فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: لا يدري متى يجيء المطر إلا الله وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس لا يعلمهن إلا الله»

باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله
وقال أبو هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " خمس لا يعلمهن إلا الله
".

حديث أبي هريرة هذا، قد خرجه في " كتاب: الإيمان " في حديث سؤال
جبريل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] عن الإسلام
والإيمان والإحسان، وأنه تلا عند ذلك هذه الآية:
( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) [لقمان: 34] الآية، وقد تقدم ذكره
والكلام عليه.

[ قــ :1005 ... غــ :1039 ]
- حدثنا محمد بن يوسف: نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن
ابن
عمر، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " مفتاح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد
ما يكون في غد [إلا الله] ،
ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس
ما تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد
متى يجيء
المطر.

قد سبق في الباب المشار إليه: الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه
الخمس، التي هي مفاتح
الغيب، التي قال فيها: ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59] .
وهذه الخمس المذكورة في
حديث ابن عمر، ليس فيها علم الساعة، بل
فيها ذكر متى يجيء المطر، بدل الساعة.

وهذا مما يدل على أن
علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في
خمس، بل هو أكثر من ذلك، مثل علمه بعدد خلقه، كما قال: ( وما تسقط
من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس)
[الأنعام: 59] .

ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه، كما قال:
( ولا يحيطون به علما) [طه: 110] .

وفي حديث ابن مسعود - في ذكر أسمائه -: " أو استأثرت به في
علم الغيب
عندك ".
وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها،
والعلم بمجموعها مما اختص الله بعلمه، وكذلك العلم القاطع بكل فرد فرد من أفرادها.

وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها
بطريق غير قاطع، بل يحتمل الخطأ
والإصابة فهو غير منفي؛ لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به، ونفاه
عن غيره.

وتقدم - أيضا - أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أوتي علم كل شيء، إلا هذه الخمس.

فأما اطلاع الله سبحانه له على
شيء من أفرادها، فإنه غير منفي - أيضا -،
وهو داخل في قوله تعالى: ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
( 26) إلا من ارتضى من رسول)
[الجن: 26، 27] الآية.

ولكن علم الساعة مما اختص الله به، ولم يطلع عليه غيره، كما تقدم في
حديث سؤال جبريل للنبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وكذلك جملة العلم بما في غد.

وقد قالت جارية
بحضرته [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
عن قول ذلك.

وقد خرجه البخاري في " النكاح ".

وأما العلم بما في الأرحام، فينفرد الله تعالى بعلمه، قبل أن يأمر ملك
الأرحام بتخليقه وكتابته، ثم بعد ذلك قد يطلع
الله عليه من يشاء من خلقه،
كما أطلع عليه ملك الأرحام.

فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علما يقينا، وإن
كان من غيرهم من
الصديقين والصالحين، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهرا.

كما روى الزهري، عن عروة،
عن عائشة، أن أبا بكر لما حضرته الوفاة
قال لها - في كلام ذكره -: إنما هو أخواك وأختاك.
قالت: فقلت هذا أخواي، فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، فإني أظنها جارية.

ورواه هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها
قالت له عند ذلك: إنما هي
أسماء؟ فقال: وذات بطن بنت خارجة، أظنها جارية.

ورواه هشام، عن أبيه: قد
ألقي في روعي، أنها جارية، فاستوصي بها
خيرا.
فولدت أم كلثوم.

وأما علم النفس بما تكسبه غدا، وبأي
أرض تموت، ومتى يجيء المطر،
فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله.

وأما الاطلاع على بعض أفراده، فإن كان
بإطلاع من الله لبعض رسله، كان
مخصوصا من هذا العموم، كما أطلع النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] على كثير من الغيوب المستقبلة،
وكان يخبر بها.

فبعضها يتعلق بكسبه، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف، وأخبر سعد بن
معاذ بذلك أمية بمكة
، وقال أمية: والله، ما يكذب محمد.

وأكثره لا يتعلق بكسبه، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم
،
وهو كثير جدا.

وقد أخبر بتبوك، أنه " تهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد "،
وكان كذلك.

والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في
وقت معين.
وكذلك إخباره [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ابنته فاطمة في مرضه، أنه مقبوض من مرضه.

وقد روي عنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، أنه قال: " ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض
الجنة ".

خرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، والنسائي من
حديث أم سلمة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .

وهو دليل على أنه علم موضع موته ودفنه.

وقد روي عنه، أنه قال: " لم يقبض نبي إلا دفن حيث يقبض ".

خرجه ابن ماجه وغيره.

وأما إطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو - كما تقدم
- لا يحتاج إلى
استثنائه؛ لأنه لا يكون علما يقينا، بل ظنا غالبا، وبعضه وهم، وبعضه حدس
وتخمين، وكل
هذا ليس بعلم، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه
وتعالى بعلمه، كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.