوَ أفضل من النَّفْل بِلَا شكّ؛.

     وَقَالَ  إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كتاب ( الغياثى) : فرض الْكِفَايَة عِنْدِي أفضل من فرض الْعين من حَيْثُ أَن فعله مسْقط للْحَرج عَن الْأمة بأسرها، وبتركه يعْصى المتمكنون مِنْهُ كلهم، وَلَا شكّ فِي عظم وَقع مَا هَذِه صفته، وَالله اعْلَم.