فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة؟

باب
كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة
[ قــ :802 ... غــ :824 ]
- حدثنا معلى بن أسد: حدثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم ولا أريد
الصلاة، لكني أريد أن أريكم كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي.

قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة.

قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض، ثم قام.

هذه الرواية ليست صريحة في رفع الاعتماد على الأرض بخصوصه؛ لان فيها أن صلاة عمرو بن سلمة مثل صلاة مالك بن الحويرث، وصلاة مالك مثل صلاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس ذلك تصريحاً برفع جميع حركات الصلاة، فان الممائلة تطلق كثيراً ولا يراد بها التماثل من كل وجه، بل يكتفي فيها بالممائلة من بعض الوجوه، أو أكثرها.

لكن رواية الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة – بنحوه، وقال فيه: كان مالك إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، فاستوى قاعداً قام واعتمد على الأرض.

خرّجه النسائي وغيره.

وقد اختلف العلماء في القائم إلى الركعة الثانية من صلاة: كيف يقوم؟ فقالت طائفة: يعتمد بيديه على الأرض، كما في حديث مالك بن الحويرث هذا.

وروي عن عطاء، وقال: يتواضع لله عز وجل.

وهو من رواية ابن لهيعة، عنه.

وهو قول مالك والشافعي وإسحاق.

وروي عن أحمد، أنه كان يفعله، وتأوله القاضي أبو يعلى وغيره على أنه فعله لعجز وكبر.

وقد روي عن كثير من السلف، أنه يعتمد على يديه في القيام إلى الركعة
الثانية، منهم: عمر وعبادة بن نسي وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري – وقال: هو سنة الصلاة -، وهو قول إلاوزاعي وغيره، ورخص فيه قتادة.

وقالت طائفة: ينهض على صدور قدميه، ولا يعتمد على يديه، بل يضعهما على ركبتيه، صح ذلك عن ابن مسعود، وروي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، أنه قال: هو من سنة الصلاة، وعن ابن عمر –أيضاً - وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد.

وحكى ابن المنذر عن أحمد الاعتماد على يديه، وهو خلاف مذهبه المعروف
عنه.

وإلاكثرون على أنه لا تلازم بين الجلسة والاعتماد، فقد كان من السلف من يعتمد ولا يجلس للاستراحة، منهم: عبادة بن نسي، وحكاه عن أبي ريحانة الصحابي.

وهذا مذهب أصحاب الشافعي وأحمد؛ فان أصحاب الشافعي قالوا: يعتمد، سواء قلنا: يجلس للاستراحة أو قلنا لا يجلس.
وقال أصحاب أحمد: لا يعتمد، سواء قلنا: يجلس، أو قلنا: لا يجلس، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على أنه فعل الاعتماد لحاجته أليه: لضعف أو كبر ونحو ذلك.

ولا يبعد إذا قلنا: إن جلسة الاستراحة فعلها تشريعاً للأمة، أن يكون الاعتماد فعله كذلك.

وكلام أحمد في رواية ابنه عبد الله وغيره من أصحابه يدل على تلازم الجلسة والاعتماد، فيحتمل أن يقال: أن قلنا: يجلس للاستراحة اعتمد على الأرض، لا سيما إن فعل ذلك لعجز أو كبر، وإن نهض من غير جلوس نهض على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه.

ويدل على ذلك: أن أحمد استدل على النهوض على صدور القدمين بحديث رفاعة بن رافع وحديث أبي حميد المتقدمين، وفيهما: ذكر القيام بعد السجدتين، من غير ذكر النهوض على صدور القدمين، فدل على أنه يرى تلازم الأمرين، وأنه يلزم من ترك جلسة الاستراحة النهوض على صدور القدمين.

وقد روى الهيثم، عن عطية بن قيس بن ثعلبة، عن الازرق بن قيس، قال: رأيت ابن عمر وهو يعجن في الصلاة يعتمد على يديه إذا قام، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجن في الصلاة –يعني: يعتمد.

خرّجه الطبراني في ( ( أوسطه) ) .

والهيثم هذا، غير معروف.

وقال بعضهم: العاجن، هو الشيخ الكير الذي يعتمد إذا قام ببطن يديه، ليس هو عاجن العجين.

وفي النهوض على صدور القدمين أحاديث مرفوعة، أسانيدها ليست قوية، أجودها: حديث مرسل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه.

وقد خرّجه أبو داود بالشك في وصله وإرساله.

والصحيح: إرساله جزماً.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *