فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: ليجعل آخر صلاته وترا

باب
ليجعل آخر صلاته وتراً
[ قــ :967 ... غــ :998 ]
- حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ) .

وخرّجه مسلم.

وخرّج –أيضا - من حديث الأسود، عن عائشة، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر.

وخرّجه أبو داود –مطولاً.

جعل الوتر آخر صلاة الليل يستفاد منه فوائد عديدة.

فمنها: تأخير الوتر إلى آخر الليل؛ فان صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره.

ومنها: أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر –أيضا -، حتى تكون صلاة المغرب وتره.

فروى الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا هشام، عن محمد –هو: ابن
سيرين -، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ( ( صلاة المغرب وتر النهار، فاوتروا صلاة الليل) ) .
قال الدارقطني: رواه أيوب، عن نافع وابن سيرين، عن ابن عمر - موقوفاً.
ورواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر – موقوفاً.

ورفعه بعضهم عن مالك.

وهذا قد يستدل به على جواز الوتر، بعد طلوع الفجر، ويكون ايتاراً لصلاة الليل، وان كان بعد خروج الليل، كما يوتر صلاة النهار بالمغرب، وإنما يفعل بعد خروج النهار.

فهذا يدل على ان لا وتر لصلاة النهار غير صلاة المغرب، ولا وتر لصلاة الليل غير الوتر المأمور به، فمن تطوع في ليل أو نهار بوتر غير ذلك، فقد زال ايتاره لصلاته، وصارت صلاته شفعاً.

وفي صحة التطوع بشفع في الليل والنهار عن أحمد روايتان.
والصحة قول الشافعي، وعدم الصحة قول أبي حنيفة.
وقد ذكرنا ما يستدل به للمنع.

واستدل الشافعي ومن وافقه بان عمر دخل المسجد، فصلى ركعة، ثم قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.

وقد يعارض ذلك بالحديث المرفوع والموقوف: ( ( صلاة الليل والنهار مثنى
مثنى)
)
.

واستدلوا –أيضا - بأن جماعة نقضوا وترهم بركعة.

وهذا استدلال مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد أنكره عليهم غيرهم من الصحابة.
أنهم إنما نقضوه لتصير صلاتهم شفعاً، ثم يوترون.

ومن تطوع بركعة في الليل، من غير نقض، ثم أوتر لم يبق لوتره فائدة؛ فإنه صار وتره شفعاً.

ونحن نذكر هاهنا مسألة نقص الوتر:
وهي: إذا أوتر الإنسان من الليل، ثم أراد أن يصلي:
فقال كثير من الصحابة: يصلي ركعة واحدة فيصير بها وتره الماضي شفعاً، ثم يصلي ما أراد، ثم يوتر في آخر صلاته 0
وهؤلاء اخذوا بقوله: ( ( اجعلوا آخر صلاتكم وتراً) ) ، ولهذا روى ابن عمر هذا الحديث، وهو كان ينقض وتره، فدل على أنه فهمه منه.

وروي عن أسامة بن زيد وغير واحد من الصحابة، حتى قال أحمد: وروي ذلك عن اثني عشر رجلاً من الصحابة.

وممن روي ذلك عنه، منهم: عمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وابن عباس –في رواية -، وهو قول عمرو بن ميمون وابن سيرين وعورة ومكحول.

وأحمد –في رواية اختارها أبو بكر وغيره.
قال ابن أبي موسى: هي الأظهر عنه.

وقول إسحاق، قال إسحاق: وإن لم يفعل ذلك لم يكن قد عمل بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ) .

وهو –أيضا - وجه للشافعية.

ورد بعضهم هذا القول بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا وتران في ليلة) ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان في ( ( صحيحه) ) ، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وحسنه الترمذي.

وقالوا: هذا يؤدي إلى ثلاثة أوتار، فيكون منهيا عنه.

وقال الأكثرون: لا ينقض وتره، بل يصلي مثنى مثنى.

وهو قول ابن عباس –في المشهور عنه – وأبي هريرة وعائشة وعمار وعائذ بن عمرو وطلق بن علي ورافع بن خديج.

وروي عن سعد.
ورواه ابن المسيب، عن أبي بكر الصديق.

وفي رواية، عنه: أن الصديق ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاقره عليه، ولم ينكره.

خرجه حرب الكرماني.

ورواه خلاس، عن عثمان، ولم يسمع منه.

وهو قول علقمة وطاوس وسعيد بن جبير وأبي مجلز والشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد –في رواية عنه وصححها بعض أصحابنا.

واستدلوا بحديث: ( ( لا وتران في ليلة) ) ، وقد تقدم، وبقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا قام أحدكم من الليل يصلي، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) ) .

خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

وهو عام فيمن كان أوتر قبل ذلك، ومن لم يوتر.

واستدلوا –أيضا - بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين بعد وتره، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وبأن النقض يفضي إلى التطوع بالأوتار المعددة، وهو مكروه أو محظور.

وقد روي عن عائشة، أنها قالت: ذاك يلعب بوتره.

قال أحمد: كرهته عائشة، وأنا أكرهه.

وعن أحمد: أنه مخير بين الأمرين؛ لأنهما جميعاً مرويان عن الصحابة.

وقد روي عن علي، أنه خير بين الأمرين.

خرجه الشافعي بأسناد عنه، فيه ضعيف.
وخرج الطبراني: نا مقدام بن داود: نا عبد الله بن يوسف: نا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس القتباني، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العتمة، ثم يصلي في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات، يسلم في الأربع في كل ... ثنتين، ويوتر بثلاث، يتشهد في الأوليين من الوتر تشهده في التسليم، ويوتر بالمعوذات، فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين ويرقد، فإذا انتبه من نومه صلى ركعتين –وذكرت الحديث، ولم تذكر أنه أوتر في آخر الليل.

وهو غريب جداً، ومنكر؛ مخالف جميع الروايات الصحيحة عن عائشة.

ومقدام بن داود، من فقهاء مصر، ولم يكن في الحديث محموداً قالَ ابن يونس: تكلموا فيهِ.
وقال النسائي: ليس بثقة.

ويتصل بهذا: الكلام على حكم الصلاة بعد الوتر:
وقد كرهه طائفة من السلف.
ومستندهم: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ) ، وما أشبهه.

وروى عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، أنه كره الصلاة بعد الوتر.
وكان أبو مجلز لا يصلي بعد الوتر إلا ركعتين.
وقال قيس بن عباد: إذا أوترت ثم قمت فاقرأ وأنت جالس.

وظاهر هذا: أنه يقرا من غير صلاة.

وأما الأكثرون، فلم يكرهوا الصلاة بعد الوتر.
ولكن اختلفوا في نقضه – كما سبق.

ومذهب مالك: إذا أوتر قي المسجد، ثم أراد أن يتنفل بعده تربص قليلا، وإن انصرف بعد وتره إلى بيته تنفل ما أحب.

نقله في ( ( تهذيب المدونة) ) .

واستحب أحمد أن يكون بين وتره وبين صلاته بعد الوتر فصل.

قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يوتر، ثم يصلى بعد ذلك؟ قالَ: لا بأس به، يصلي مثنى مثنى.
قالَ: وأحب أن يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء.
قلت: ضجعة من غير نوم؟ فما أدري ما قالَ.

وروى المروذي، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان، يقوم فيوتر بهم، وهو يريد يصلي بقوم آخرين -: يشتغل بينهما بشيء، يأكل أو يشرب أو يجلس.

قال أبو حفص البرمكي: وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة، ويشتغل بينهما بشيء؛ ليكون فصلا بين وتره وبين الصَّلاة الثانية، وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه، فإما إن كانَ موضع آخر، فذهابه فصل، ولا يعيد الوتر ثانية؛ لأنه لا وتران في ليله 0 انتهى.
والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك:
قال – في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام، ثم دخل بيته -: يعجبني أن يكون بعد ضجعة أو حديث طويل واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل.

وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا.
فنقل المروذي وغيره، عنه: لا بأس به، وقد روي عن أنس فيه.

ونقل عنه ابن الحكم، قالَ: أكرهه، أنس يروى عنه أنه كرهه، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل، كما قال عمر.

قال أبو بكر عبد العزيز: قول محمد بن الحكم قول له قديم، والعمل على ما روى الجماعة، أنه لا بأس به.
انتهى.

وقال الثوري: التعقيب محدث.

ومن أصحابنا من جزم بكراهيته، إلا أن يكون بعد رقدة، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل، وشرطوا: أن يكون قد اوتروا جماعة في قيامهم الأول، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه.
ولم يشترط أحمد ذلك.

وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ.

وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب؛ لما فيهِ من المشقة عليهم، وقال: من كانَ فيهِ قوة فليجعلها على نفسه، ولا يجعلها على الناس.

وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر.

ونقل ابن المنصور، عن إسحاق بن راهويه، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته.
وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره.

فأما صلاة ركعتين بعد الوتر، فقد رويت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة، ولم يخرج البخاري منها شيئاً.

لكنه خرج من حديث عراك، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي بعد العشاء ثمان ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بين النداءين.

ولم تذكر الوتر في هذه الرواية، ولا بد منه.

والظاهر: أن الركعتين اللتين صلاهما جالسا كانتا بعد وتره، ويحتمل أن يكون قبله.

فقد خرج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.

وخرج –أيضا - من رواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات - وذكرت صفتها -، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، صنع في الركعتين مثل صنيعه الأول.

وفي رواية لأبي داود في هذا الحديث: كان يصلي ثمان ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة.

فعلى هذه الرواية: تكون صلاته ركعتين جالسا قبل الوتر، لا بعده.

وخرج أبو داود –أيضا - من رواية بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع، يسلم في التاسعة تسليمة شديدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم
الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ في الثانية، فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو ما شاء أن يدعو، ثم يسلم.

وهذه الرواية تخالف رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه كان إذا أراد أن يركع
قام.

وخرج أبو داود من رواية علقمة بن وقاص، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات، ثم اوتر بسبع ركعات، وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر، فقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد.
وخرجه مسلم، ولفظه: عن علقمة، قال: قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعتين وهو جالس؟ قالت: يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام
فركع.

وقد روي عن عائشة، من وجوه أخر.

وخرج النسائي من حديث شعبة، عن الحاكم: سمعت سعيد بن جبير يحدث، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى من الليل خمس ركعات، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصَّلاة.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ميمون المرئي، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس.

وخرجه الترمذي إلى قوله: ( ( ركعتين) ) .

وذكر العقيلي أن ميموناً تفرد برفعه، وغيره يرويه موقوفا على أم سلمة.

وفيه –أيضا - عن أبي أمامة وأنس وثوبان وغيرهم.
واختلف العلماء في الركعتين بعد الوتر؟
فمنهم من استحبها وأمر بها، ومنهم: كثير بن ضمرة وخالد بن معدان.

وفعلها الحسن جالساً.

وتقدم عن أبي مجلز، أنه كان يفعلها.

ومن أصحابنا من قال: هي من السنن الرواتب.

وفي حديث سعد بن هشام ما يدل على مواظبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما.

ومن هؤلاء من قال: الركعتان بعد الوتر سنة له، كسنة المغرب بعدها، ولم يخرج بذلك المغرب عن أن يكون وتراً لها.

ومن العلماء من رخص فيهما، ولم يكرههما، هذا قول الأوزاعي وأحمد.

وقال: ارجوا إن فعله أن لا يضيق، ولكن يكون ذلك وهو جالس، كما جاء في الحديث.
قيل له: تفعله أنت؟ قالَ: لا.

وقال ابن المنذر: لا يكره ذَلِكَ.

ومن هؤلاء من قال: إنما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك أحيانا لبيان الجواز فقط.

وحكي عن طائفة كراهة ذلك، منهم قيس بن عبادة ومالك والشافعي.

فأما مالك، فلم يعرف هاتين الركعتين بعد الوتر -: ذكره عنه ابن المنذر.
وأما الشافعي، فحكي عنه أنه قال: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نجعل آخر صلاتنا بالليل وتراً، فنحن نتبع أمره، وأما فعله فقد يكون مختصا به.

وأشار البيهقي إلى أن هاتين الركعتين تركهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فعلهما، وانتهى أمره إلى أن جعل آخر صلاته بالليل وتراً.

وهذا إشارة إلى نسخهما، وفيه نظر.

وإذا كان مذهب الشافعي أنه لا تكره الصلاة بعد الوتر بكل حال، فكيف تكره هاتان الركعتان بخصوصهما، مع ورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة بها؟
وقد ذكر بعض الناس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي ركعتين بعد وتره جالساً، لما كانَ يوتر من الليل ويجعل الركعتين جالسا كركعة قائمًا، فيكون كالشفع لوتره، حتَّى إذا قام ليصلي من آخر الليل لم يحتج إلى نقضه بعد ذَلِكَ.

وربما استأنسوا لذلك بحديث ثوبان: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال: ( ( إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ، وإلا كانتا له) ) .

خرجه ابن حبان في ( ( صحيحه) ) .

وهذا القول مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أن حديث عائشة يدل –لمن تأمله - على أن هذا كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في وتره من آخر الليل، لا من أوله، وكذلك حديث ابن عباس.
وثانيهما: أن صلاته جالساً لم تكن كصلاة غيره من أمته على نصف صلاة
القائم.

يدل عليه: ما خرجه مسلم في ( ( صحيحه) ) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدته يصلي جالساً، فقلت: حُدّثتُ يا رسول الله، إنك قلت:
( ( صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة) ) ، وأنت تصلي قاعداً؟ قالَ: ( ( أجل؛ ولكني لست كأحد منكم) ) .

وأما حديث ثوبان، فتأوله بعضهم على أن المراد: إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين.

وكأنه يريد أنه لا يقتصر في وتره في السفر على ركعة واحدة، بل يركع قبلها ركعتين، فيحصل له بهما نصيب من صلاة الليل، فإن لم يستيقظ من آخر الليل كان قد اخذ بحظ من الصلاة، وإن استيقظ صلى ما كتب له، وهذا متوجه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي في السفر صلاته من الليل قبل أن ينام.

ففي ( ( المسند) ) من حديث شرحبيل بن سعد، عن جابر، أنه كان مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فصلى العتمة –وجابر إلى جنبه -، ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة.

وشرحبيل، مختلف فيه.