فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب التشهد في الآخرة
باب
التشهد في الآخرة
يعني: في الجلسة الأخيرة في الصلاة
[ قــ :809 ... غــ :831 ]
- حدثنا أبو نعيم: ثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله: كنا إذا صلينا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان السلام على فلان، فالتفت إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن الله هو السلام)) فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله عز وجل صالح في السماء وإلا رض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) .
وإنما خص البخاري هذا الحديث بالتشهد الأخير.
لأنه روي في آخره الأمر بالتخيير من الدعاء، كما سيأتي، والدعاء يختص بالأخير، ولكن المراد بالتشهد الأخير: كل تشهد يسلم منه، سواء كان تشهد آخر أم لا.
وخرج الإمام أحمد والنسائي حديث ابن مسعود بلفظ آخر وهو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله)) - فذكره وقال في آخره:
((ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع به ربه عز وجل)) .
وهذا اللفظ صريح في أنه يتشهد بهذا التشهد في كل ركعتين يسلم منهما.
وخرّجه الترمذي والنسائي - أيضاً بلفظ آخر وهو: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: ((التحيات لله)) - فذكره، ولم يذكر بعده الدعاء.
وخرّجه الإمام أحمد بلفظ، وهو: علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - وذكر الحديث، وقد سبق ذكر إسناده، وقال في آخره: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.
وهذه الرواية صريحة في أنه يتشهد به في التشهد الأول وإلاخر.
وخرّجه النسائي بلفظ آخر، وهو: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: ((قولوا في كل جلسة: التحيات لله)) - فذكره.
وهذا يشمل الجلوس الأول والثاني.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن الله هو السلام)) إنما قاله نهياً لهم على أن يقولوا: ((السلام على الله من عباده)) ، وكانوا يقولون ذلك، ثم يسلمون على جبريل وميكائيل وغيرهما.
وقد خرّج البخاري في رواية أخرى، يأتي ذكرهما - إن شاء الله تعالى ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعادة الصلوات التي قالوا فيها ذلك، واستدل بذلك على أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة؛ فإن هذا الكلام منهيٌ عنه في الصلاة وغيرها؛ فإن الله تعالى هو السلام؛ لأنه القدوس بالمبدأ من الآفات والنقائص كلها، وذلك واجب له لذاته، ومنه يطلب السلامة لعباده؛ فإنهم محتاجون إلى السلامة من عقابه وسخطه وعذابه.
وفي قولهم هذا الكلام قبل أن يعلموا التحيات: دليل على أنهم رأوا أن المنصرف من صلاته لا ينصرف حتى يحيي الله تعالى وخواص عباده بعده، ثم ينصرف، ثم يسلم؛ لأن المصلي يناجي ربه ما دام يصلي، فلا ينصرف حتى يختم مناجاته بتحية تليق به، ثم يحيي خواص خلقه، ثم يدعو لنفسه، ثم يسلم على الحاضرين معه، ثم ينصرف.
وقد أقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قصدوه من ذلك، لكنه أمرهم أن يبدلوا قولهم:
((السلام على الله)) ، بقولهم: ((التحيات لله)) .
والتحيات: جمع تحية، وفسرت التحية بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وفسرت بالسلامة؛ والمعنى: أن السلامة من الآفات ثابت لله، واجب له لذاته.
وفسرت بالعظمة، وقيل: إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه، وهو أحسن.
قال ابن قتيبة: إنما قيل ((التحيات)) بالجمع؛ لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها، فقيل لهم: ((قولوا: التحيات لله)) أي: أن ذلك يستحقه الله وحده.
وقوله: ((والصلوات)) فسرت بالعبادات جميعها، وقد روي عن طائفة من المتقدمين: أن جميع الطاعات صلاة، وفسرت الصلوات هاهنا بالدعاء، وفسرت بالرحمة، وفسرت بالصلوات الشرعية، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] وقوله: ((والطيبات)) ، فسرت بالكلمات الطيبات، كما في قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر 10] فالمعنى: إن ما كان من كلام فإنه لله، يثنى به عليه ويمجد به.
وفسرت ((الطيبات)) بالاعمال الصالحة كلها؛ فإنها توصف بالطيب، فتكون كلها لله بمعنى: أنه يعبد بها ويتقرب بها إليه.
فهذا جعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدل قوله: ((السلام على الله)) وأما سلامهم على جبريل وميكائيل وفلان وفلان من خواص الخلق، فأقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذكر السلام؛ لأن الخلق كلهم يطلب السلام من الله.
وفي تفسير ((السلام على فلان)) قولان:
أحدهما: أن المراد بالسلام اسم الله - يعني: فكأنه يقول: اسم الله عليك.
أن المراد: سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق؛ لأن هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
والسلام على النبي بلفظ: ((السلام عليك أيها النبي)) ، وهكذا في سائر الروايات؛ ولذلك كان عمر يعلم الناس في التشهد على المنبر بمحضر من الصحابة.
وقد اختار بعضهم أن يقال بعد زمان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((السلام على النبي)) ، وقد ذكر البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) أنهم كانوا يسلمون على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته في التشهد كذلك، وهو رواية عن ابن عمر وعائشة.
ثم عطف على ذكر السلام على النبي: ((ورحمة الله وبركاته)) ، وهذا مطابق لقول الملائكة لإبراهيم عليه سلام: { رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} [هود: 73] ويستدل بذلك على جواز الدعاء بالرحمة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه اختلاف بين العلماء.
ثم أمرهم بعد ذلك بأن يقولوا: ((السلام علينا)) والضمير عائد على المصلي نفسه، وعلى من حضره من الملائكة والمصلين وغيرهم.
وفي هذا مستند لمن أستجب لمن يدعوه لغيره أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبله، وهو قول علماء الكوفة، وخالفهم آخرون، وقد أطال الاستدلال لذلك في ((كتاب
الدعاء)) من ((صحيحه)) هذا، ويأتي - أن شاء الله تعالى - في موضعه بتوفيق الله وعونه.
وقوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)) هو كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض)) .
فيعني ذلك عن تعيين أسمائهم؛ فإن حصرهم لا يمكن، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرّج النسائي حديث ابن مسعود في التشهد، ولفظه: قال عبد الله: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوامع الكلم: ((التحيات لله)) – فذكره.
وفي رواية أخرى له: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فواتح الكلم وخواتمه، فقال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات الله)) - فذكره.
ثم أمرهم أن يختموه بالشهادتين، فيشهدون لله بتفرده بإلالهية، ويشهدون لمحمد بالعبودية والرسالة؛ فإن مقام العبودية أشرف مقامات الخلق؛ ولهذا سمى الله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشرف مقاماته وأعلاها بالعبودية، كما قال تعالى في صفة ليلة الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وقال: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:
10] .
وقال في حقه في مقام الدعوة: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ،
وقال: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] .
ولهذا المعنى لما سلّم على الصالحين في هذا التشهد سماهم: ((عبادا الله)) ، والصالحون هم القائمون بما لله عليهم من الحقوق له ولخلقه، وإنما سمي التشهد تشهداً لختمه بالشهادتين.
ولم يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد من روايات أخر فيها بعض المخالفة لحديث ابن مسعود بزيادة ونقص، وقد خرج مسلم منها حديث ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وإسحاق.
وحديث أبي موسى فيه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله)) ، وباقيه كتشهد ابن مسعود.
وحديث ابن عباس فيه: ((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود، غير أن في آخره: ((وأشهد أن محمداً رسول الله)) .
وكل ما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التشهدات، فإنه يصح الصلاة به، حكى طائفة الإجماع على ذلك، لكن اختلفوا في أفضل التشهدات:
فذهب إلاكثرون إلى ترجيح تشهد ابن مسعود، وتفضيله، والأخذ به وقد روى ابن عمر، أن أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكتاب، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود.
خرّجه ابن أبي شيبة.
وروى - أيضاً - نحوه عن أبي سعيد الخدري وغيره، وهو قول علماء العراق من أهل الكوفة والبصرة، من التابعين ومن بعدهم.
قال أبو إسحاق، عن الأسود: رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله، كما يتعلم السورة من القرآن.
وقال إبراهيم، عن الأسود: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران، يأخذ علينا الألف والواو.
وقال إبراهيم: كانوا يتحفظون هذا التشهد - تشهد عبد الله - ويتبعونه حرفاً حرفاً.
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأنه قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث.
وروي عن خصيف قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقلت: يا رسول الله، اختلف علينا في التشهد: فقال: ((عليك بتشهد ابن مسعود)) .
وقد نص أحمد على أنه لو تشهد بغيره بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يجزئه.
وذكر القاضي أبو يعلى: أن كلام أحمد في التشهد بما روي عن الصحابة، كعمر أو غيره: هل يجزئ، أو لا؟ - محتمل، والأظهر: أنه يجزئ.
وقد روي عن علي وابن عمر وعائشة تشهدت أخر.
وقد نص إسحاق على جواز التشهد بذلك كله -: نقله حرب ومن أصحابنا من قال: يجب التشهد بتشهد ابن مسعود، ولا يجزئ أن يسقط منه واواً ولا الفاً.
وهذا خلاف أحمد.
والمحققون من أصحابنا على أنه يجوز التشهد بجميع أنواع التشهدات المروية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نص عليه أحمد.
وقال طائفة، منهم: القاضي أبو يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) : إذا أسقط من التشهد ما هو ساقط في بعض الروايات دون بعض صحت صلاته، وإن أسقط ما هو ساقط في جميعها لم تصح.
وقيل لأحمد: لو قال في تشهده: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)) :
هل يجزئه؟ قالَ: أرجو.
وقد ورد مثل ذَلِكَ في بعض روايات حديث أبي موسى، وهو في بعض نسخ
((صحيح مسلم)) ، وهي رواية لأبي دواد والنسائي.
والأفضل عند الشافعي: التشهد بتشهد ابن عباس، الذي نقله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرّجه مسلم، وهو قول الليث بن سعد.
والأفضل عن مالك تشهد عمر بن الخطاب، وقد ذكره في ((الموطأ)) موقوفاً على عمر، أنه كان يعلمه الناس على المنبر يقول: قولوا: ((التحيات لله، الزاكيات
لله، الصلوات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود وإليه ذهب الزهري ومعمر.
وقد روى عن عمر مرفوعاً من وجوه لا تثبت، والله أعلم.
وطائفة مم علماء الأندلس اختاروا تشهد ابن مسعود، وكان يقال عنه: أنه لم يكن بالاندلس من اجتمع له علم الحديث والفقه أحد قبله مثله.
وقد روي من حديث سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد حرفاً حرفاً - فذكر مثل حديث تشهد ابن مسعود سواء، قال: ثم قال: ((قلها يا سلمان في صلاتك، ولا تزد فيها حرفاً، ولا تنتقص منها حرفاً)) .
خرّجه البزار في ((مسنده)) وفي إسناده ضعف.
والله أعلم.
* * *
التشهد في الآخرة
يعني: في الجلسة الأخيرة في الصلاة
[ قــ :809 ... غــ :831 ]
- حدثنا أبو نعيم: ثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله: كنا إذا صلينا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان السلام على فلان، فالتفت إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن الله هو السلام)) فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله عز وجل صالح في السماء وإلا رض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) .
وإنما خص البخاري هذا الحديث بالتشهد الأخير.
لأنه روي في آخره الأمر بالتخيير من الدعاء، كما سيأتي، والدعاء يختص بالأخير، ولكن المراد بالتشهد الأخير: كل تشهد يسلم منه، سواء كان تشهد آخر أم لا.
وخرج الإمام أحمد والنسائي حديث ابن مسعود بلفظ آخر وهو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله)) - فذكره وقال في آخره:
((ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع به ربه عز وجل)) .
وهذا اللفظ صريح في أنه يتشهد بهذا التشهد في كل ركعتين يسلم منهما.
وخرّجه الترمذي والنسائي - أيضاً بلفظ آخر وهو: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: ((التحيات لله)) - فذكره، ولم يذكر بعده الدعاء.
وخرّجه الإمام أحمد بلفظ، وهو: علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - وذكر الحديث، وقد سبق ذكر إسناده، وقال في آخره: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.
وهذه الرواية صريحة في أنه يتشهد به في التشهد الأول وإلاخر.
وخرّجه النسائي بلفظ آخر، وهو: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: ((قولوا في كل جلسة: التحيات لله)) - فذكره.
وهذا يشمل الجلوس الأول والثاني.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن الله هو السلام)) إنما قاله نهياً لهم على أن يقولوا: ((السلام على الله من عباده)) ، وكانوا يقولون ذلك، ثم يسلمون على جبريل وميكائيل وغيرهما.
وقد خرّج البخاري في رواية أخرى، يأتي ذكرهما - إن شاء الله تعالى ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعادة الصلوات التي قالوا فيها ذلك، واستدل بذلك على أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة؛ فإن هذا الكلام منهيٌ عنه في الصلاة وغيرها؛ فإن الله تعالى هو السلام؛ لأنه القدوس بالمبدأ من الآفات والنقائص كلها، وذلك واجب له لذاته، ومنه يطلب السلامة لعباده؛ فإنهم محتاجون إلى السلامة من عقابه وسخطه وعذابه.
وفي قولهم هذا الكلام قبل أن يعلموا التحيات: دليل على أنهم رأوا أن المنصرف من صلاته لا ينصرف حتى يحيي الله تعالى وخواص عباده بعده، ثم ينصرف، ثم يسلم؛ لأن المصلي يناجي ربه ما دام يصلي، فلا ينصرف حتى يختم مناجاته بتحية تليق به، ثم يحيي خواص خلقه، ثم يدعو لنفسه، ثم يسلم على الحاضرين معه، ثم ينصرف.
وقد أقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قصدوه من ذلك، لكنه أمرهم أن يبدلوا قولهم:
((السلام على الله)) ، بقولهم: ((التحيات لله)) .
والتحيات: جمع تحية، وفسرت التحية بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وفسرت بالسلامة؛ والمعنى: أن السلامة من الآفات ثابت لله، واجب له لذاته.
وفسرت بالعظمة، وقيل: إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه، وهو أحسن.
قال ابن قتيبة: إنما قيل ((التحيات)) بالجمع؛ لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها، فقيل لهم: ((قولوا: التحيات لله)) أي: أن ذلك يستحقه الله وحده.
وقوله: ((والصلوات)) فسرت بالعبادات جميعها، وقد روي عن طائفة من المتقدمين: أن جميع الطاعات صلاة، وفسرت الصلوات هاهنا بالدعاء، وفسرت بالرحمة، وفسرت بالصلوات الشرعية، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] وقوله: ((والطيبات)) ، فسرت بالكلمات الطيبات، كما في قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر 10] فالمعنى: إن ما كان من كلام فإنه لله، يثنى به عليه ويمجد به.
وفسرت ((الطيبات)) بالاعمال الصالحة كلها؛ فإنها توصف بالطيب، فتكون كلها لله بمعنى: أنه يعبد بها ويتقرب بها إليه.
فهذا جعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدل قوله: ((السلام على الله)) وأما سلامهم على جبريل وميكائيل وفلان وفلان من خواص الخلق، فأقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذكر السلام؛ لأن الخلق كلهم يطلب السلام من الله.
وفي تفسير ((السلام على فلان)) قولان:
أحدهما: أن المراد بالسلام اسم الله - يعني: فكأنه يقول: اسم الله عليك.
أن المراد: سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق؛ لأن هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
والسلام على النبي بلفظ: ((السلام عليك أيها النبي)) ، وهكذا في سائر الروايات؛ ولذلك كان عمر يعلم الناس في التشهد على المنبر بمحضر من الصحابة.
وقد اختار بعضهم أن يقال بعد زمان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((السلام على النبي)) ، وقد ذكر البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) أنهم كانوا يسلمون على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته في التشهد كذلك، وهو رواية عن ابن عمر وعائشة.
ثم عطف على ذكر السلام على النبي: ((ورحمة الله وبركاته)) ، وهذا مطابق لقول الملائكة لإبراهيم عليه سلام: { رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} [هود: 73] ويستدل بذلك على جواز الدعاء بالرحمة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه اختلاف بين العلماء.
ثم أمرهم بعد ذلك بأن يقولوا: ((السلام علينا)) والضمير عائد على المصلي نفسه، وعلى من حضره من الملائكة والمصلين وغيرهم.
وفي هذا مستند لمن أستجب لمن يدعوه لغيره أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبله، وهو قول علماء الكوفة، وخالفهم آخرون، وقد أطال الاستدلال لذلك في ((كتاب
الدعاء)) من ((صحيحه)) هذا، ويأتي - أن شاء الله تعالى - في موضعه بتوفيق الله وعونه.
وقوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)) هو كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض)) .
فيعني ذلك عن تعيين أسمائهم؛ فإن حصرهم لا يمكن، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرّج النسائي حديث ابن مسعود في التشهد، ولفظه: قال عبد الله: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوامع الكلم: ((التحيات لله)) – فذكره.
وفي رواية أخرى له: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فواتح الكلم وخواتمه، فقال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات الله)) - فذكره.
ثم أمرهم أن يختموه بالشهادتين، فيشهدون لله بتفرده بإلالهية، ويشهدون لمحمد بالعبودية والرسالة؛ فإن مقام العبودية أشرف مقامات الخلق؛ ولهذا سمى الله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشرف مقاماته وأعلاها بالعبودية، كما قال تعالى في صفة ليلة الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وقال: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:
10] .
وقال في حقه في مقام الدعوة: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ،
وقال: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] .
ولهذا المعنى لما سلّم على الصالحين في هذا التشهد سماهم: ((عبادا الله)) ، والصالحون هم القائمون بما لله عليهم من الحقوق له ولخلقه، وإنما سمي التشهد تشهداً لختمه بالشهادتين.
ولم يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد من روايات أخر فيها بعض المخالفة لحديث ابن مسعود بزيادة ونقص، وقد خرج مسلم منها حديث ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وإسحاق.
وحديث أبي موسى فيه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله)) ، وباقيه كتشهد ابن مسعود.
وحديث ابن عباس فيه: ((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود، غير أن في آخره: ((وأشهد أن محمداً رسول الله)) .
وكل ما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التشهدات، فإنه يصح الصلاة به، حكى طائفة الإجماع على ذلك، لكن اختلفوا في أفضل التشهدات:
فذهب إلاكثرون إلى ترجيح تشهد ابن مسعود، وتفضيله، والأخذ به وقد روى ابن عمر، أن أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكتاب، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود.
خرّجه ابن أبي شيبة.
وروى - أيضاً - نحوه عن أبي سعيد الخدري وغيره، وهو قول علماء العراق من أهل الكوفة والبصرة، من التابعين ومن بعدهم.
قال أبو إسحاق، عن الأسود: رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله، كما يتعلم السورة من القرآن.
وقال إبراهيم، عن الأسود: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران، يأخذ علينا الألف والواو.
وقال إبراهيم: كانوا يتحفظون هذا التشهد - تشهد عبد الله - ويتبعونه حرفاً حرفاً.
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأنه قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث.
وروي عن خصيف قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقلت: يا رسول الله، اختلف علينا في التشهد: فقال: ((عليك بتشهد ابن مسعود)) .
وقد نص أحمد على أنه لو تشهد بغيره بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يجزئه.
وذكر القاضي أبو يعلى: أن كلام أحمد في التشهد بما روي عن الصحابة، كعمر أو غيره: هل يجزئ، أو لا؟ - محتمل، والأظهر: أنه يجزئ.
وقد روي عن علي وابن عمر وعائشة تشهدت أخر.
وقد نص إسحاق على جواز التشهد بذلك كله -: نقله حرب ومن أصحابنا من قال: يجب التشهد بتشهد ابن مسعود، ولا يجزئ أن يسقط منه واواً ولا الفاً.
وهذا خلاف أحمد.
والمحققون من أصحابنا على أنه يجوز التشهد بجميع أنواع التشهدات المروية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نص عليه أحمد.
وقال طائفة، منهم: القاضي أبو يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) : إذا أسقط من التشهد ما هو ساقط في بعض الروايات دون بعض صحت صلاته، وإن أسقط ما هو ساقط في جميعها لم تصح.
وقيل لأحمد: لو قال في تشهده: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)) :
هل يجزئه؟ قالَ: أرجو.
وقد ورد مثل ذَلِكَ في بعض روايات حديث أبي موسى، وهو في بعض نسخ
((صحيح مسلم)) ، وهي رواية لأبي دواد والنسائي.
والأفضل عند الشافعي: التشهد بتشهد ابن عباس، الذي نقله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرّجه مسلم، وهو قول الليث بن سعد.
والأفضل عن مالك تشهد عمر بن الخطاب، وقد ذكره في ((الموطأ)) موقوفاً على عمر، أنه كان يعلمه الناس على المنبر يقول: قولوا: ((التحيات لله، الزاكيات
لله، الصلوات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود وإليه ذهب الزهري ومعمر.
وقد روى عن عمر مرفوعاً من وجوه لا تثبت، والله أعلم.
وطائفة مم علماء الأندلس اختاروا تشهد ابن مسعود، وكان يقال عنه: أنه لم يكن بالاندلس من اجتمع له علم الحديث والفقه أحد قبله مثله.
وقد روي من حديث سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد حرفاً حرفاً - فذكر مثل حديث تشهد ابن مسعود سواء، قال: ثم قال: ((قلها يا سلمان في صلاتك، ولا تزد فيها حرفاً، ولا تنتقص منها حرفاً)) .
خرّجه البزار في ((مسنده)) وفي إسناده ضعف.
والله أعلم.
* * *