فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب احتساب الآثار

بَابُ
احْتِسَابِ الآثَارِ
[ قــ :636 ... غــ :655 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن حوشب: ثنا عَبْد الوهاب، قَالَ: حَدَّثَنِي حميد، عَن أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( يَا بني سَلَمَة، ألا تحتسبون آثاركم؟) ) .



[ قــ :636 ... غــ :656 ]
- وَقَالَ ابن أَبِي مريم: أنا يَحْيَى بْن أيوب: حَدَّثَنِي حميد: حَدَّثَنِي أَنَس، أن نبي سَلَمَة أرادوا أن يتحولوا عَن منازلهم فينزلوا قريباً من النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ: فكره النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعروا منازلهم، فَقَالَ: ( ( ألا تحتسبون آثاركم؟) ) .

قَالَ مُجَاهِد: خطاهم: آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم.

ساقه أولا من حَدِيْث عَبْد الوهاب الثَّقَفِيّ، عَن حميد مختصراً ثُمَّ ذكر من رِوَايَة يَحْيَى بْن أيوب المصري - وَهُوَ ثقة، لكنه كثير الوهم - مطولاً، وزاد فِيهِ تصريح حميد بالسماع لَهُ من أَنَس، فإن حميداً قَدْ قيل: إنه لَمْ يسمع من أَنَس إلا قليلاً، وأكثر رواياته عَنْهُ مرسلة، وقد سبق ذكر ذَلِكَ، وما قاله الإسماعيلي فِي تسامح المصريين والشامين فِي لفظه ( ( حَدَّثَنَا) ) وأنهم لا يضبطون ذَلِكَ.

وقد خرجه فِي ( ( كِتَاب الحج) ) من طريق الفزاري، عَن حميد، عَن أَنَس، قَالَ: أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رَسُول الله - رضي الله عنه - أن تعرى المدينة، فَقَالَ: ( ( يَا بني، ألا تحتسبون آثاركم؟) ) .

وبنو سَلَمَة: قوم من الأنصار، كَانَتْ دورهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بملازمة دورهم، وأخبرهم أن خطاهم يكتب لهم أجرها فِي المشي إلى المسجد.

وخرج مُسْلِم فِي ( ( صحيحه) ) من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، قَالَ: كَانَتْ دارنا نائيةً من المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( إن لكم بكل خطوةٍ درجة) ) .

ومن حَدِيْث أَبِي نضرة، عَن جابر، قَالَ: أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، والبقاع خالية.
قَالَ: فبلغ ذَلِكَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ( ( يَا بني سَلَمَة، دياركم تكتب آثاركم) ) .
فقالوا: مَا يسرنا أنا كنا تحولنا.

وقوله: ( ( دياركم) ) بفتح الراء عَلَى الإغراء، أي: الزموا دياركم.

وخرجه الترمذي من حَدِيْث أَبِي سُفْيَان السعدي، عَن أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد، قَالَ: كَانَتْ بنو سَلَمَة فِي ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فَنَزَلت هذه الآية: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 1] ، فقام رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إن آثاركم تكتب) ) ، فَلَمْ ينتقلوا.

وأبو سُفْيَان، فِيهِ ضعف.

والصحيح: رِوَايَة مسلمٍ، عَن أَبِي نضرة، عَن جابر، وكذا قاله الدارقطني وغيره.

وخرج ابن ماجه من رِوَايَة سماك، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: كَانَتْ الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقربوا، فَنَزَلت: { نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
قَالَ: فثبتوا.

وقد ذكر البخاري عَن مُجَاهِد، أَنَّهُ فسر الآثار - يعني: فِي هذه الآية - بالخُطا، وزاد - أيضاً - بقوله: آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم.

وفي حَدِيْث أَنَس: فكره رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعروا المدينة أو منازلهم.

يعني: يخلوها فتصير عراةً من الأرض.

والعراء: الفضاء الخالي من الأرض، ومنه: قوله تعالى: { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}
[الصافات: 145] .

وروى يَحْيَى بْن سَعِيد الأنصاري هَذَا الحَدِيْث، عَن حميد، عَن أَنَس،.

     وَقَالَ : فكره أن يعروا المسجد.

قَالَ الإمام أحمد وهم فِيهِ.
إنما هُوَ: كره أن يعروا المدينة.

وقد دلت هذه الأحاديث عَلَى أن المشي إلى المساجد يكتب لصاحبه أجرهُ، وهذا مِمَّا تواترت السنن بِهِ.

وقد سبق حَدِيْث أَبِي موسى: ( ( أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى) ) .

وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،: ( ( وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة) ) .

وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر.

وسبق - أيضاً - حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وفي ( ( المسند) ) و ( ( سنن أَبِي داود) ) وابن ماجه، عَن عَبْد الرحمن بْن سعد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً) ) .

وفي ( ( صحيح مُسْلِم) ) عَن أَبِي بْن كعب، قَالَ: كَانَ رَجُل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد مِنْهُ، وكان لا تخطئه صلاة.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ - أو قُلتُ لَهُ -: لَوْ اشتريت حماراً تركبه فِي الظلماء أو الرمضاء؟ قَالَ: مَا يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي.
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( قَدْ جمع الله لَكَ ذَلِكَ كله) ) .

وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً -: فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إن لَكَ مَا احتسبت) ) .

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ ثياب عَلَى المشي فِي رجوعه من المسجد إلى منزله.

وفي ( ( المسند) ) و ( ( صحيح ابن حبان) ) عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( من راح إلى المسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهباً وراجعاً) ) .

وهذا المطلق قَدْ ورد مقيداً فِي حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخري فيما مضى.

وسيأتي بقيدين:
أحدهما: أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله.
أن لا يخرج إلا إلى الصلاة فِي المسجد، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاص.

وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر، لكنه يكتب لَهُ بذلك أجر، غير أن هَذَا الأجر الخاص - وهو رفع الدرجات وتكفير السيئات - لا يحصل بذلك.

وأعلم أن الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل.

وفي ( ( المسند) ) بإسناد منقطع، عَن حذيفة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( فضل الدار القريبة من المسجد عَلَى الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد) ) .