فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الاستهام في الأذان

باب
الاستهام في الاذان
ويذكر ان قوما اختلفوا في الاذان، فأقرع بينهم سعد.

قال عبد الله ابن الامام أحمد: ثنا أبي: ثنا هشيم، قال: ابن شبرمة اخبرنا، قال: تشاح الناس بالقادسية على الاذان، فارتفعوا إلى سعد، فأقرع بينهم.

وهذا إسناد منقطع.

قال عبد الله ابن الامام أحمد: سألت أبي عن مسجد فيه رجلان يدعيان انهما احق بالمسجد، هذا يؤذن فيه وهذا يؤذن فيه؟ فقال: إذا استووا في الصلاح والورع اقرع بينهما.
وكذلك فعل سعد، فان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا.

فقلت: وان كان احدهما اسن واقدم في هذا المسجد، ينفق عليه ويحوطه ويتعاهده؟ قال: هذا احق به.

ومعنى هذا: انه إذا تشاح في الاذان اثنان، فان امتاز احدهما بمزيد فضل في نفسه فانه يقدم، وهو مراد أحمد بقوله: ( ( ان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا) ) - يعني: أن الأصلح أحق فلا ينازع -، فإن استووا في الفضل في أنفسهم وامتاز أحدهم بخدمة المسجد وعمارته قدم بذلك وقال أصحابنا: إنه يقدم أحد المتنازعين باختصاصه بصفات الأذان المستحبة فيه، مثل أن يكون أحدهما اندى صوتا وأعلم بالمواقيت ونحو ذلك؛ فإن استووا في الفضائل كلها أقرع بينهم حينئذ، كما فعل سعد.

والظاهر: أن مراد أحمد: التنازع في [طلب] الأذان ابتداء، فأمامن ثبت له حق في المسجد، وهو مؤذن راتب فيه، فليس لأحد منازعته، ويقدم على كل من نازعه.

وقد نقل الشالنجي عن أحمد ما يبين هذا المعنى:
قال اسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن القوم إذا اختلفوا في الأذان فطلبوه جميعاً؟ فقال: القرعة في ذلك حسن.

وقال: ثنا هشيم، عن ابن شبرمة، أن الناس تشاحوا يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد في ذلك.

قال الشالنجي: قال ابو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: إن مات المؤذن وله ولد صالح فهو أحق بالأذان، وإن لم يطلبه، وإن لم يكن بأهل لذلك، وطلبه صلحاء المسجد يقرع بينهم في ذلك.

وبه قال أبو خيثمة - يعني: زهير بن حرب.

وقال ابن أبي شيبة في الأذان: على ما جاء: ( ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله) ) ، وكذلك الأذان.

قال الجوزجاني بعد أن ذكر هذا عن الشالجني - ما معناه -: إن اختلاف الناس يرد إلى السنة.

ثم روى حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( ( المؤذن مؤتمن) ) من طرق.

وروى حديث حسين بن عيسى، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ليؤذن لكم خياركم) ) .

وقد خرجه ابو داود وابن ماجه.

وتكلم فيه من جهة الحسين، والحكم – أيضا.

وفي مراسيل صفوان بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبني خطمة من الانصار: ( ( يابني خطمة، اجعلوا مؤذنكم أفضلكم في انفسكم) ) .

ثم قال الجوزجاني: لا بد ان يكون المؤذن خياراً، وبأن يكون مؤتمناً متبعاً للسنة، فالمبتدع غير مؤتمن.
فإن اجتمع هذه الخلال في عدة من اهل المسجد، فإن أحقهم بالأذان أنداهم صوتا.

ثم ذكر حديث عبد الله بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( القه على بلال؛ فإنه أندى صوتا منك) ) .
قال: وإنما أظنهما كانا متقاربين في الفضل والامانة، وفضله بلال بالصوت، فلذلك رآه أحق.

فإذا اجتمع رجال في المسجد وعلاهم رجل ببعض هذه الخصال كان أحق بالاذان، وإذا استوت فيها حالاتهم فالقرعة عند ذلك حسن.

واشار إلى فعل سعد وعضده بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لو يعلم الناس ما في النداء، ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لا ستهموا) ) .

ثم قال: فأماالاباء والابناء والعصبة في الاذان والامامة، فانا لا نعلم فيه سنة ماضية.
والله اعلم.
انتهى ما ذكره ملخصاً.

وخرج ابو داود من رواية غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده، ان رجلا منهم اتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ان أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وانه سألك ان تجعل الي العرافة بعده؟ فقال: ( ( ان العرافة حق، ولابد للناس من العرفاء، والعرفاء في النار) ) .

وهذا إسناد مجهول.

ولم يذكر انه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفاً، والامامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا انكر الصحابة على من بايع لولده.

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر.
جئتم بها هرقلية، تبايعون لابنائكم!
وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على ان البيعة للابناء سنة الروم وفارس، وأماسنة المسلمين فهي البيعة لمن هو افضل واصلح للامة.

وما تزعمة الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات المشركين في تقديم الاولاد والعصبات.

وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الامامة العظمى في ذلك.
والله اعلم.

وقد روي ما يستدل به من جعل الاذان للابناء بعد ابائهم.

قال الامام أحمد: ثنا خلف بن الوليد: ثنا الهذيل بن بلال، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه - او جده -، قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاذان لنا ولموالينا، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار.

الهذيل بن بلال، ضعفه ابن معين.
وقواه الامام أحمد، وابو حاتم.

وإسناده مشكوك فيه، ولم يسم ابن أبي محذورة هذا.

وخرج الامام أحمد والترمذي من رواية أبي مريم، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الملك في قريش، والقضاء في الانصار، والاذان في الحبشة) ) .

وخرجه الترمذي موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هو اصح.

وابو مريم هذا، ليس بالمشهور.

والمراد بهذا: ان سيد المؤذنين كان من الحبشة، لا انه يتوارثونه بعد بلال، فانه لا يعرف بعده من الحبشة مؤذن.
وقد يستدل – أيضا - بان ولد أبي محذورة كانوا يتوارثون الاذان بمكة مدة طويلة، وكذلك اولاد سعد القرظ بالمدينة.

وروى الدارقطني بإسناده عن سعد القرظ، ان عمر دعاه، فقال له: الاذان اليك وإلى عقبك من بعدك.

وفي الإسناد ضعف.

قال الشافعي – رحمه الله - وأصحابه: يستحب ان يكون المؤذن مولد بعض من جعل بعض الصحابة الاذان فيهم، ثم الاقرب اليهم فالاقرب.

وقال الشافعي - أيضا -: إذا تنازع جماعة في الاذان، ولم يكن للمسجد مؤذن راتب اقرع بينهم، وكذا إذا كان له مؤذنون، وتنازعوا في الابتداء، او كان المسجد صغيراً، وادى اختلاف اصواتهم إلى تهويش، فيقرع، ويؤذن من خرجت له القرعة، أماإذا كان هناك راتب، ونازعه غيره، قدم الراتب، وان كان جماعة مرتبون، وامكن اذان كل واحد في موضع من المسجد؛ ولكبره، اذن كل واحد وحده، وان كان صغيراً، ولم يؤد اختلاف اصواتهم إلى تهويش اذنوا جملة واحدة.

وهذا كله إذا كان التشاح رغبة في فضله وثوابه، فان كان رغبة في الرياسة والتقدم فينبغي ان يؤخر من قصد ذلك ولا يمكن منه، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( انا لا نولي عملنا هذا من طلبه او حرص عليه) ) .

قال سيفان الثوري: إذا رايت الرجل حريصاً على الامامة فأخره.
وكذلك إذا كان غرضه اخذ العوض الذي يعطاه اهل الاذان في هذه الازمان، أماممن بيت المال - وقد عدم ذلك -، او من الوقف.

فان تشاح اثنان: احدهما غرضه ثواب الاذان، والاخر غرضه غرض الدنيا، فلا شك في ان الاول احق.

وقد قال عثمان بن أبي العاص: ان من اخر ما عهد إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ان اتخذ مؤذناً لا يأخذ على اذانه اجراً.

اخرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.

وقال: حسن، والعمل عليه عند اهل العلم، كرهوا ان يأخذوا على الاذان اجراً، واستحبوا للمؤذن ان يحتسب في اذانه.

وروى ابو نعيم: ثنا عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، قال: كنت اطوف مع سعيد بن جبير، فمر ابن عمر، فاستقبله رجل من مؤذني الكعبة، فقال ابن عمر: والله، اني لابغضك في الله؛ لاخذ الدارهم.

قال: وثنا المسعودي، عن القاسم - هو: ابن عبد الرحمن -، قال: كان يقال: اربع لا يؤخذ عليهن رزق: قراءة القرآن، والاذان، والقضاء، والمقاسم.
وروى وكيع في ( ( كتابه) ) عن عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، ان ابن عمر قال له رجل في الطواف من مؤذني الكعبة: اني لاحبك في الله.
قال: واني لابغضك في الله؛ لتحسينك صوتك لاجل الدراهم.

قال: معاوية بن قرة: لا يؤذن الا محتسب.

وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن حلام بن صالح، عن فائد بن بكير، قال: خرجت مع حذيفة إلى المسجد صلاة الفجر، وابن النباح مؤذن الوليد بن عقبة يؤذن، وهو يقول: الله اكبر الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان لا اله الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالاً.
فقال حذيفة: من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.

وهذا انما قاله حذيفة على وجه الذم له؛ لانه راه يتمايل في اذانه، كأنه يعجب بحسن صوته، فجعل حذيفة يناكل ذلك، وهذا مثل قول ابن عمر.

ونص الشافعي - في الحديث -: ان الامام ليس له أن يرزق المؤذنين وهو يجد من يؤذن له طوعا ممن له امانة.

وكذلك قال أصحابنا.
وقال الشافعي - في القديم -: قد رزقهم امام هدى: عثمان بن عفان.

وسئل الضحاك عن مؤذن يؤذن بغي اجر فيعطى: هل يأخذ؟ قال: ان عطى من غير مسألة، وكان فقيراً، فلا باس ان يأخذ.

وظاهر مذهب الامام أحمد: انه لايأخذ على شيء من الاذان اجراً، ونص عليه في الاذان بخصوصه.

وروي عنه: ان الامام يرزقهم من الفيء، وهو محمول على انه لم يجد من يتطوع بذلك.

ونقل عنه ابن منصور في الذي يقوم للناس في رمضان: أيعطى؟ قال: ما يعجبي ان يأخذ على شيء من الخير اجراً.

قال: وقال إسحاق بن راهويه: لايسعه ان يؤم على نية اخذ، وان ام ولم ينو شيئا من ذلك، فأعطي او اكرم جاز.

ونقل حرب وغيره عن أحمد: انه يقدم عند [النسا] من رضيه اهل المسجد.

فحكى القاضي وأصحابه هذه الرواية ثانية عن أحمد؛ لان الحق لهم في ذلك؛ لانهم اعرف بمن يبلغهم صوته، ومن هو اعف عن النظر عند علوة عليهم للاذان.

وجعل صاحب ( ( المغني) ) رضا الجيران مقدما على القرعة، وانه انما يقرع بعد ذلك.
والصحيح: طريقة الاكثرين؛ لان ابا داود نقل عن أحمد: انه لا يعتبر رضا الجيران بالكلية، وانما يعتبر القرعة، فعلم ان رواية ومن وافقه تخالف ذلك.

ولا يعتبر رضا من بني المسجد واختياره -: نص عليه أحمد؛ معللا بأن المسجد لله، ليس للذي بناه.

يشير إلى انه خرج من ملكه، وصار لله عز وجل.

وهذا يدل على انه لا [تصرف] له على المسجد الذي بناه.

وهو المشهور – أيضا - عن الشافعية: ان باني المسجد ليس احق بامامته واذانه من غيره.

وقال ابو حنيفة وطائفة من الشافعية – كالروياني -: ان من بني المسجد فهو احق بأذانه وامامته، كما ان من اعتق عبداً فله ولاؤه.

وهذا التشبيه لا يصح؛ لان ثبوت الولاء على العبد المعتق لا يستفيد به الولاية عليه في حياته، والحجر عليه، والانتفاع بماله، وانما يستفيد به رجوع ماله اليه بعد موته؛ لانه لا بد من انتقال مال عنه حينئذ، فالمولى المعتق احق به من غيره من المسلمين؛ لاختصاصه بإنعامه عليه.

وأماالمسجد، فالمقصود من بنائه انتفاع المسلمين به في صلواتهم واعتكافهم وعباداتهم، والباني له [كبقية] المسلمين في ذلك من غير زيادة.

فإن شرط باني المسجد عند وقفه له قبل مصيره مسجداً بالفعل انه وولده احق بإمامته واذانه صح شرطه واتبع، وان كان غيرهم اقرأ منهم واندى صوتاً، إذا كان فيهم من يصلح لذلك، وان كان غيره اولى منه -: نص على ذلك: عبيد الله بن الحسن العنبري.

وهو قياس قول أحمد في صحة الواقف لنفسه ما شاء من غلة الوقف ومنافعه.

قال البخاري –رحمه الله -:
[ قــ :598 ... غــ :615 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: ابنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول، ثم لا يجدون الا ان يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا اليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا) ) .

فقوله: ( ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول) ) – يعني: لو يعلمون ما فيهما من الفضل والثواب، ثم لم يجدوا الوصول اليهما الا بالاستهام عليهما - ومعناه: الاقراع - لاستهموا عليهما تنافساً فيهما ومشاحة في تحصيل فضلهما واجرهما.

وهذا مما استدل به من يرى الترجيح عند التنافس في الاذان بالقرعة، كما سبق.

وقد قيل: ان الضمير في قوله: ( ( لا ستهموا عليه) ) يعود إلى الصف الاول؛ لانه اقرب المذكورين، ولم يقل: ( ( عليهما) ) .

والاظهر: انه يعود إلى النداء والصف الاول، كقوله تعالى: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] .

وقد دل الحديث على القرعة في التنافس في الصف الاول إذا استبق اليه اثنان وضاق عنهما وتشاحا فيه، فانه يقرع بينهما.

وهذا مع تساويهما في الصفات، فإن كان احدهما افضل من الاخر توجه ان يقدم الافضل بغير قرعة، عملا بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ليليني منكم اولوا الاحلام والنهي، ثم الذين يلونهم) ) .

خرجه مسلم من حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي مسعود الانصاري، كلاهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد ذكر أصحابنا: انه لو قدم بميتين إلى مكان مسبل من مقبرة مسبلة في ان واحد، فإن كان لاحدهما هناك ميزة من اهل مدفونين عنده او نحو ذلك قدم، وان استويا اقرع بينهما، ولو دفن اثنان في قبر، واستويا في الصفات اقرع بينهما، فقدم إلى القبلة من خرجت له القرعة.

وفعله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بامرأتين له، دفنهما في قبر.

وأماان كان ثبت لاحدهما حق التقدم في الصف، فليس لاحد ان يدفعه عنه، ولو كان افضل منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا يقيم الرجل [الرجل] من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا توسعوا) ) .

فأن كان السابق إلى الصف غلأمالم يبلغ الحلم جاز تأخيره.

فعله أبي بن كعب بقيس بن عبادة، وصرح به أصحابنا، وهو ظاهر كلام الامام أحمد، وقول سفيان.

وكذلك ان قدم رجل عبداً له إلى الصف ثم جاء، فله ان يؤخره ويجلس مكانه.

وأماان تأخر السابق باختياره، فهل يكره، ام لا؟ فيه قولان، مبنيان على جواز الايثار بالقرب.

وظاهر كلام الامام أحمد كراهته، حتى في حق الابن مع أبيه، وحكى عنه جوازه - أيضا.

وعلى القول بالجواز، فلو قام من مكانه ايثاراً لرجل، فسبق اليه غير المؤثر، فهل يستحقه؟ فيه وجهان:
احدهما: يستحقه؛ لان المؤثر سقط حقه بزواله عنه.
لا – وهو اصح -؛ لان من كان احق بمكانه، فله ان يجلس به بنفسه، ويؤثر به غيره.

وبهذا فسره الامام أحمد، واستحسن ابو عبيد ذلك منه.

وانما يسقط حقه إذا قام معرضاً عنه؛ ولهذا لو قام لحاجة ثم عاد فهو احق بمجلسه، فكذا إذا قام لايثار غيره.

وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لو يعلمون ما في النداء والصف الاول، ولم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه) ) : دليل على ان الاذان لا يشرع اعادته مرة بعد مرة، الا في اذان الفجر، كما جاءت السنة به، والا فلو شرعت اعادته لما استهموا، ولاذن واحد بعد واحد.

وقد صرح بمثل ذلك بعض أصحابنا، وقال: مع التزاحم يؤذن واحد بعد واحد.
وهو مخالف للسنة.

وروي عن عمر، انه اختصم اليه ثلاثة في الاذان، فقضى لاحدهم بالفجر، للثاني بالظهر والعصر، وللثالث بالمغرب والعشاء.

وقد قيل: ان ابا بكر الخلال خرجه بإسناده، ولم اقف إلى الان عليه.

ولو قيل: انه يؤذن المتشاحون جملة لم يبعد.

وقد نص أحمد على انه لو اذن على المنارة عدة فلا بأس.

وقال القاضي ابو يعلى وأصحابه – متابعة للشافعي وأصحابه -: يستحب ان يقتصر على مؤذنين، ولا يستحب ان يزيد على اربعة.

ثم قالوا: ان كان المسجد صغيرا اذن واحد منهم بعد واحد، وان كان كبيراً اذنوا جملة؛ لانه ابلغ في التبليغ والاعلام.

وقال أصحاب الشافعي: إذا ضاق الوقت والمسجد كبير اذنوا في اقطاره، وان كان صغيرا اذنوا معاً، الا ان تختلف اصواتهم فيؤذن واحد.

واستدلوا بإذان بلال وابن ام مكتوم، وذاك انما كان في الفجر خاصة، ولا يعرف في غير الفجر، الا في الجمعة من حين زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء.

وحمل ابن حبيب المالكي الاستهام على الاذان على الوقت المضيق كالجمعة والمغرب.

يشير إلى انه في الاوقات المتسعة ان يؤذن واحد بعد واحد.

وقال حرب: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة؟ [قال] : إذا اذن على المنارة عدة فلا باس بذلك؛ قد كان يؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال وابن ام مكتوم، وجاء ابو محذورة وقد اذن رجل قبله فأذن ابو محذورة - أيضا.

وهذا النص يشعر بأنه يجوز ان يؤذن واحد بعد واحد في غير الفجر، وهذا محمول على جوازه إذا وقع احيانا، لا انه يستحب المداومة عليه، وأمااذان بلال وابن [ام] مكتوم فكان في الفجر، ولم يؤذنا جملة، فلا يدل على الاجتماع على الاذان بحال.

وقد علل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذان بلال، فقال: ( ( ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم) ) .

وهذا المعنى لا يوجد في غير صلاة الصبح، ولا روي في غير الصبح انه اذن علي عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين.
وفي ( ( الصحيحين) ) عن ابن عمر: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد واحد مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم.

وهذا يستدل به على انه يستحب نصب مؤذنين للمسجد خشية ان يغيب احدهما فيؤذن الاخر؛ لئلا يتعطل الاذان مع غيبته.

والذي ذكر الامام أحمد، خرجه ابن أبي شيبة: ثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت ابا محذورة جاء وقد اذن أنسان، فأذن هو واقام.

وهذا فعله ابو محذورة مرة؛ لافتئات غيره عليه بأذانه قبله، ولم يكن مع أبي محذورة مؤذن راتب غيره بمكة.

قال ابن أبي شيبة: ثنا يزيد من هارون، عن حجاج، عن شيخ من المدينة، عن بعض بني مؤذني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: كان ابن ام مكتوم يؤذن ويقيم بلال، وربما اذن بلال واقام ابن ام مكتوم.

إسناد ضعيف.

ولو صح لكان دليلاً على انهما لم يكونا يجتمعان في اذان واحد في غير صلاة الفجر.
وروى وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن اسرائيل، عن جابر، عن عامر: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة مؤذنين: بلال وابو محذورة وابن ام مكتوم، فإذا غاب واحد اذن الاخر.
وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لقد هممت ان اجعل المؤذنين ستة) ) .
قال: فإذا اقيمت الصلاة اشتدوا في الطرق، فاذنوا الناس بالصلاة.

هذا مرسل ضعيف؛ فان جابراً هو الجعفي.

وابو محذورة لم يكن يؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة.

وقد خرجه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن العباس ابن الفضل الاسفاطي، عن أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا يحيى، عن اسرائيل عن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة مؤذنين: بلال، وابو محذورة، وابن ام مكتوم.

وقال: قال ابو بكر - يعني: ابن إسحاق -: هو صحيح.

وليس كما قال ابن إسحاق.

هذا في كتاب ابن أبي شيبة ( ( المصنف) ) .
والصحيح: حديث وكيع، عن اسرائيل، عن جابر الجعفي، عن الشعبي - مرسلاً.

وروى الامام أحمد: ثنا اسماعيل: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وعمرو بن ام مكتوم.

وهذه الرواية اصح.

وخرج الدارقطني من رواية اولاد سعد القرظ، عن ابائهم، عن جدهم سعد، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( يا سعد، إذا لم تر بلالا معي فأذن) ) .

وفي إسناده ضعف.

وفي الحديث: دليل على شرف الاذان وفضله، واستحباب المنافسة فيه لاكابر الناس واعيانهم، وانه لا يوكل إلى اسقاط الناس وسفلتهم، وقد كان الاكابر ينافسون فيه.

قال: قيس بن أبي حازم: قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفى لاذنت.

وقال عبد الله بن الحسن: قال ابن أبي طالب: ما اسى على شيء، الا اني كنت وددت اني كنت سألت للحسن والحسين الاذان.

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: لان اقوى على الاذان احب الي من ان احج واعتمر واجاهد.

وعن عمر وابن مسعود - معناه.

وعن ابن الزبير، قال: وددت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعطانا النداء.

وقال النخعي: كانوا يستحبون ان يكون مؤذنيهم فقهاؤهم؛ لانهم ولوا امر دينهم.

وقال الحسن: قال عمر: لا يستحي رجل ان يكون مؤذنا.

وقال زاذان: لو يعلم الناس ما في فضل الاذان لاضطربوا عليه بالسيوف.

وقال شبيل بن عوف، قال عمر: من مؤذنوكم؟ قلنا: عبيدنا وموالينا.
قال: ان ذلك لنقص بكم كبير.

وروى قيس بن أبي حازم، عن عمر - مثله -، قال: وقال: لو اطقت الاذان مع الخليفى لاذنت.

وقال يحيى ابن أبي كثير: حدثت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لو علم الناس ما في الاذان لتحاوره) ) .
قال: وكان يقال: ابتدروا الاذان، ولاتبدروا الامامة.
وقال حماد بن سلمة: ابنا ابو غالب، قال: سمعت ابا امامة يقول: المؤذنون امناء للمسلمين، والائمة ضمناء.
قال: والاذان احب الي من الامامة.

خرجه البيهقي.

وممن راى الاذان افضل من الامامة: الشافعي في اصح قوليه، نص عليه في ( ( الام) ) ، وعلى كراهة الامامة؛ لما فيها من الضمان.

وهو – أيضا - اصح الروايتين عن أحمد.

وروى ابو حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الامام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الائمة واغفر للمؤذنيين) ) .
قالوا: يا رسول الله، تركتنا نتنافس في الاذان، فقال: ( ( ان من بعدكم زمانا سفلتهم مؤذنوهم) ) .

خرجه البراز.

وقال: لم يتابع عليه ابو حمزة.

يعني: على الزيادة التي آخره؛ فإن أول الحديث معروف بهذا الإسناد، خرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.

وقال الدارقطني: هذه الالفاظ ليست محظوظة.

قلت: وقد رويت بإسناد ضعيف، عن يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش – أيضا.

ذكره ابن عدي.

وفي إسناد الحديث اختلاف كثير، وقد روي موقوفا على أبي هريرة.

قال الشافعي في ( ( الام) ) : احب الاذان؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اللهم اغفر للمؤذنين) ) ، واكره الامامة للضمان، وما على الامام فيها.

واستدل من رجح الامامة - وهو احد قولي الشافعي، وحكي رواية عن أحمد -: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يتولون الامامة دون الاذان.

واجيب عن ذلك بانهم كانوا مشتغلين عن الاذان بمصالح المسلمين التي لا يقوم غيرها فيها مقامهم، فلم يتفرغوا للاذان ومراعاة اوقاته؛ ولهذا قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفي لاذنت.

والخليفي: الخلافة.
وأماالامامة، فلم يكن لهم بد من صلاة وهم ائمة الناس في امور دينهم وديناهم، فلذلك تقلدوا الامامة، ومن قدر على الجمع بين المرتبتين لم يكره له ذلك، بل هو افضل، وكلام عمر يدل عليه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.

وقال مصعب بن سعد: هو من السنة.

وللشافعية وجه بكراهة الجمع.

وفي النهي عن الجمع حديث مرفوع: خرجه البيهقي وغيره، وهو غير صحيح.

وقال الماوردي منهم: للأنسان في الاذان والامامة اربعة احوال: حال يمكنه القيام بهما والفراغ لهما، فالاصل ان يجمع بينهما.
وحال يعجز عن الامامة لقلة علمه وضعف قراءته، ويقدر على الاذان لعلو صوته ومعرفته بالاوقات، فالأنفراد له بالاذان افضل.
وحال يعجز فيه عن الاذان لضعف صوته وقلة ابلاغه، ويكون قيما بالامامة لمعرفته بأحكام الصلاة وحسن قراءته، فالإمامة له افضل.
وحال يقدر على كل واحد منهما ويصلح له، ولا يمكنه الجمع بينهما، فأيهما افضل؟ فيه وجهان.