فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب التسليم

باب
التسليم
[ قــ :814 ... غــ :837 ]
- حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، أن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم.

قال ابن ئهاب: فأرى –والله أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم.

المقصود من هذا الحديث: ذكر تسليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة، وتسليمه من الصلاة مذكور في أحاديث كثيرة جداً، قد سبق بعضها، ويأتي بعضها، كمثل حديث ابن بحينة في قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الثنتين ولم يجلس، ومثل حديث عمران بن حصين حين صلى خلف علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما -، ومثل حديث أبي هريرة في سلام
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اثنتين، وكلام ذي اليدين له، وحديث ابن مسعودٍ في سجود السهو –أيضاً.

والاحاديث في ذلك كثيرة جداً.

ولعله ذكر هاهنا هذا الحديث لما ذكر فيه من قيام النساء حين يقضي تسلميه؛ فإن هذا الكلام يشعر بإنه كانَ يسلم تسليمتين، فإذا قضاهما قام النساء، فإنه لا يقال: ( ( قضى الله) ) بمعنى الفراغ منه إلا فيما لهُ أجزاء متعددة تنقضي شيئاً فشيئاً، كما قالَ تعالى: { فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء:103] ، { ? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}
[الجمعة:10] ، { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] .

وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيطان وهربه من الأذان والتثويب به: ( ( فإذا قضي الأذان –وإذا قضي التثويب –أقبل) ) .

ولا يكاد يقال لمن سلم على قومٍ مرة: قضى سلامه، بمعنى فرغ، ولا لمن كبر للإحرام: قضى تكبيره، ولا لمن عطس فحمد الله: قضى حمده.

ولم يخرج البخاري الأحاديث المصرحة بتسليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمتين عن يمينه وشماله في الصلاة شيئاً، ولعله كان يميل إلى قول من يقول بالتسليمة الواحدة، وقد كان شيخه ابن المديني يميل إلى ذلك، متابعة لشيوخه البصريين.

وخَّرج مسلم في ( ( صحيحه) ) من أحاديث التسليمتين عدة أحاديث:
منها: حديث مجاهد، عن أبي معمر، أن أميراً كان يسلم تسليمتين بمكة، فقال – يعني: ابن مسعودٍ -: أنى علقها، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله.

وقد اختلف في رفعه ووقفه، وخَّرجه مسلم بالوجهتين.

وخرّج –أيضاً - من حديث سعد بن أبي وقاصٍ، قال: كنت أرى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده.

وهو من رواية عبد الله بن جعفرٍ المخرمي، ولم يخرج له البخاري.

وخرّج –أيضاً - من حديث عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله) ) .

وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه وعن يساره: ( ( السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) ) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وفي روايةٍ لهم: حتى يرى بياض خده.

وخرّجه الترمذي بدون ذلك، وصححه.

وخرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما) ) والحاكم وصححه.

وصححه العقيلي، وقال: الأحاديث صحاح ثابتةٌ من حديث ابن مسعودٍ في تسليمتين.

وفي رواية للنسائي: ورأيت أبا بكرٍ وعمر يفعلان ذلك.
قد اختلف في إسناده على أبي إسحاق على أقوالٍ كثيرةٍ، وفي رفعه ووقفه، وكان شعبةُ ينكر أن يكون مرفوعاً.

وروى عمرو بن يحيى المازني، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، أنه سأل ابن عمر عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف كانت؟ قال: ( ( الله أكبر) ) ، كلما وضع ورفع، ثم يقول: ( ( السلام عليكم ورحمه الله) ) عن يمينه، ( ( السلام عليكم ورحمه الله) ) عن يساره.

خَّرجه الإمام أحمد والنسائي.

وهذا إسناد جيد.

قال ابن عبد البر: هو إسناد مدني صحيح، إلا أنه يعلل بأن ابن عمر كان يسلم تسليمةً واحدةً، فكيف يروي هذا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يخالفه؟
وقد ذكر البيهقي أنه اختلف في إسناده، لكنه رجح صحته.

ورواه –أيضاً - بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً - أيضاً.
قال أبو حاتم: هو منكر.

وقال الدارقطني: اختلف على بقية في لفظه: روي أنه كان يسلم تسليمتين، وروي تسليمةً واحدةً، وكلها غير محفوظةٍ.

وقال الأثرم: هو حديث واهٍ، وابن عمر كان يسلم واحدةً، قد عرف ذلك عنه من وجوهٍ، والزهري كان ينكر حديث التسليمتين، ويقول: ما سمعنا بهذا.

وروي –أيضاً - من حديث حميدٍ الساعدي، أنه لما وصف صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سلم عن يمينه وشماله.

خرّجه أبو داود من رواية الحسن بن الحر: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالكٍ، عن محمد بن عمرة وابن عطاءٍ، عن عباس بن سهلٍ، عنه.

وقد سبق الكلام على هذا الإسناد.

وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيد غالبها من كلام.

وقد قال الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: ثبت عندنا، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ، أنه كان يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده.

وقال العقيلي: الأحاديث الصحاح عن ابن مسعودٍ وسعد بن أبي وقاص وغيرهما في تسليمتين.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يسلم تسليمةً واحدةً من وجوهٍ لا يصح منها شيء -: قاله ابن المديني والأثرم والعقيلي وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التسليمة الواحدة إلا حديثاً مرسلاً لابن شهابٍ الزهري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
انتهى.

ومرسيل ابن شهابٍ من أوهى المراسيل وأضعفها.

ومن أشهرها: حديث زهير بن محمدٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن
عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً.

خرّجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير، به.

وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من من هذا الوجه.
قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه.

وخرّجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير، به، مختصراً.

وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

وأخطأ فيما قال؛ فإن روايات الشاميين عن زهيرٍ مناكير عند أحمد ويحيى بن معينٍ والبخاري وغيرهم.

قال أحمد –في رواية الأثرم -: أحاديث التنيسي عن زهيرٍ بواطيل.
قال: وأظنٌّه قال: موضوعةٌ.
قال: فذكرت له هذا الحديث في التسليمة الواحدة.
فقال: مثلُ هذا.

وذكر ابن عبد البر: أن يحيى بن معين سئل عن هذا الحديث، فضعفه.

وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر، إنما هو عن عائشة –موقوفٌ.

وكذا رواه وهيب بن خالد، عن هشام.

وكذا رواه الوليد بن مسلمٍ عن زهير بن محمدٍ، عن هشامٍ، عن أبيه –موقوفاً.

قال الوليد: فقلت لزهيرٍ: فهل بلغك عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم تسليمةً واحدةً.

قال العقيلي: حديث الوليد أولى.

يعني: من حديث عمرو بن أبي سلمة.

قال: وعمرو في حديثه وهم.
قال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وهم.

وخرج النسائي من حديث سعد بن هشامٍ، عن عائشة في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، أنه كان يسلم تسليمةً يسمعنا.

وخَّرجه الإمام أحمد، ولفظه: يسلم تسليمةً واحدةً: ( ( السلام عليكم) ) يرفع بها صوته، حتى يوقظنا.

وقدحمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة، ويسر الثانية.

وروي عبد الوهاب الثقفي، عن حميدٍ، عن أنسٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة.
خَّرجه الطبراني والبيهقي.

ورفعه خطأ، إنما هو موقوف، كذا رواه أصحاب حميدٍ، عنه، عن أنسٍ، من فعله.

وروى جرير بن حازمٍ، عن أيوب، عن أنسٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكرٍ وعمر كانوا يسلمون تسليمةً واحدةً.

خَّرجه البزار في ( ( مسنده) ) .

وأيوب، رأى أنساً، ولم يسمع منه -: قاله أبو حاتمٍ.

وقال الأثرم: هذا حديث مرسل، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله يقول: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب.

وروى روح بن عطاء بن أبي ميمونة: ثنا أبي، عن الحسن، عن سمرة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره.

خَّرجه الدارقطني والعقيلي والبيهقي وغيرهم، وخَّرجه بقي بن مخلدٍ مختصراً.

وروح هذا، ضعفه ابن معين وغيره، وقال الأثرم: لا يحتج به.

وفي الباب أحاديث أخر لا تقوم بها حجة، لضعف أسانيدها.
وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك: فمنهم من كان يسلم ثنتين، ومنهم من كان يسلم واحدةً.

قال عمار بن أبي عمارٍ: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، ومسجد المهاجرين يسلمون تسليمةً واحدةً.

وأكثر أهل العلم على التسليمتين.

وممن روي عنه ذلك من الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعودٍ وعمار وسهل بن سعدٍ ونافع بن عبد الحارث.

وروي عن عطاءٍ والشعبي وعلقمة ومسروقٍ وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمرو بن ميمونٍ وأبي وائلٍ وأبي عبد الرحمن السلمي.

وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ، وحكي عن الأوزاعي.

وروي التسليمة الواحدة عن ابن عمر وأنسٍ وعائشة وسلمة بن الأكوع، وروى عن عثمان وعليً –أيضاً -، وعن الحسن وابن سيرين وعطاءٍ –أيضاً – وعمر بن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالكٍ والاوزاعي والليث.

وهو قول قديم للشافعي.

وحكاه أحمد عن أهل المدينة، وقال: ما كانوا يسلمون إلا واحدةً.
قال: وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشمٍ.

يعني: في ولاية بني العباس.

وقال الليث: أدركت الناس يسلمون تسليمةً واحدةً.

وقد اختلف على كثيرٍ من السلف في ذلك، فروى عنهم التسليمتان، وروي عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليلٌ على أن ذلك كان عندهم سائغاً، وإن كان بعضه أفضل من بعضٍ، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.

وحكي للشافعي قولٌ ثالثٌ قديمٌ –أيضاً -، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذٍ جديداً -: أنه إن كان المصلي منفرداً أو في جماعةٍ قليلةٍ ولا لغط عندهم فتسليمةٌ واحدةٌ، وإلا فتسليمتان.

والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يحفظ عنه من أهل العلم.

وذهب طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بالتسليمتين معاً، وهو قول الحسن بن حي وأحمد –في روايةٍ عنه – وبعض المالكية وبعض أهل الظاهر.

واستدلوا بقوله عليه السلام: ( ( تحليلها التسليم) ) ، وقالوا: التسليم إلى ما عهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله: ( ( صلوا كما رأيتموني أصلي) ) ، وقدكان يسلم تسليمتين.
ومن ذهب إلى قول الجمهور، قال: التسليم مصدرٌ، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عدداً، فيدخل فيه التسليمة الواحدة.

واستدلوا بأن الصحابة قد كان منهم من يسلم تسليمتين، ومنهم من يسلم تسليمةً واحدةً، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد روي عن جماعةٍ منهم التسليمتان والتسليمة الواحدة، فدل على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا وأحياناً هذا، وهذا اجماع منهم على أن الواحدة تكفي.

قال أكثر أصحابنا: ومحل الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة، فأما التطوع فيجزئ فيه تسليمة، واستدلوا بحديث عائشة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، وقد سبق ذكره.

وخرّج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين الشفع والوتر بتسليمةٍ يسمعناها.

وقد تأول حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يسمعهم واحدةً ويخفي
الثانية، وقد نص أحمد على ذلك، وأن الأولى تكون أرفع من الثانية في الجهر.

وقد روى أبو رزينٍ، قال: سمعت علياً يسلم في الصلاة عن يمينه وعن شماله، والتي عن شماله أخفض.

ومن أصحابنا من قال: يجهر بالثانية ويخفض بالأولى، وهو قول النخعي.

واختلفوا في صفة التسليم:
فقالت طائفةٌ: صفة التسليم: ( ( السلام عليكم ورحمه الله) ) ، وهذا مروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه، إليه ذهب أكثر العلماء.

ولو اقتصر على قوله ( ( السلام عليكم) ) أجزأه عند جمهورهم، ولأصحاب أحمد فيه وجهان.

وقالت طائفة: يزيد مع ذلك: ( ( وبركاته) ) ، ومنهم: الأسود بن يزيد، كان يقولها في التسليمة الأولى.

وقال النخعي: أقولها وأخفيها.

واستحبه طائفة من الشافعية.

وقد خرّج أبو داود من حديث وائل بن حجر، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يسلم عن يمينه: ( ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ) ، وعن شماله: ( ( السلام عليكم ورحمة الله) ) .

ومن أصحابنا من قال: إنما فعل ذلك مرةً لبيان الجواز.
وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى: ( ( السلام عليكم ورحمه الله) ) ، ويقتصر في الثانية على ( ( السلام عليكم) ) ، وروي عن عمار وغيره.

وقد تقدم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك.

وقالت طائفة: بل يقتصر على قوله: ( ( السلام عليكم) ) بكل حالٍ، وهو قول مالك والليث بن سعدٍ، وروي عن علي وغيره.

وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع.

وفي بعضها زيادة: ( ( ورحمه الله) ) .

وقد خَّرجه مسلم بالوجهين.

واكثر العلماء على أنه لا يخرج من الصلاة بدون التسليم، واستدلوا بحديث: ( ( تحليلها التسليم) ) .

وممن قال من الصحابة: تحليل الصلاة التسليم: ابن مسعودٍ وابن عباسٍ، وحكاه الإمام أحمد إجماعاً.

وذهب طائفة إلى أنه يخرج من الصلاة بفعل كل منافٍ لها، من أكلٍ أو شربٍ أو كلامٍ أو حدثٍ، وهو قول الحكم وحماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي وإسحاق.

ولم يفرقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلي أو بغير اختياره إلا أبا حنيفة، فإنه قال: إن وجد باختياره خرج من الصلاة بذلك، وإن وجد بغير اختياره بطلت صلاته، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلى لذلك.

وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك.
وقد حكي عن طائفة من السلف: أن من أحدث بعد تشهده تمت صلاته، منهم: الحسن وابن سيرين وعطاء – على خلاف عنه – والنخعي.

وروي ذلك عنن علي بن أبي طالب، وقد أنكر صحته أحمد وأبو حاتمٍ الرازي وغيرهما.

وروي –أيضاً - عن ابن مسعود من طريقٍ منقطعٍ.

واستدل لهؤلاء بحديث ابن مسعود: ( ( إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد) ) .

وقد سبق ذكره، والاختلاف في رفعه ووقفه على ابن مسعودٍ.

واختلف في لفظه –أيضاً -: فرواه بعضهم، وقال: قال ابن مسعودٍ: فإذا فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف.

خَّرجه البيهقي.

وهذه الرواية تدل على أنه إنما خيره إذا فرغ من صلاته، وإنما يفرغ بالتسليم؛ بدليل ما روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت.

قال البيهقي: وهذا أثر صحيح.

وقال: ويكون مراد ابن مسعودٍ: الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه.

وحمل أبو حنيفة وإسحاق حديث: ( ( تحليلها والتسليم) ) على التشهد، وقالوا: يسمى التشهد تسليماً؛ لما فيه من التسليم على النبي والصالحين.

وهذا بعيد جداً.

واستدلوا –أيضاً - بما روى عبد الرحمن بن زيادٍ الأفريقي، أن عبد الرحمن بن رافعٍ وبكر بن سوادة أخبراه، عن عبد الله ابن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم جازت صلاته) ) .

خَّرجه الترمذي.

وقال: إسناده ليس بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده، والأفريقي ضعفه القطان وأحمد بن حنبلٍ.

وخَّرجه أبو داود بمعناه.

وخَّرجه الدارقطني، ولفظه: ( ( إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة واستوى جالساً تمت صلاته) ) .

وقد روي بهذا المعنى عن الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو –مرفوعاً.

وهذا اضطراب منه في إسناده، كما أشار اليه الترمذي، ورفعه منكر جداً، ولعله موقوف، والأفريقي لا يعتمد على ما ينفرد به.

قال حربٌ: ذكرت هذا الحديث لأحمد، فرده، ولم يصححه.
وقال الجوزجاني: هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث: ( ( تحليلها
التسليم)
)
.

وأجاب بعضهم عن هذا، وعن حديث ابن مسعودٍ –على تقدير صحتهما –بالنسخ، واستدل بما روى عمر بن ذرَّ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه، وذلك قبل أن ينزل التسليم.

خَّرجه البيهقي.

وخَّرجه وكيعٌ في ( ( كتابه) ) عن عمر بن ذرَّ، عن عطاءٍ – بمعناه -، وقال: حتَّى نزل التسليم.

وقد ذكرنا –فيما تقدم في أول ( ( كتاب الصَّلاة) ) –حديثاً، عن عمر، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي في أول الاسلام ركعتين، ثُمَّ أمر أن يصلي أربعا، فكان يسلم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل، يرى أنه قد أتم الصَّلاة، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى، ويعلن بالثانية، فافعلوا ذَلِكَ.

خَّرجه الإسماعيلي.

وإسناده ضعيف.
ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين: إن الصَّلاة الرباعية المكتوبة يسلم فيها مرتين: مرة في التشهد الأول، ومرة في الثاني، ولكن الإمام يسر السلام الأول، ويعلن بالثاني، والأحاديث كلها تدل على أنه لم يكن يسلم فيها إلا مرةً واحدةً، في التشهد الثاني خاصةً.

* * *