فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل صلاة الجماعة وكان الأسود: «إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر» وجاء أنس بن مالك: «إلى مسجد قد صلي فيه، فأذن وأقام وصلى جماعة»

بَابُ
فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ
وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.

وجاء أنس إلى مسجد قَدْ صلي فِيهِ، فأذن وأقام، وصلى جماعة.

هاهنا مسألتان:
إحداهما:
أن من فاتته الجماعة فِي مسجد لَمْ يجد فِيهِ جماعةً، فإنه يذهب إلى مسجد آخر لتحصيل الجماعة، كما فعله الأسود.

وَقَالَ حماد بْن زيد: كَانَ ليث بْن أبي سليم إذا فاتته الصلاة فِي مسجد حيه اكترى حماراً، فطاف عَلِيهِ المساجد حَتَّى يدرك جماعةً.

ونص الإمام أحمد عَلَى أن من فاتته الجماعة فِي مسجد حيه أَنَّهُ يذهب إلى مسجد آخر ليدرك الجماعة.
قَالَ: وإن فاتته تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام فِي مسجد حية صلى معهم، ولم يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ إمامه.

وحكى عَن هشيم، أَنَّهُ كَانَ يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام.

ومذهب مَالِك: أن من وجد مسجداً قَدْ جمع أهله، فإن طمع بإدراك جماعة فِي مسجد غيره خرج إليها، وإن كانوا جماعةً فلا بأس أن يخرجوا فيجمعوا كراهة إعادة الجماعة عندهم فِي المسجد، كما سيأتي.

واستثنوا من ذَلِكَ المسجد الحرام ومسجد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد بيت المقدس، فقالوا: يصلوا فيها أفذاذاً، هُوَ أعظم لأجورهم من الجماعة خارج المسجد -: ذكره فِي ( ( تهذيب المدونة) ) .

المسألة الثانية:
أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ جماعة، فإنه يصلى فِيهِ جماعة مرة ثانية، صح ذَلِكَ عَن أنس بْن مَالِك، كما علقه عَنْهُ البخاري، واحتج بِهِ الإمام أحمد.

وَهُوَ من رِوَايَة الجعد أَبِي عُثْمَان، أَنَّهُ رأى أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ، فأذن وأقام وصلى بأصحابه.

وقد رواه غير واحد من الثقات، عَن الجعد، وخرجه عَبْد الرزاق والأثرام وابن أَبِي شيبة والبيهقي وغيرهم فِي ( ( تصانيفهم) ) من طرق متعددة عَن الجعد.

وقد روي عَن أَنَس من وجه آخر؛ وأنه رَوَى فِي ذَلِكَ حديثاً مرفوعاً.

خرجه ابن عدي من طريق عباد بْن منصور، قَالَ: رأيت أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً بعد العصر، وقد صلى القوم، ومعه نفر من أصحابه، فأمهم، فلما انفتل قيل لَهُ: أليس يكره هَذَا؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُل المسجد، وقد صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفجر، فقام قائماً ينظر، فَقَالَ: ( ( مَالِك؟) ) قَالَ: أريد أن أصلي، فَقَالَ: ( ( أما رَجُل يصلي مَعَ هَذَا؟) ) فدخل رَجُل، فأمرهم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلو جميعاً.
وعباد بْن منصور، تكلموا فِيهِ.

وقد اختلف النَّاس فِي هَذَا المسألة فِي موضعين:
أحدهما: أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ فصلى وحده أو جماعة: هَلْ يؤذن ويقيم، أم يكفيه أذان الجماعة الأولى وإقامتهم؟ فِيهِ قولان مشهوران للعلماء، قَدْ سبق ذكرهما فِي مواضع من الكتاب.

ومذهب أَبِي حنيفة وأصحابه وسفيان وإسحاق؛ أَنَّهُ يجزئهم الأذن والإقامة الأولى، وَهُوَ نَصَّ أحمد، وقد جعله صاحب ( ( المغني) ) المذهب، وَهُوَ كما قَالَ؛ لكن أحمد لا يكره إعادة الأذان والإقامة.

وروي عَن طائفة من السلف كراهة إعادتهما، منهم: عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلي وغيره، وحكي - أيضاً - عن أَبِي يوسف ومحمد.

وعن الشَّعْبِيّ، قَالَ: إذا صلى فِي المسجد جماعة فإن إقامتهم تجزىء عمن صلى صلاة إلى الصلاة الأخرى.

وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يقيم، ولم يذكر الأذان.

وعن قتادة، قَالَ: إن لَمْ يسمع الإقامة أقام، ثُمَّ صلى.

والموضع الثاني: إعادة الجماعة فِي مسجد قَدْ صلى فِيهِ إمامه الراتب.

واختلف العلماء فِي ذَلِكَ:
فمنهم: من كرهه،.

     وَقَالَ  يصلون فِيهِ وحداناً، روي ذَلِكَ عَن سَالِم وأبي قلابة، وحكاه بعض العلماء عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب والحسن والنخعي والضحاك والقاسم بْن مُحَمَّد والزهري وغيرهم، وَهُوَ قَوْلِ الليث والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك، وحكاه الترمذي فِي ( ( كتابه) ) عَن ابن المبارك والشافعي، وقد رواه الربيع عَن الشَّافِعِيّ، وأنه لَمْ يفعله السلف، بل قَدْ عابه بعضهم.

وكان هَذَا القول هُوَ المعمول بِهِ فِي زمن بني أمية؛ حذراً من أن يظن بمن صلى جماعة بعد جماعة المسجد الأولى أَنَّهُ مخالف للسلطان مفتئت عَلِيهِ، لا يرى الصلاة مَعَهُ، ولا مَعَ من أقامه فِي إمامه المساجد.

وقد استدل بعضهم لهذا بما رَوَى معاوية بْن يَحْيَى، عَن خَالِد الحذاء، عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي بكرة، عَن أَبِيه، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد النَّاس قَدْ صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله، فصلى بهم.

خرجه الطبراني.

ومعاوية بْن يَحْيَى، لا يحتج بِهِ.

وذهب أكثر العلماء إلى جواز إعادة الجماعة فِي المساجد فِي الجملة كما فعله أَنَس بْن مَالِك، منهم: عَطَاء وقتادة ومكحول، وَهُوَ قَوْلِ إِسْحَاق وأبي يوسف ومحمد وداود.

واختلف فِيهِ عَن الْحَسَن والنخعي، فروي عنهما كالقولين.

والمشهور: أَنَّهُ يكره ذَلِكَ فِي مسجدي مكة والمدينة خاصة، ويجوز فيما سواهما.

ومن تأخري أصحابه من ألحق بمسجدي مكة والمدينة المسجد الأقصى فِي الكراهة.

وعن أحمد رِوَايَة أخرى: لا يكره بحال.

ومن أصحابنا من كرهه فِي المساجد العظام الَّتِيْ يتولى السلطان عادة ترتيب أئمتها كالجوامع ونحوها؛ لئلا يتطرق بذلك إلى الافتئات عَلِيهِ، ولم يكرهه فِي المساجد الَّتِيْ يرتب أئمتها جيرانها.

وحكي عَن الشَّافِعِيّ، أَنَّهُ يكره إعادة الجماعة فِي مساجد الدروب ونحوها دون مساجد الأسواق الَّتِيْ يكثر فيها تكرار الجماعات، لكثرة استطراق النَّاس إليها؛ دفعاً للحاجة.

ومتى لَمْ يكن للمسجد إمام راتب لَمْ يكره إعادة الجماعة فِيهِ عِنْدَ أحد من العلماء، مَا خلا الليث بْن سعد، فإنه كره الإعادة فِيهِ - أيضاً.

واستدل من لَمْ يكره الإعادة بحديث أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: جَاءَ رجلٌ وقد صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( أيكم يتجر عَلَى هَذَا؟) ) فقام رَجُل، فصلى مَعَهُ.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وهذا لفظه،.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيْث حسن - وابن خزيمة وابن حبان فِي ( ( صحيحهما) ) والحاكم،.

     وَقَالَ : صحيح الإسناد.

وقد قواه الإمام أحمد وأخذ بِهِ، وَهُوَ مشكل عَلَى أصله؛ فإنه يكره إعادة الجماعة فِي مسجد المدينة.

وقد اعتذر الإمام أحمد عَنْهُ من وجهين:
أحدهما: أن رغبة الصَّحَابَة فِي الصلاة مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ متوفرة، وإنما كَانَ يتخلف من لَهُ عذر، وأما بعده فليس كذلك، فكره تفريق الجماعات فِي المسجدين الفاضلين توقيراً للجماعة فيهما.

والثاني: أن هَذَا يغتفر فِي الجماعة القليلة دون الكثيرة، ولهذا لَمْ يأمر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من واحد بالصلاة مَعَهُ.

وكذلك قَالَ أحمد فِي الجماعة تفوتهم الجمعة: إنهم إن كانوا ثَلاَثَة صلوا جماعةً، فإن كثروا فتوقف فِي صلاتهم جماعةً،.

     وَقَالَ : لا أعرفه.

ومأخذه فِي ذَلِكَ: أن فِي إظهار صلاة الظهر يوم الجمعة فِي المساجد افتئاتاً عَلَى الأئمة، ويتستر بِهِ أهل البدع إلى ترك الجمعة، وصلاة الظهر فِي المساجد كسائر الأيام.

وقد كره طائفة من السلف لمن فاتته الجمعة أن يصلوا جماعة، منهم: الْحَسَن وأبو قلابة، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة.

ورويت الرخصة فِيهِ عَن ابن مَسْعُود وإياس بْن معاوية، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأحمد وإسحاق.

وعن أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ يكره صلاة الظهر جماعة إذ كثروا، ولا يكره إذا قلوا.
وقد ذكرناها آنفاً.

ومن أصحابنا من كره الجماعة فِي مكان الجمعة خاصة.

واختلف فِيهِ عَن الثوري ومالك.

وروي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت، أن من فاتته الجمعة لا يصلي الظهر فِي المسجد بالكلية حياء من النَّاس.

قَالَ حذيفة: لا خير فيمن لا حياء فِيهِ.

وَقَالَ زيد: من لا يستحي من النَّاس لا يستحي من الله.
وقد روي فِي حَدِيْث أَنَس الموقوف الَّذِي علقه البخاري زيادة: أَنَّهُ أمر بعض أصحابه فأذن وصلى ركعتين، ثُمَّ أمره فأقام ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.

خرجه عَبْد الرزاق عَن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان، عَن الجعد، عَن أَنَس.

وخرجه الجوزجاني من رِوَايَة ابن علية، عَن الجعد، قَالَ: كنا فِي مسجد بني رِفَاعَة، فجاء أَنَس بْن مَالِك ومعه نفر، وقد صلينا صلاة الصبح، فَقَالَ: أصليتم؟ قَالَ: نَعَمْ، فإذن رَجُل من القوم، ثُمَّ صلوا ركعتين، ثُمَّ أقام، ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.

وهذا يدل عَلَى أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ والوقت باقٍ، فإنه يجوز لَهُ أن يتطوع قَبْلَ صلاة المكتوبة، ويصلي السنن الرواتب قَبْلَ الفرائض، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين، منهم: [.. .. ..] وأبو حنيفة ومالك والشافعي.

وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوبة، منهم: ابن عُمَر -: رواه مَالِك وأيوب وابن جُرَيْج، عَن نافعٍ، عَنْهُ.

وكذا روي عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلى والشعبي والنخعي وعطاء، وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بْن حي والليث بْن سعد.

وعن الْحَسَن، قَالَ: ابدأ بالمكتوبة إلا ركعتي الفجر.

وكذا قَوْلِ الثوري.

واختلفت الرواية عَن أحمد فِي ذَلِكَ:
فنقل عَنْهُ ابن منصور وصالح وحنبل: يبدأ بالمكتوبة، واستدل فِي رِوَايَة ابن منصور وصالح بما روي عَن ابن عُمَر.

ونقل عَنْهُ أبو الْقَاسِم البغوي، فِي الرَّجُلُ يخرج إلى المسجد فيجدهم قَدْ صلوا، ووجد رجلاً يتطوع: أيتطوع حَتَّى يجيء الرَّجُلُ؟ قَالَ: إن شاء تطوع.

ومن كره ذَلِكَ جعل الدخول إلى المسجد لإرادة الصلاة المكتوبة كإقامة الصلاة، فلا يبدأ قبلها بشيء وإنما يشرع التطوع لمن ينتظر الإمام؛ لأنه إذا لَمْ يخرج إلى النَّاس لَمْ يمنعوا من التطوع.

ولو كَانَتْ الصلاة فِي غير مسجد فله أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة -: قاله عَطَاء وغيره.

وقياس هَذَا: أن الإمام إذا حضر المسجد، فإنه يكره لَهُ أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة - أيضاً.

وقد ذكرنا فيها تقدم فِي ( ( بَاب: متى يقوم النَّاس إذا رأوا الإمام) ) الحَدِيْث الَّذِي خرجه أبو داود، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حِينَ تقام الصلاة فِي المسجد إذا رآهم قليلاً جلس ثُمَّ صلى، وإذا رآهم جماعة صلى.

وخرجه البيهقي، ولفظه: كَانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا رأى أهل المسجد قليلاً جلس حَتَّى يرى منهم جماعة ثُمَّ يصلي.

وقد تقدم فِي ( ( بَاب: القيام للصلاة) ) الحَدِيْث المرسل، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وبلال فِي الإقامة فجلس.

خرج البخاري - رحمه الله - في هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
[ قــ :627 ... غــ :645 ]
- حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن نافعٍ، عَن عَبْد الله بْن عُمَر، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( صلاةُ الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين
درجةً)
)
.

الحَدِيْث الثاني:
قَالَ:


[ قــ :68 ... غــ :646 ]
- حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: حَدَّثَنِي الليث: حَدَّثَنِي ابن الهاد، عَن
عَبْد الله بْن خباب، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ( ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين درجةً) ) .

الحَدِيْث الثالث:


[ قــ :69 ... غــ :647 ]
- حَدَّثَنَا موسى بْن إسماعيل: نا عَبْد الواحد، قَالَ: ثنا الأعمش، قَالَ: سَمِعْت أبا صالح يَقُول: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تضعيف عَلَى صلاته فِي بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أَنَّهُ إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوة إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا صلى لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة: اللهم صل عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاةٍ مَا انتظر الصلاة) ) .

فِي حَدِيْث ابن عُمَر: أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجةً، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد: أنها عَلَيْهَا بخمس وعشرين.

وقد جمع بعض النَّاس بينهما، فَقَالَ: أريد فِي حَدِيْث ابن عُمَر ذكر صلاة الفذ وصلاة الجماعة، وما بَيْنَهُمَا من الفضل، وَهُوَ خمس وعشرون، فصار ذَلِكَ سبعاً وعشرين، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد ذكر قدر الفضل بَيْنَهُمَا فَقَطْ، وَهُوَ خمس وعشرون.

وهذا بعيد، فإن حَدِيْث ابن عُمَر ذكر فِيهِ قدر التفاضل بَيْن الصلاتين - أيضاً -، كما ذكر فِي حَدِيْث أَبِي سَعِيد.

وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تزيد عَلَى صلاته وحده سبعاً وعشرين درجة) ) .
وأما حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ففيه تضعّف صلاة الجماعة عَلَى الصلاة فِي البيت والسوق خمسة وعشرين ضعفاً، والمراد بِهِ - أيضاً -: قدر التفاضل بَيْنَهُمَا.

وسيأتي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ آخر، خرجه البخاري فِي الباب الَّذِي يأتي بعد هَذَا، وَهُوَ: ( ( تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً) ) .

والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدرج معنى واحد - واللهُ أعلم -، وَهُوَ: أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عِنْدَ الله، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين.

وقد جَاءَ التصريح بهذا فِي حَدِيْث خرجه مُسْلِم من رِوَايَة سلمان الأغر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ) ) .

وخرج - أيضاً - من وجه آخر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
( ( صلاة مَعَ الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده) ) .

وفي ( ( المسند) ) عَن ابن عُمَر - موفوعاً -: ( ( كلها مثل صلاته) ) .

وقد اختلف النَّاس فِي الجمع بَيْن حَدِيْث ابن عُمَر فِي ذكر السبع وعشرين وبين حَدِيْث أَبِي سَعِيد وأبي هُرَيْرَةَ فِي ذكر خمس وعشرين.

فَقَالَتْ طائفةٌ: ذكر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كل وقت مَا أعلمه الله وأوحاه إليه من الفضل، فبلغه كما أوحي إليه، وكان قَدْ أوحى إِلَيْهِ أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بخمس وعشرين، والعدد لا مفهوم لَهُ عِنْدَ كثير من العلماء، ثُمَّ أوحى إِلَيْهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ، كما أخبر: ( ( أن من مات لَهُ ثَلاَثَة من الولد لَمْ تمسه النار) ) .
ثُمَّ سئل عَن الاثنين، فَقَالَ: ( ( واثنان) ) ثُمَّ سئل عَن الواحد، فَقَالَ: ( ( والواحد) ) ، وكما أخبر ( ( أن صيام ثَلاَثَة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر) ) ، ثُمَّ أخبر عَبْد الله ابن عَمْرِو بْن العاص أَنَّهُ إن صام يوماً من الشهر أو يومين مِنْهُ فله أجر مَا بقي مِنْهُ، ونطق الكتاب بأن الحسنة بعشر أمثالها، ثُمَّ جاءت السنة بأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ودل القرآن عَلِيهِ - أيضاً.

وقالت طائفة: صلاة الجماعة يتفاوت ثوابها في نفسها، ثم اختلفوا: فمنهم من قالَ: يتفاوت ثوابها بإكمال الصلاة فِي نفسها، وإقامة حقوقها وخشوعها، ورجحه أبو موسى المديني.

ولكن صلاة الفذ يتفاوت ثوابها - أيضاً - على حسب ذَلِكَ.

ومنهم من قَالَ: يتفاوت ثوابها بذلك، وربما يقترن بصلاة الجماعة من المشي إلى المسجد وبعده وكثرة الجماعة فِيهِ، وكونه عتيقاً، وكون المشي عَلَى طهارةٍ، والتبكير إلى المساجد، والمسابقة إلى الصف الأول عَن يمين الإمام أو وراءه، وإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام، والتأمين مَعَهُ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذَلِكَ.

وهذا قَوْلِ أَبِي بَكْر الأثرم وغيره، وَهُوَ الأظهر.

ويدل عَلِيهِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ تعليل المضاعفة، فَقَالَ:
( ( وذلك أَنَّهُ إذ توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوةً إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة، وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا صلى لَمْ تزَلَ الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة: اللهم صل عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مَا انتظر الصلاة) ) .

وعلى هَذَا؛ فَقَدْ تضاعف الصلاة فِي جماعة أكثر من ذَلِكَ.

إما بحسب شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة.

وقد قَالَ ابن عُمَر: افضل الصلوات عِنْدَ الله صلاة الصبح يوم الجمعة.

وروي عَنْهُ مرفوعاً، والموقوف هُوَ الصحيح -: قاله الدارقطني.

وخرجه البزار بإسناد ضَعِيف، عَن أَبِي عبيدة بْن الجراح مرفوعاً، وزاد فِيهِ:
( ( ولا أحسب من شهدها منكم إلا مغفوراً لَهُ) ) .

أو شرف المكان، كالمسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، كما صح عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( ( صلاة فِي مسجدي هَذَا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام) ) .
وخرج ابن ماجه من رِوَايَة أَبِي الخَطَّاب الدمشقي، عَن رزيق الألهاني، عَن أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي بيته بصلاة، وصلاته فِي مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته فِي المسجد الَّذِي يجمع فِيهِ بخمسمائة صلاة، وصلاته فِي المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته فِي مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته فِي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) ) .

وقد سبق الكلام عَلَى إسناده فِي ( ( بَاب: الصلاة فِي مسجد السوق) ) .
والله أعلم.

وقد روي عَن ابن عَبَّاس من طريقين فيهما ضعف، أن مضاعفة الخمس وعشرين درجة لأقل الجماعة - وهي اثنان، وفي رِوَايَة عَنْهُ: ثَلاَثَة -، وما زاد عَلَى ذَلِكَ إلى عشرة آلاف كَانَ لكل واحد من الدرجات بعدد من صلى معهم.

وروي بإسناد فِيهِ نظر، عَن كعب، أَنَّهُ قَالَ لعمر بْن الخَطَّاب: إنه إذا صلى اثنان كَانَتْ صلاتهما بخمس وعشرين، وإذا كانوا ثلاثة فصلاتهم بخمسة وسبعين، وكانت ثلاثمائة، فإذا كانوا خمسة خمسة الثلاثمئة، فكانت ألفاً وخمسمائة، فإذا كانوا ستة سدست ألفاً وخمسمائة، فكانت تسعة آلاف، فإذا كانوا مائة فلو اجتمع الكتاب والحساب مَا أحصوا ماله من التضعيف.
ثُمَّ قَالَ لعمر: لَوْ لَمْ يكن مِمَّا أنزل الله عَلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ثَلاَثَة وثمانين سَنَة لكنت مصدقاً.
فَقَالَ عُمَر: صدقت.

خرجه أبو موسى المديني فِي ( ( كِتَاب الوظائف) ) بإسناده.

وخرج فِيهِ أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة فِي هَذَا المعنى.

وروى - أيضاً - بإسناد جيد، عَن كعب، قَالَ: أجد فِي التوراة أن صلاة الجماعة تضاعف بعدد الرجال درجة، إن كانوا مائة فمائة، وإن كانوا ألفاً فألف درجة.

وخرج الطبراني وغيره من رِوَايَة عَبْد الرحمن بْن زياد، عَن قباث بْن أشيم، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عِنْدَ الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة مائة تترى) ) .

وخرجه البزار - أيضاً - بمعناه.

وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخاري: ( ( صلاة الرَّجُلِ فِي الجماعة تضعيف) ) ، وَهُوَ يدل عَلَى أن صلاة المرأة لا تضعف فِي الجماعة؛ فإن صلاتها فِي بيتها خير لها وأفضل.
وروى بقية، عَن أَبِي عَبْد السلام، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - مرفوعاً -:
( ( صلاة المرأة وحدها تفضل عَلَى صلاتها فِي الجمع خمساً وعشرين درجة) ) .

خرجه أبو نعيم فِي ( ( تاريخ أصبهان) ) .

وَهُوَ غريب جداً، وروايات بقية عَن مشايخه المجهولين لا يعبأ بِهَا.

وقد احتج كثير من الفقهاء بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث الَّتِيْ فيها ذكر تفضيل صلاة الجماعة عَلَى صلاة الفذ، وقالوا: هِيَ تدل عَلَى أن صلاة الفذ صحيحة مثاب عَلَيْهَا.
قالوا: وليس المراد بذلك صلاة الفذ إذا كَانَ لَهُ عذر فِي ترك الجماعة؛ لأن المعذور يكتب لَهُ ثواب عمله كله، فعلم أن المراد بِهِ غير المعذور.

وهذا استدلال لا يصح، وإنما استطالوا بِهِ عَلَى داود وأصحابه القائلين بأن صلاة الفذ لغير عذر باطلة، فأما من قَالَ: إنها صحيحه، وأنه آثم بترك حضور الجماعة، فإنه لا يبطل قوله بهذا، بل هُوَ قائل بالأحاديث كلها، جامع بينها، غير راد لشيء مِنْهَا.

ثُمَّ قولهم: الحَدِيْث محمول عَلَى غير المعذور، قَدْ يمنع.

وقولهم: إن المعذور يكتب لَهُ مَا كَانَ يعمل.

جوابه: أن كتابة مَا كَانَ يعمل لسبب آخر، وَهُوَ عمله المتقدم الَّذِي قطعه عَنْهُ عذره، فأما صلاة الفذ فِي نفسها فلا يزيد تضعيفها عَلَى ضعف واحد من صلاة الجماعة، سواء كَانَ معذوراً أو غير معذور، ولهذا لَوْ كَانَ المصلي فذاً لَهُ عذر، ولم يكن لَهُ عادة بالصلاة فِي حال عدم العذر جماعة، لَمْ يكتب لَهُ سوى صلاةٍ واحدةٍ.

فإن قيل: يلزم من القول بوجوب الجماعة أن تكون شرطاً للصلاة، وأنْ لا تصح بدونها، كما قلتم فِي واجبات الصلاة كالتسبيح فِي الركوع والسجود، وأنه تبطل بتركه عمداً؛ لكونه واجباً، ولأن القاعدة: أن ارتكاب النهي فِي العبادة إذا كَانَ لمعنى مختص بِهَا أَنَّهُ يبطلها، مثل الإخلال بالطهارة والاستقبال، فكذلك الجماعة.

قيل: قَدْ اعترف طائفة من أصحابنا بأن القياس يقتضي كون الجماعة شرطاً، لما ذكر، لكن الإمام أحمد أخذ بالنصوص كلها، وهي دالة عَلَى وجوب الجمع، وعلى أنها ليست شرطاً، فعلم بذلك أَنَّهُ لا يرى أن كل ارتكاب نهي فِي العبادة يكون مبطلاً لها، وسواء كَانَ لمعنى مختص بِهَا كالجماعة، أو لمعنى غير مختص.

ولهذا؛ تبطل الصلاة بكشف العورة، وَهُوَ لمعنى غير مختص بالصلاة، وفي بطلانها فِي المكان المغضوب والثوب المغضوب والحرير عَنْهُ روايتان، وقد يجب فِي العبادات مَا لا تبطل بتركه، كواجبات الحج.

وما دلت عَلِيهِ الأحاديث من القول بوجوب الجماعة فِي الصلوات المكتوبات، وأنها تصحّ بدونها دليل واضح عَلَى بطلان قَوْلِ عَن قَالَ: إن النهي يقتضي الفساد بكل حال، أو أن ذَلِكَ يختص بالعبادات، أو أَنَّهُ يختص بما إذا كَانَ النهي لمعنى يختص
بالعبادة؛ فإن هَذَا كله غير مطرد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.