فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم

باب
يستقبل الإمام الناس إذا سلم
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:

[ قــ :822 ... غــ :845 ]
- حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جرير بن حازم: ثنا أبو رجاءٍ، عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه.

هذا أول حديثٍ طويلٍ، ساقه بتمامه في ( ( الجنائز) ) ومواضع أخر وفيه: دليلٌ على أن عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاقبال على الناس بوجهه بعد الصلاة.





[ قــ :83 ... غــ :846 ]
- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكِ، عن صالح بن كيسان، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ( ( هل تدرون ماذا قال ربكم؟) ) قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ( ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافرٌ) ) - الحديث.

وسيأتي بتمامه في ( ( الاستسقاء) ) –إن شاء الله تعالى.

والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد انصرافه من صلاة الصبح، والمعنى: بعد فراغه منها.





[ قــ :84 ... غــ :847 ]
- ثنا عبد الله بن منيرٍ: سمع يزيد: أنا حميدٌ، عن أنسٍ، قال: أخر
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة ذات ليلةٍ إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلمَّا صلى أقبل علينا بوجهه، فقال: ( ( إن الناس قد صلوا ورقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) ) .

قد تقدم في ( ( باب: وقت العشاء) ) بسياق أتم من هذا.

والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه بعد الصلاة.

وخرّج مسلمٌ في ( ( صحيحه) ) من حديث البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.

قال: فسمعته يقول: ( ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) ) - وفيه: ذكر الدعاء بعد الصلاة –أيضاً.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن الأسود، قال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا انصرف انحرف.

وصححه الترمذي.

وفي رواية بعضهم: فصلى، ثم انحرف.

وروى عبد الله بن فروخٍ: أنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكأن إذا سلم وثب مكانه، كانه يقوم على رضفٍ.

خرّجه البيهقي.

وقال: تفرد به عبد الله بن فروخ المصري، وله أفرادٌ، والله أعلم.

قلت: وثقه قومٌ، وخرج له مسلمٌ في ( ( صحيحه) ) ، وتكلم فيه آخرون.
وقد رواه عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) عن ابن جريجٍ، قال: نبئت عن أنس بن مالكٍ - فذكر الحديث بتمامه.

وهذا أصح.

قال البيهقي: والمشهور: عن أبي الضحى، عن مسروقٍ، قال: كان أبو بكرٍ الصديق إذا سلم قام كأنه جالسٌ على الرضف.

قال: وروينا عن عليّ، أنه سلم ثم قام.

ثم خرج بإسناده، عن خارجة بن زيدٍ، أنه كان يعيب على الأئمة جلوسهم بعد أن يسلموا، ويقول: السنة في ذلك أن يقوم الإمام ساعة يسلم.

قال: وروينا عن الشعبي والنخعي، أنهما كرهاه.

ويذكر عن عمر بن الخطاب.
والله أعلم.

وروى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن عمر، قال: كان الإمام إذا سلم انكفت وانكفتنا معه.

وعن ابن مسعودٍ، قال: إذا سلم الإمام فليقم، ولينحرف عن مجلسه.

وعنه، أنه كان إذا سلم قام عن مجلسه أو انحرف.

وممن روي عنه، أن الإمام ينحرف ويستقبل القوم بوجهه: علي بن أبي طالبٍ وطلحة والزبير.

وقال النخعي: إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فأحصبوه.

وكره ذلك الثوري وأحمد وغيرهما من العلماء.

ولم يرخص في إطالة استقبال الإمام القبلة بعد سلامه للذكر والدعاء إلا بعض المتأخرين ممن لا يعرف السنن والآثار، ومنهم من استحب في عقب صلاة الفجر أن يأتي بالتهليل عشرٌ مراتٍ.

ذكره طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم، لما روى شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، عن أبي ذر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجله قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ –عشرٌ مرات – كتب له عشرٌ حسناتٍ ومحي عنه عشرٌ سيئاتٍ، ورفع له عشرٌ درجاتٍ، وكان يومه ذلك في حرزٍ من كل مكروهٍ، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنبٍ أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله) ) .

خَّرجه الترمذي بهذا اللفظ، وقال: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.

وخَّرجه النسائي في ( ( اليوم والليلة) ) بنحوه.

وخَّرجه –أيضاً –من وجهٍ آخر من حديث شهرٍ، عن عبد الرحمن، عن معاذٍ بن جبلٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، ولم يذكر: ( ( وهو ثانٍ رجله) ) ، إنما قال: ( ( قبل أن يتكلم) ) ، وذكر في صلاة العصر مثل ذلك.

وخرّجه الإمام أحمد من حديث شهرٍ، وعن ابن غنمٍ - مرسلاً، وعنده ( ( من قال من قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح) ) –وذكر الحديث.

وشهر بن حوشبٍ، مختلفٌ فيه، وهو كثير الاضطراب، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث كما ترى.

وقيل: عنه، عن ابن غنم عن أبي هريرة.

وقيل: عن شهر، عن أبي أمامة.

قال الدارقطني: الاضطراب فيه من قبل شهرٍ.

وقد روي نحوه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوهٍ أخر، كلها ضعيفةٌ.

وحكى بعض أصحاب سفيان الثوري، عنه، أنه قال: يستحب للإمام إذا صلى أن لا يجلس مستقبل القبلة، بل يتحول من مكانه أو ينحرف، إلا في العصر والفجر.

ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر، فإنه ذكر له هذا الحديث، فقال: أعجب إليّ أن لا يجلس، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه.

يعني: أن هذا أصح من حديث شهر بن حوشبٍ هذا، مع أنه ليس في جميع رواياته: ( ( قبل أن يثنى رجله) ) ، بل في بعضها.

* * *



باب
مكث الإمام في مصلاه بعد السلام
[ قــ :84 ... غــ :848 ]
- وقال لنا آدم: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافعٍ، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة.

وفعله القاسم.

ويذكر عن أبي هريرة –رفعه -: ( ( لا يتطوع الإمام في مكانه) ) .
ولم يصح.

هذا الذي ذكر أنه لا يصح، خَّرجه الإمام وأبو داود وابن ماجه من رواية ليث، عن حجاج بن عبيدٍ، عن إبراهيم ابن إسماعيل، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو شماله في الصلاة) ) –يعني: في السبحة.

وليس في هذا ذكر الإمام، كما أورده البخاري.

وضعف إسناده من جهة ليث بن أبي سليمٍ، وفيه ضعفٌ مشهورٌ.
ومن جهة إبراهيم بن إسماعيل، ويقال فيه: إسماعيل بن إبراهيم، وهو حجازي، روى عنه عمرو بن دينارٍ وغيره.
قال أبو حاتمٍ الرازي: مجهولٌ.

وكذا قال في حجاج بن عبيد، وقد اختلف في اسم أبيه.

واختلف في إسناد الحديث على ليثٍ –أيضاً.

وخرج أبو داود وابن ماجه –أيضاً - من حديث عطاءٍ الخراساني، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه) ) .

وقال أبو داود: وعطاء الخراساني لم يدرك المغيرة.

وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق -: قاله بعض أصحابنا:
فكرهت طائفةٌ تطوعه في مكانه بعد صلاته، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وإسحاق.

وروي عن علي –رضي الله عنه -، أنه كرهه.

وقال النخعي: كانوا يكرهونه.

ورخص فيه ابن عقيلٍ من أصحابنا، كما رجحه البخاري، ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمدٍ.

فأما المروي عن ابن عمر، فإنه لم يفعله وهو إمامٌ، بل كان مأموماً، كذلك قال الإمام أحمد،.
وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك، وهو قول مالكٍ وأحمد.

وقد خرج أبو داود حديثاً يقتضي كراهته من حديث أبي رمثة، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو بكرٍ وعمر يقومان فيالصف المقدم عن يمينه، وكان رجلٌ قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأيت بياض خديه، ثم انفتل، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع، فوثب إليه عمر، فاخذ بمنكبيه فهزَّه، ثم قال: أجلس؛ فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل، فرفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره، فقال: ( ( أصاب الله بك يا بن الخطاب) ) .

وهذا الحديث يدل على كراهة أن يصل المكتوبة بالتطوع بعدها من غير فصل، وإن فصل بالتسليم.

ويدل عليه - أيضاً -: ما روى السائب بن يزيد، قال: صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بذلك، أن لا توصل صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج.

خَّرجه مسلمٌ –بمعناه.

وروى حربٌ بإسناده، عن عطاءٍ، أنه قال فيمن صلى المكتوبة: لا يصلي مكانه نافلةً إلا أن يقطع بحديثٍ، أو يتقدم أو يتأخر.

وعن الأوزاعي، قال: إنما يجب ذلك على الإمام، أن يتحول من مصلاه.

قيل له: فما يجزئ من ذلك؟ قال: أدناه أن يزيل قدميه من مكانه.
قيل له: فإن ضاق مكانه؟ قال: فليتربع بعد سلامه؛ فإنه يجزئه.

وروى – أيضاً -: بإسناده، عن ابن مسعودٍ، أنه كان إذا سلم قام وتحول من مكانه غير بعيدٍ.

قال حربٌ: ثنا محمد بن آدم: ثنا أبو المليح الرقي، عن حبيبٍ، قال: كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم.

وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي خرجها البخاري.

وقد ذكر قتادة، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً صلى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: لا أراك تصلي في مقامك.

قال سعيدٌ: فذكرته لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.

وعن عكرمة، قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحولٍ أو كلامٍ.

خرَّجهما عبد الرزاق.

ومذهب مالك: أنه يكره في الجمعة أن يتنفل في مكانه من المسجد، ولا ينتقل منه وإن كان مأموماً، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكل حالٍ.

وقد قال الشافعي في ( ( سنن حرملة) ) : حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في هذا ثابتٌ عندنا، وبه نأخذ.
قال: وهذا مثل قوله لمن صلى وقد أقيمت الصلاة:
( ( أصلاتان معاً؟!) ) كأنه أحب أن يفصلهما منها حتى تكون المكتوبات منفرداتٍ مع السلام بفصلٍ بعد السلام.

وقدروي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اضطجع بعد ركعتي الفجر.

وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمروٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة، فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم.

قال ابن عبد البر: هذا حديثٌ صحيحٌ.

قال: وقال الشعبي: إذا صليت المكتوبة، ثم اردت أن تتطوع، فاخط خطوةً.

وخالف ابن عمر ابن عباسٍ في هذا، وقال: وأي فصلٍ أفصل من السلام؟
وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا والشافعية: أن هذا كله خلاف الأولى من غير كراهةٍ فيه، وحديث معاوية يدل على الكراهة.

قال البخاري –رحمه الله -