فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب،

باب
الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
وإذا قال لصاحبه: ( ( أنصت) ) ، فقد لغا
وقال سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( وينصت إذا تكلم الإمام) ) .

حديث سلمان، خرّجه البخاري فيما تقدم في موضعين.

[ قــ :906 ... غــ :934 ]
- حدثنا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني سعيدٍ بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: انصت –والإمام يخطب –فقد لغوت) ) .

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت) ) .

هذا الحديث الثاني، يوجد في بعض روايات هذا الكتاب، ولا يوجد في أكثرها.

الفضل في الجمعة، وحصول التكفير بها مشروط بشروط، منها: أن يدنو من الإمام، ويستمع وينصت، ولا يلغو.

وقد ورد ذلك في أحاديث متعددة، قد ذكرنا بعضها فيما تقدم.

و ( ( اللغو) ) : هو الكلام الباطل المهدر، الذي لا فائدة فيه.

ومنه: لغو اليمين، وهو مالا يعبأ به ولا ينعقد.

ومنه: قوله تعالى: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما} ( الفرقان:72) ، وقوله { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً?} ( النبأ:35) .

وقد جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذ الحديث الأمر بالإنصات في حال الخطبة لغواً، وإن كان أمر بمعروف ونهيا عن منكرٍ، فدل على أن كل كلام يشغل عن الاستماع والإنصات فهو في حكم اللغو، وإنما يسكت المتكلم بالإشارة.

وكان ابن عمر يشير اليه، وتارة يحصبه بالحصى.

وكره علقمة رميه بالحصى.

ولا خلاف في جواز الإشارة اليه بين العلماء، الا ما حكي عن طاوس وحده، ولا يصح؛ لأن الإشارة في الصلاة جائزةٌ، ففي حال الخطبة اولى.
وروى أنس، أن رجلاً دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأشار الناس اليه أن اسكت، فساله ثلاث مراتٍ، كل ذلك يشيرون اليه أن اسكت، فقال له رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ويحك، ما أعددت لها) ) –وذكر الحديث.

خرّجه البيهقي وغيره.

ولا يستثنى من ذلك إلا ما لابد منه، مما يجوز قطع الصلاة لأجله، كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ونحوه.

فأما رد السلام وتشميت العاطس، ففيه اختلاف سبقت الإشارة اليه، وكذلك حكم كلام الإمام ومن يكلمه لمصلحةٍ.

وأجمع العلماء على أن الأفضل لمن سمع خطبةً الإمام أن ينصت ويستمع، وانه افضل ممن يشتغل عن ذلك بذكر الله في نفسه، أو تلاوة قرآن أو دعاءٍ.

قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أسبح في يوم الجمعة واهلل، وأنا اعقل الخطيب.
قال: لا، إلا الشيء اليسير، واجعله بينك وبين نفسك.

وروى بإسناده، عن طاوسٍ، قال: إذا كان الإمام على المنبر فلا يدع احد بشيء، ولا يذكر الله، إلا أن يذكر الإمام.
وقول مالكٍ كقول عطاءٍ -: ذكره في ( ( تهذيب المدونة) ) .

وروى حرب بإسناده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: سألت علقمة: متى يكره الكلام يوم الجمعة؟ قال: إذا خَّرج الإمام، وإذا خطب الإمام.
قلت: فكيف ترى في رجل يقرأ في نفسه؟ قال: لعل ذلك لا يضره، أن شاء الله.

قال سفيان: ذاك إذا لم يسمع الخطبة.

وروي عن سعيدٍ بن جبير والنخعي: الرخصة في القراءة والإمام يخطب.

ولعله إذا لم يسمع الخطبة أو إذا تكلم الإمام بما لا يجوز استماعه.

وكره الأوزاعي لمن سمع الخطبة أن يتشهد، وقال: قد جهل، ولم تذهب جمعته.

واختلفوا: في الإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة: هل يوافقه المأموم؟
فقالت طائفةٌ: يصلي المأموم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه، وهو قولُ مالكٍ وأبي يوسف وأحمد وإسحاق.

واستدلوا: بأن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خصوصاً يوم الجمعة متأكدة الاستحباب، ومختلف في وجوبها كلما ذكر، فيشرع الاتيان بها في حال الخطبة عند ذكره، لأن سببها موجود، فهو كالتأمين على دعاء الإمام، وأولى.

وقال بعض الشافعية: إذا قرأ الإمام: { إِنَّ اللَّهَ?وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ}
( الأحزاب:56) –الآية، جاز للمأموم أن يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويرفع بها صوته.

وقالت طائفةٌ: بل ينصت، وهو قولُ سفيان وأبي حنيفة ومحمد والليث بن سعدٍ ومالك –في روايةٍ – والشافعي.

وقال الأوزاعي: ينبغي للإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة أن يسكت حتى يصلي الناس، فإن لم يسكت فأنصت، وأمن على دعائه.

واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعده: هل يذكر الله ويقرأ القرآن في نفسه، أو ينصت؟ على قولين:
أحدهما: يذكر الله في نفسه ويقرأ، وهو قولُ علقمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق.

وقولهم هذا شبه قول الأكثرين في قراءة المأموم إذا لم يسمع قراءته.
أنه ينصت ولا يتكلم بشيء، وهو قولُ الزهري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة.

واستدلوا: بقول عثمان: إن للمنصت الذي لا يسمع مثل ما للسامع المنصت.

خرّجه مالكٌ في ( ( الموطإ) ) .

وقالت طائفةٌ: من لا يسمع لا إنصات عليه، بل يباح له الكلام، وهو قولُ عروة بن الزبير، وطائفة من أصحاب الشافعي.

وأومأ إليه أحمد، فإنه قال: يشرب الماء إذا لم يسمع الخطبة.

واختاره القاضي أبو يعلى من أصحابنا.

وقال ابن عقيل منهم: له أن يقرئ القرآن، ويذاكر بالعلم.

وهو بعيدٌ؛ فإن رفع الصوت ربما منع من أقرب منه إلى الإمام ممن يسمع من السماع، بخلاف الذكر في نفسه والقراءة.

واختلفوا: هل انصات من سمع الخطبة واجبٌ، وكلامه في تلك الحال محرم، أو هو مكروه فقط، فلا يأثم به؟ على قولين:
أحدهما: أنه محرم، وهو قول الأكثرين، منهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي –في القديم – وأحمد –في المشهور عنه.

والمنقول عن أكثر السلف يشهد له.

وقال عطاءٌ ومجاهد: الانصات يوم الجمعة واجبٌ.

وقد أمر ابن مسعودٍ بقرع رأس المتكلم بالعصى، وكان ابن عمر يحصبه
بالحصباء.

وروي عنه، أنه قال: المتكلم لا جمعةٍ له، ولمن أجابه: أنت حمارٌ.

وقال ابن مسعودٍ وغيره لمن تكلم في جمعةٍ: هذا حظك من صلاتك.

ويدل على تحريمه: قولُ الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] ، وقد تقدم قولُ الإمام أحمد: اجمعوا أنها نزلت في الصلاة والخطبة.

ولأن الخطبة وجبت في الجمعة تذكيراً للناس وموعظةً لهم، فاذا لم يجب استماعها لم تبق فائدة في وجوبها في نفسها؛ فإن إيجاب المتكلم بما لا يجب استماعه يصير لغواً لا فائدة له.

وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، لا جمعةٍ له) ) .

وإنما شبهه بالحمار يحمل أسفاراً، لأن الحمار لا ينتفع من حمله الأسفار بشيء، فكذلك من لم يستمع الإمام يوم الجمعة.

وهذا المثل ضربه الله لليهود الذين لم ينتفعوا بشيء من علمهم، وليس لنا مثل بالسوء، ولا التشبه بمن ذمه الله من أهل الكتاب قبلنا، فيما ذموا عليه.

وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من دنا من الإمام فلغا، ولم يستمع ولم ينصت، كان له كفل من الوزر، ومن قال له: مه فقد لغا، ومن لغا فلا جمعةٍ له) ) .

والقول الثاني: أنه مكروه غير محرم، وهو قولُ الشافعي –الجديد – وحكي روايةً عن أحمد.

واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
فحكي عن طائفةٌ أنه تبطل به الجمعة.

قال عطاءٌ الخراساني وعكرمة: من لغا فلا جمعةٍ له.

وقال الأوزاعي: من تكلم عمداً صارت جمعته ظهراً، ومن تكلم ساهياً لم يتره الله فضلها، إن شاء الله تعالى.

وزعم بعضهم أن قولُ الأوزاعي هذا يخالف الإجماع، وليس كذلك، ولم يرد الأوزاعي أنه يصلي ظهراً، إنما أراد أن ثواب جمعته يفوته، ويبقى له فضل صلاة الظهر، وتبرأ ذمته منها.

وكذلك قال فيمن قال كتاباً والإمام يخطب، قال: ذاك حظه من جمعته، ولم يامره باعادة الصلاة.
وكذلك قال فيمن شرب الماء والإمام يخطب.

وقد روي في احاديث متعددةٍ مرسلةٍ، وبعضها متصلة الأسانيد، وفيها ضعف، أن من لغا لا جمعةٍ له، وأن ذلك حظه منها.

والمراد: أنه يفوته ثواب الجمعة، وبذلك فسره عطاءٍ وابن وهبٍ –صاحب
مالكٍ.

وقال إسحاق: يخشى عليه فوات الأجر.

قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: يقال: من تكلم فكلامه حظه من الجمعة –يقول: من أجر الجمعة، فأما أن يوفي أربعاً، فلا.

وقال –أيضاً -: قلت لعطاء: هل تعلم شيئاً يقطع جمعةٍ الإنسان، حتى يجب أن يصلي أربعاً، من كلام أو تخطي رقاب الناس، أو شيء غير ذلك؟ قال: لا.

وكذا قال الحسن والزهري، فيمن تكلم والإمام يخطب: يصلي ركعتين.

وقال الثوري: يستغفر الله، ويصلي.

ولا يصح عن أحدٍ خلاف ذلك.
والله أعلم.

واختلفوا: متى يجب الإنصات يوم الجمعة؟
فقال الجمهور: بشروع الإمام في الخطبة، وهو المروي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه -، وكانوا يفعلونه في زمانه، وروي عن سعدٍ بن أبي وقاص وابن عباسٍ.

وقالت طائفةٌ: ينقطع بخروج الإمام، وإن لم يتكلم، كما تنتطع الصلاة
بخروجه، وهو قولُ طائفةٌ من الكوفيين، منهم: الحكم، وحكي عن أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر وابن عباسٍ.
وقد خرّج البخاري حديث سلمان الفارسي في الانصات بلفظين: في أحدهما: ذكر خروج الإمام، وفي الآخر: ذكر كلامه.

فمن الناس من قال: رواية الخروج مطلقة، تحتمل حالة الكلام وغيرها، ورواية الكلام مقيدة فتقضي على المطلقة.

ومنهم من قال: إن الرواية المطلقة إنما دلت على اثبات فضل ترك الكلام
بالخروج، لا على منعه وتحريمه.

واستحب عطاءٌ: أن يتكلم من حضر الجمعة قبل أن يخطب الإمام.

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: قال: إذا خرج الإمام يوم الجمعة فافصل بكلام قبل أن يخطب.
قلت: سلم الإمام، فرددت عليه أيكون ذلك فصلا؟ قال: إني أحب أن تزيد –أيضاً - بكلام، السلام في القرآن.

يعني: أن السلام لا يكفي في الفصل؛ لأنه مما في القرآن، والمقصود: الفصل بكلام من كلام الآدميين.

وهذا قولُ غريبٌ.

واختلفوا: إلى أي وقتٍ ينتهي النهي عن الكلام؟
فقال الجمهور: ينتهي بفراغ الإمام من الخطبتين، ويجوز الكلام مع نزوله، وبين الصلاة والخطبة.
وقالت طائفةٌ: ينتهي النهي إلى الدخول في الصلاة.

وقد سبق ذكر ذلك عند ذكر الكلام بين الإقامة والصلاة بما يغني عن إعادته
هاهنا.

واتفقوا على أن النهي عن الكلام يستمر ما دام يتكلم بما يشرع التكلم به في الخطبة، من حمد الله والثناء، والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقراءة القرآن، والموعظة وغير ذلك.

وحكى ابن عبد البر عن طائفةٌ، منهم: الشعبي وأبو بردة، أنه لا ينهى عن الكلام إلاّ في حال قراءة القرآن خاصةً، ويجوز في غيرها.

وهذا لا يصح عنهم، وسنذكر وجه ما روي عنهم فيما بعد –أن شاء الله تعالى.

ولو شرع الإمام في خطبته في كلامٍ مباحٍ أو مستحب كالدعاء، فإنه يستمع له وينصت، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم: عطاءٌ وغيره.

ولأصحابنا ثلاثة أوجهٍ: أحدها: تحريم الكلام في الحالين.
والثاني: لا يحرم.
والثالث: أن كان مستحباً كالدعاء حرم الكلام معه، وإن كان مباحاً لم يحرم.

فأما أن تكلم بكلام محرم، كبدعةٍ أو كسب السلف، كما كان يفعله بنو أمية، سوى عمر بن عبد العزيز –رحمة الله عليه -، فقالت طائفةٌ: يلحق بالخطب وينصت لهُ، روي عن عمرو بن مرة وقتادة.
والأكثرون على خلاف ذلك، منهم: الشعبي وسعيد بن جبيرٍ وأبو بردة وعطاءٌ والنخعي والزهري وعروة والليث ابن سعدٍ.

وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] الآية، وما كانَ محرماً حرم استماعه والانصات إليه، ووجب التشاغل عنه كسماع الغناء والآت اللهو، ونحو ذلك.

ولعل قول عمرو بن مرة وقتادة في كلامٍ مباحٍ لا في محرمٍ.

وفي بطلان الخطبة بالكلام المحرم قبل فراغ أركان الخطبة وجهان لأصحابنا، كالوجهين لهم في بطلان الأذان بالكلام المحرم في أثنائه.

وفي جواز الكلام في جلوس الإمام بين الخطبتين وجهان لأصحابنا والشافعية، ومنعه أصحاب مالكٍ.

وهذا كله في حق الجالس في المسجد من حين خروج الإمام، فأما من دخل المسجد في حال الخطبة، فقال طائفةٌ: إنما يمتنع عليه الكلام إذا جلس وأخذ مجلسه، وما دام يمشي فله أن يتكلم ويكلم من معه، وهذا قولُ الزهري وقتادة والثوري والشافعي.

وعموم قوله: ( ( إذا قلت لصاحبك: أنصت - والإمام يخطب – فقد لغوت) ) ، ويشمل القائم والقاعد والماشي.

* * *