فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال

14 - فصل
خرج البخاري ومسلم من حديث:
[ قــ :22 ... غــ :22 ]
- عمرو بن يحي المازني، عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة – شك: مالك – فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ".
قال البخاري: و قال وهيب: حدثنا عمرو " الحياة " وقال: " خردل من خير ".
قد قيل: إن الرواية الصحيحة: " الحيا " هو: المطر، قاله الخطابي وغيره .
هذا الحديث نص في أن الإيمان في القلوب يتفاضل، فإن أريد به مجرد التصديق ففي تفاضله خلاف سبق ذكره ، إن أريد به ما في القلوب من أعمال الإيمان كالخشية والرجاء والحب والتوكل، ونحو ذلك فهو متفاضل بغير نزاع.
وقد بوب البخاري على هذا الحديث: " باب تفاوت أهل الإيمان في الأعمال " فقد يكون مراده الأعمال القائمة بالقلب كما بوب على أن المعرفة فعل القلب.
وقد يكون مراده أن أعمال الجوارح تتفاوت بحسب تفاوت إيمان القلوب فإنهما متلازمان.

وقد ذكر البخاري أن وهيبا خالف مالكا في هذا الحديث وقال: " مثقال حبة من خير ".
وفي الباب – أيضا – من حديث أنس بمعنى حديث أبي سعيد، وفي لفظه اختلاف كالاختلاف في حديث أبي سعيد.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر وفيه زيادة: " من قال لا إله إلا الله " .
وهذا يستدل به على أن الإيمان يفوق معنى كلمة التوحيد والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه الغرماء بمظالمهم؛ بل يبقى ( 192 - أ / ف) على صاحبه؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخلد بعض أهل التوحيد وصار مسلوبا ما في قلبه من التصديق وما قاله بلسانه من الشهادة، وإنما يخرج عصاة الموحدين من النار بهذين الشيئين، فدل على بقائهما على جميع من دخل النار منهم وأن الغرماء إنما يقتسمون الإيمان العملي بالجوارح، وقد قال ابن عيينه وغيره: إن الصوم خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغرماء – أيضا.
وأما الحبة بكسر الحاء فهي أصول النبات والعشب وقد قيل: أنها تنزل مع المطر من السماء، كذا قاله كعب غيره.
وقد ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب " المطر " وذكر فيه آثارا عن الأعراب.

وحميل السيل: محمولة؛ فإن السيل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب، وشبه نبات الخارجين من النار إذا ألقوا في نهر الحيا – أو الحياة – بنبات هذه الحبة لمعنيين: أحدهما: سرعة نباتها.
والثاني: أنها صفراء ملتوية ثم تستوي وتحسن، فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتا ضعيفا ثم يقوى ويكمل نباته ويحسن خلقه.
وقد جعل الله نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض، قال الله تعالى { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] وحياتهم من الماء، فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، ونشأتهم الثانية من قبورهم من الماء الذي ينزل من تحت العرش، فينبتون فيه كنبات البقل حتى تتكامل أجسادهم، ونبات من يدخل النار ثم يخرج منها من ماء نهر الحياة – أو الحيا.

وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون؛ ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال: بخطاياهم -، فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل .
وظاهر هذا: أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم [و] يحيون بإعادتها، ويكون ذلك قبل ذبح الموت.
ويشهد له: ما خرجه البزار في " مسنده " من حديث أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أدنى أهل الجنة منزلة أو نصيبا: قوم يخرجهم الله من النار فيرتاح لهم الرب عز وجل أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح في أجسادهم قالوا: ربنا! فالذي أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار، فتصرف وجوههم عن النار .



[ قــ :3 ... غــ :3 ]
- أبي سعيد، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها مايبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: " الدين "
وهذا الحديث نص في أن الدين يتفاضل؛ وقد استدل عليه بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وأشار البخاري إلى ذلك في موضع آخر.
ويدل عليه – أيضا – قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساء " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم ( 19 - ب / ف) من إحداكن " .
وفسر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها؛ فدل على دخول الصوم والصلاة في اسم الدين.
وقد صرح بدخول الأعمال في الدين طوائف من العلماء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم.

فمن قال: الإسلام والإيمان واحد فالدين عنده مرادف لهما، وهو اختيار البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل الحديث.

ومن فرق بينهما، فاختلفوا في ذلك؛ فمنهم من قال: إن الدين أعم منهما، فإنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان، كما دل عليه حديث جبريل، وقد أشار البخاري إلى هذا – فيما بعد -؛ لكنه من لا يفرق بين الإسلام والإيمان.

ومن قال: الإيمان: التصديق، والإسلام: الأعمال، فأكثرهم جعل الدين هو الإسلام وأدخل فيه الأعمال.
وإنما أخرج الأعمال من مسمى الدين: بعض المرجئة.

ومن قال: الإسلام: الشهادتان، والإيمان: العمل – كالزهري، وأحمد في رواية وهي التي نصرها القاضي أبو يعلي – جعل الدين هو الإيمان بعينه، وأجاب عن قوله تعالي {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] أن بعض الدين الإسلام.
وهذا بعيد.

وأما من قال: إن كلا من الإسلام والإيمان إذا أطلق مجردا دخل الآخر فيه، وإنما يفرق بينهما عند الجمع بينهما، وهو الأظهر؛ فالدين هو مسمى كل واحد منهما عند إطلاقه، وأما عند اقترانه بالآخر: فالدين أخص باسم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والانقياد وكذلك الدين يقال:: دانه يدينه إذا قهره، ودان له إذا استسلم له وخضع وانقاد؛ ولهذا سمى الله الإسلام دينا فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} {آل: عمران 19] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] .

وإنما فسر القمص في المنام: الدين؛ لأن الدين والإسلام والتقوى كل هذه توصف بأنها لباس، قال تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 6] ، وقال أبو الدرداء: الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة وينزعه أخرى، وفي الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ينزع منه سربال الإيمان " .
وقال النابغة:
الحمد لله الذي لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقال أبو العتاهية:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
فهذه كلها كسوة الباطن وهو الروح وهو زينة لها، كما في حديث عمار: " اللهم زينا بزينة الإيمان " .
كما أن الرياش زينة للجسد وكسوة له، قال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 6] .
ومن هنا قال مجاهد والشعبي وقتادة والضحاك والنخعي والزهري وغيرهم في قوله تعالى {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] إن المعنى: طهر نفسك من الذنوب.

وقال سعيد بن جبير: وقلبك ونيتك فطهر.
وقريب منه: قول من قال: وعملك فأصلح .
روى عن مجاهد وأبي روق والضحاك.
وعن الحسن والقرظي قالا: خلقك حسنه.
فكنى بالثياب عن الأعمال ( 193 - أ / ف) وهي الدين والتقوى والإيمان والإسلام، وتطهيره: إصلاحه وتخليصه من المفسدات له، وبذلك تحصل طهارة النفس والقلب والنية، وبه يحصل حسن الخلق؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة وديدنا وخلقا، قال تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] .
وفسره ابن عباس بالدين .