فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس

باب
خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس
لما فرغ من ذكر أحكام صلاة الرجال وصلاة الصبيان شرع في ذكر حكم صلاة النساء، فأفرد لذلك أبواباً وابتدأها بخروجهن إلى المساجد في الليل وغلس الفجر.

وخرج فيه ستة أحاديث:
الحديث الأول:

[ قــ :840 ... غــ :864 ]
- حدثنا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعتمة، حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان – وذكر بقية الحديث.

وقد ذكرنا باقيه في ( ( أبواب المواقيت) ) .

والمقصود منه هاهنا: الاستدلال على شهود النساء صلاة العشاء مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.





[ قــ :841 ... غــ :865 ]
- ثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد فأذنوا لهن) ) .

تابعه: شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

( ( حنظلة) ) ، هو: السدوسي.

وقد رواه الترمذي –أيضاً - عن سالم.

وخرَّجه البخاري فيما بعد، ويأتي قريباً –إن شاء الله.

وليس فيها: ذكر الليل.

وكذلك رواه نافعٌ، عن ابن عمر، وغيرهم –أيضاً.

ورواية الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر التي علقها البخاري، خرَجها مسلمٌ في ( ( صحيحه) ) من رواية أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، به، ولفظه: ( ( لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل) ) .

وخرَّجه – أيضاً – من رواية عمروٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) ) .

وخرّج البخاريُّ في ( ( كتاب الجمعة) ) من طريق عمروٍ – أيضاً -، وسياتي –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ومراد البخاري بالمتابعه، ذكر الليل، مع أن مسلماً خَرج حديث حنظلة عن سالمٍ، ولم يذكر فيه: ( ( بالليل) ) .

وقال الإمام أحمد في رواية حنظلة، عن سالم عن أبيه: إسنادٌ حسنٌ.





[ قــ :84 ... غــ :866 ]
- حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس، عن الزهري: حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمه زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرتها، أن النساء في عهد الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فاذا قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال.

قد سبق هذا الحديث وهذا السياق أتم مما تقدم.

وليس في هذا الحديث: ذكر الليل، والظاهر أنه كان نهاراً، أو أعم من ذلك.





[ قــ :843 ... غــ :867 ]
- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالكٍ –ح وحدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشه، قالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي، الصبح فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن، ما يعرفن من الغلس.

قد سبق هذا الحديث في"أبواب المواقيت "من روايه الزهري، عن عروة عن، عائشة –بمعناه.

وفيه: دليلٌ على شهود النساء صلاة الصبح مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجوعهن في غلس الظلام.

الحديث الخامس:



[ قــ :844 ... غــ :868 ]
- حدثنا محمد بن مسكين - يعني: ابن نملية -: ثنا بشر بن بكرٍ: أنبأ الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الله ابن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه) ) .

( ( نملية) ) بالنون، ذكره ابن ماكولا، وهو يماميٌ ثقةٌ.

وقد تقدم هذا الحديث في "أبواب الإمامه"مع أحاديث أخر متعددةٍ في هذا المعنى.

والمراد هاهنا من ذلك: أن النساء كن يشهدن الصلاة خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ومعهن صبيانهن، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلم ذلك، ويراعي في صلاته حالهن، ويؤثر ما عليهن، ويجتنب ما يشق عليهن، وذلك دليل على أن حضورهن الجماعه معه غير مكروهٍ، ولولا ذلك لنهاهن عن الحضور معه للصلاة.

الحديث السادس:



[ قــ :845 ... غــ :869 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، عن عائشه: قالت لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء [بعده] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم.

تشير عائشةُ – رضي الله عنها –إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.

وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً أو مستترةً، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه.

فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع الرجال: فمنهم من كرهه بكل حالٍ، وهو ظاهر المروي عن عائشه - رضي الله عنها -، وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر، فكانت لمعنىً وقد زال ذلك المعنى.

قال الإمام أحمد: أكره خروجهن في الزمان؛ لأنهن فتنتةٌ.

وعن أبي حنيفة روايةٌ: لا يخرجن الإ للعيدين خاصةً.

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: حقٌ على كل ذاتِ نطاقٍ أن تخرج للعيدين.
ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج الإ في العيدين.

ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشوابَّ، وهو قول مالكٍ –في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وطائفةٍ من أصحابنا أو أكثرهم.

حكاه ابن عبد البر عن العلماء، وحكاه عن مالكٍ من روايه أشهب: أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، وأن الشابه تخرج مرةً بعد مرة.

وقال ابن مسعودٍ: ما صلت امرأة صلاةً أفضل من صلاتها في بيتها، الإ أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزاً في منقلها.

خرَّجه وكيع وأبو عبيدٍ.

وقال: يعني: خفها.

وخرَّجه البيهقي، وعنده: إلا في مسجد الحرام، أو مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومنهم من رخص فيه للجمع، إذا أمنت الفتنه، وهو قول مالكٍ - في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في ( ( المدونة) ) سواه -، وقول طائفه من أصحابنا المتأخرين.

ثم اختلفوا: هل يرخص لهن في الليل والنهار، أم في الليل خاصةً؟ على قولين.

أحدهما: يرخص لهن في كل الصلوات، وهو المحكي عن مالكٍ والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وقول أصحابنا.

واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة، وبخروجهن في العيدين، فأما المقيدة بالليل، فقالوا: هو تنبيهٌ على النهار من طريق الفحوى؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى.

وقالت طائفةٌ: إنما يرخص لهن في الليل، وتبويب البخاري يدل عليه، وروي مثله عن أبي حنيفة، لكنه خصه بالعجائز.

وكذا قال سفيان: يرخص لهن في العشاء والفجر.
قال: وينهى عن حضورهن تراويح رمضان.

ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك، الإ أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان.
وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل، وقالوا: النهار يكثر انتشار الفساق
فيه، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالباً، فهو أستر وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمراة أن تصلي خلف رجلٍ صلاةً جهرية.

وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار.

قال مهنا: قال أحمد: لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء، الإ أن يكون في بيته، يؤم أهل بيته، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل.

وهذه الروايه مبينة –والله أعلم - على قول أحمد: إن المرة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروهٌ كنظره إليها؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة.

وإن صلى الرجل بنساءٍ لا رجلٌ معهن، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز، وإن كن أجنبياتٍ فإنه يكره.

وإنما يكره إذا كان في بيتٍ ونحوه، فأما في المسجد فلا يكره؛ لاسيما إن كان فيه رجالٌ لا يصلون معهم.

فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - جعل للنساء في قيام رمضان إماماً يقوم بهن على حدة كما جعل للرجال إماماً.

وأما في بيت ونحوه فيكره؛ لما فيه من الخلوة.

فإن كان امرأةٌ واحدةٌ، فهو محرمٌ، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ومتى كثر النساء فلا يحرم، بل يكره.

ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشيه مخالطة الوسواس له في صلاته.

ومذهب الشافعي: إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعداً خالياً بهن فطريقان، قطع جمهورهم بالجواز.
والثاني: في تحريمه وجهان.

وقيل: أن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفرداتٍ، إلا أن يكون فيهن محرمٌ له، أو زوجةٌ، وإن خلا رجلان أو رجالٌ فالمشهور عندهم تحريمه.

وقيل: إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.

فإن صلي بهن في حال يكره، كرهت الصلاة وصحت، وإن كان في حال
تحريم، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما.

وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساءِ الأجنبيات وليس خلفه صفٌ من الرجال منهم: الجزري.

وكذلك قال الإمام أحمد –في روايه الميموني -: إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم.

قيل لهُ: فإن لم يكن رجال، كانوا نساء؟
قالَ: هذه مسأله مشتبهةٌ.
قيل لهُ: فصلاتهم جائزة؟ قال: أما صلاته فهي جائزة قيل له: فصلاة النساء؟ هذه مسألةٌ مشتيهةٌ.

فتوقف في صحة صلاتهن دونه.

* * *