فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس»

2 - فصل
قال البخاري: الإيمان قول وفعل.

قال زين الدين ابن رجب رحمه الله.

وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل.
وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث.
وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا.

وقال الأوزراعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة.
وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح.

وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد ، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم: إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية.
وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا: الإيمان: المعرفة مع القول.

وحدث بعدهم من يقول: الإيمان: المعرفة خاصة، ومن يقول: الإيمان: القول خاصة.

والبخاري عبر عنه بأنه: قول وفعل.
والفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل.
ومنهم من يقول: هو أعم من العمل.
فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق.
ويشهد لهذا: قول عبيد بن عمير: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يفعل، وعمل يعمل.
خرجه الخلال .

ومنهم من قال: العمل: ما يحتاج إلى علاج ومشقة، والفعل: أعم من ذلك.
ومنهم من قال: العمل: ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا، والفعل أعم من ذلك.
ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل، فإن مقلوب عمل: لمع، ومعناه ظهر وأشرف.

وهذا فيه نظر، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقال { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها، فإن الله تعالى إنما ( 177 - أ / ف) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا} [إبراهيم: 45] ، { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد} [الفجر: 6] { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18] .

وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام.
واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل، قال تعالى { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .

ثم قال البخاري - رحمه الله: ويزيد وينقص.
قال الله عز وجل { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] ، { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17] ، { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، وقوله عز وجل { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] وقوله { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 173] ، وقوله { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] .

زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء.
وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة، وابن عباس وغيرهم من الصحابة.
وروي معناه عن علي، وابن مسعود - أيضا -، وعن مجاهد، وغيره من التابعين.
وتوقف بعضهم في نقصه، فقال: يزيد ولا يقال: ينقص وروي ذلك عن مالك، والمشهور عنه كقول الجماعة .
وعن ابن المبارك قال: الإيمان يتفاضل .
، وهو معنى الزيادة والنقص.
وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده.
وتلا البخاري - أيضا - الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى، فإن المراد بالهدى هنا: فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] ، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه.

ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها.
وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه: فهو كالعمل بالجوارح - أيضا -، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه.

وأما المعرفة بالقلب: فهل تزيد وتنقص؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تزيد ولا تنقص.
قال يعقوب بن بختان : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن المعرفة والقول: يزيد وينقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل.
ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة " ومراده بالقول: التلفظ بالشهادتين خاصة.
وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين.
والقول الثاني: أن المعرفة تزيد وتنقص.

قال المروذي: قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيد؟ قال: نعم.

ذكره الخلال عنه ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب "السنة " - أيضا -، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد.
وحكى القاضي - في " المعتمد " - وابن عقيل في المسألة روايتان عن أحمد، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص.
وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين:
أحدهما: زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر.
وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا.

والثاني: زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها ( 177 - ب/ف) ، فإن أدلتها لا تحصر، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك.
وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام الإحسان، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، والمراد: أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان .

وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن، والعلماء وهذا يشعر إجماع عنده.

ومما يدل على ذلك أيضا _: ما روى ابن وهب: أنا عبد الرحمن بن ميسرة، عن أبي هانيء الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ".

خرجه الحاكم ، وقال: صحيح الإسناد .

ثم قال البخاري رحمه الله: والحب في الله والبغض في الله من الإيمان.

وهذا يدل عليه: قول النبي صلي الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وذكر منهن: " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ".
وإذا كان الحب في الله والبغض في الله زاد الإيمان بزيادة ذلك ونقص بنقصانه.

قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلي عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص.
هذا الأثر: خرجه أبو بكر الخلال في كتاب " السنة " من رواية جرير بن حازم: حدثني عيسى بن عاصم، عن عدي بن عدي - وهو يومئذ أمير على أرمينية - قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: سلام عليك أما بعد، فإن للإيمان شرائع وحدودا وسننا، من استكملها استكمل الإيمان، فإن أعش فيكم أبينها لكم حتى تعملوا بها - إن شاء الله، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص.

قال البخاري: وقال إبراهيم عليه السلام { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
وقد فسرها سعيد بن جبير بالازدياد من الإيمان، فإنه قال له: { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فطلب زيادة في إيمانه، فإنه طلب أن ينتقل من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين وهي أعلى وأكمل.

وفي " المسند " " عن ابن عباس، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " ليس الخبر كالمعاينة ".

قال البخاري: وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة.

هذا الأثر: رواه سفيان الثوري والأعمش ومسعر - كلهم -، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس نؤمن ساعة - يعني نذكر الله .

وقد روي مثله عن طائفة من الصحابة، فروى زبيد، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيمانا، فيذكرون الله.
وروى أبو جعفر الخطمي، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب بن حماسة " - وهو من الصحابة - أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قالوا: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه .

فزيادة الإيمان بالذكر من وجهين:
أحدهما: أنه يجدد من الإيمان والتصديق ( 178 - أ/ف) في القلب ما درس منه بالغفلة كما قال بن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع.
وفي " المسند " عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " جددوا إيمانكم " قالوا: كيف نجدد إيماننا؟ قال: " قولوا: لا إله إلا الله ".

والثاني: أن الذكر نفسه من خصال الإيمان، فيزداد الإيمان بكثرة الذكر، فإن جمهور أهل السنة على أن الطاعات كلها من الإيمان فرضها ونفلها، وإنما أخرج النوافل من الإيمان قليل منهم.

قال البخاري: وقال ابن مسعود: اليقين: الإيمان كله.

هذا الأثر: رواه الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن ابن مسعود .
واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوة التصديق حتى ينفي الريب ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله.
وكذا قال الشعبي - أيضا.

وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان مجرد التصديق ، حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين، ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان، إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين.

قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين .
وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار .
ويذكر عن لقمان قال: العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله .
قال عبد الله بن عكيم: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفهما.

قال البخاري: وقال ابن عمر: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر.

قال زين الدين ابن رجب: هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري ، وقد روي معناه مرفوعا.
وموقوفا على أبي الدرداء.
فخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث عطية السعدي، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " وفي إسناده بعض مقال.
وروى ابن ابي الدنيا بإسناد منقطع، عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى: أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام .

وإنما ذكر البخاري هذا الأثر في الباب، لأن خصال التقوى هي خصال الإيمان، وقد صح عن مجاهد أن أبا ذر سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية.

وهذا مرسل.
وقد روي من وجه آخر، وفيه انقطاع - أيضا.
قال البخاري: وقال مجاهد: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} : أوصيناك وإياه يا محمد دينا واحدا .

روى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] قال: وصاك به وأنبياءه كلهم دينا واحدا .

ومعنى ذلك: أن دين الأنبياء كلهم دين واحد وهو الإسلام العام المشتمل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعلى توحيد الله وإخلاص الدين له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 4، 5] .

والدين: هو الإسلام - كما صرح به في مواضع أخر -، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان وبالعكس.
وقد استدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية، وهي قوله: { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} طوائف من الأئمة، منهم الشافعي، وأحمد ، والحميدي ، وقال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية .

واستدل الأوزاعي بقوله تعالى { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى قوله { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا} ( الشورى: 13) ، وقال: الدين: الإيمان والعمل، واستدل بقوله تعالى { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ( التوبة: 11) .
وقد ذكر الخلال في كتاب " السنة " أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظهم بالأسانيد إليهم.

قال البخاري: وقال ابن عباس: { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] سبيلا وسنة.
وهذا من رواية أبي إسحاق، عن التيمي، وعن ابن عباس شرعة ومنهاجا: سبيلا وسنة .

ومعنى قول ابن عباس: أن المنهاج هو السنة، وهو الطريق الواسعة المسلوكة المداوم عليها، والشرعة: هي السبيل والطريق الموصل إليها، فهي كالمدخل إليها كمشرعة الماء وهي المكان الذي يورد الماء منه، ويقال: شرع فلان في كذا إذا ابتدأ فيه، وأنهج البلاء في الثوب إذا اتسع فيه.
وبذلك فرق طائفة من المفسرين وأهل اللغة بين الشريعة والمنهاج، منهم الزجاج وغيره.

قال الله تعالى { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] قال البخاري: ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان.

اعلم أن أصل الدعاء في اللغة: الطلب، فهو استدعاء لما يطلبه الداعي ويؤثر حصوله، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه كقول الداعي: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان.

وفي " السنن الأربعة" عن النعمان بن بشير، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .

فما استجلب العبد من الله ما يحب واستدفع منه ما يكره بأعظم من اشتغاله بطاعة الله وعبادته وذكره وهو حقيقة الإيمان، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا.
وفي الترمذي " عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " .
وقال بعض التابعين: لو أطعتم الله ما عصاكم، يعني: ما منعكم شيئا تطلبونه منه.
وكان سفيان يقول: الدعاء ترك الذنوب - يعني: الاشتغال بالطاعة عن المعصية.
وأما قوله تعالى { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] فيه للمفسرين قولان: أحدهما: أن المراد: لولا دعاؤكم إياه، فيكون الدعاء بمعنى الطاعة - كما ذكرنا.

والثاني: لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته كما في قوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
أي: لأدعوهم إلى عبادتي.
( 179 - أ /ف) .

وإنما اختلف المفسرون في ذلك، لأن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى.

فصل
خرج البخاري من حديث:
[ قــ :8 ... غــ :8 ]
- عكرمة بن خالد عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ".
وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمس أركان، وهذا يدل على أن البخاري يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان.

ومعنى قوله صلي الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس ": أن الإسلام مثله كبنيان، وهذه الخمس: دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان.
وقد روي في لفظ: " بني الإسلام على خمس دعائم ".
خرجه محمد بن نصر المروزي .

وإذا كانت هذه دعائم البنيان وأركانه، فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان، فإذا فقد شيء من بقية الخصال الداخلة في مسمى الإسلام الواجب نقص البنيان ولم يسقط بفقده.
وأما هذه الخمس، فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها وكذلك ( إن) زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما.
وأما زوال الأربع البواقي: فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها؟ أم لا يزول بذلك؟ أم يفرق بين الصلاة وغيرها فيزول بترك الصلاة دون غيرها؟ أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة.
وفي ذلمك اختلاف مشهور، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة.

وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة.
وكذلك قال سفيان بن عيينه: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسا سواء، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال: معصية، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر: هو كفر.
وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعملوا بشرائعه.
وروي عن عطاء ونافع مولى ابن عمر أنهما سئلا عمن قال: الصلاة فريضة ولا أصلي، فقالا: هو كافر.
وكذا قال الإمام أحمد.

ونقل حرب عن إسحاق قال: غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد، إذ هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة.
وظاهر هذا: أنه يكفر بترك هذه الفرائض.
وروى يعقوب الأشعري، عن ليث، عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن أفطر يوما في رمضان ( 179 - ب/ف) فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر .

ويروى عن الحكم بن عتيبة نحوه، وحكى رواية عن أحمد - اختارها أبو بكر من أصحابه -، وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله، وهو قول أبي بكر الحميدي .

وروي عن ابن عباس التكفير ببعض هذه الأركان دون بعض، فروى مؤمل، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس - ولا أحسبه إلا رفعه - قال: " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وصوم رمضان، من ترك منها واحدة فهو بها كافر حلال الدم، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه، وتجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه .
ورواه قتيبة عن حماد بن زيد فوقفه واختصره ولم يتمه.
ورواه سعيد بن زيد - أخو حماد - عن عمرو بن مالك ورفعه، وقال: " من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله " ولم يزد على ذلك.

والأظهر: وقفه على ابن عباس، فقد جعل ابن عباس ترك هذه الأركان كفرا، لكن بعضها كفرا يبيح الدم وبعضها لا يبيحه، وهذا يدل على أن الكفر بعضه ينقل عن الملة وبعضه لا ينقل.

وأكثر أهل الحديث على أن ترك الصلاة كفر دون غيرها من الأركان كذلك حكاه محمد بن نصر المروزي وغيره عنهم.
وممن قال بذلك: ابن المبارك، وأحمد - في المشهور عنه -، وإسحاق، وحكى عليه إجماع أهل العلم - كما سبق - وقال أيوب: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.
وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.

خرجه الترمذي .

وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم قالوا: من ترك الصلاة فقد كفر.
وقال عمر: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة .

وفي صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " " بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة " .

وخرج النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " العهد الذي بيننا وبينهم: الصلاة، فمن تركها فقد كفر " .
وصححه الترمذي وغيره.
ومن خالف في ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملة كما في قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة.
وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع.

قال حذيفة: الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والحج سهم، ورمضان سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له.
وروي مرفوعا، والموقوف أصح .
فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص.

وقد ضرب الله ورسوله مثل الإيمان ( 180 - أ /ف) والإسلام بالنخلة.
قال الله تعالى: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهاَ} [إبراهيم: 23 - 24] .

فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد وهي أساس الإسلام، وهي جارة على لسان المؤمن وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن، وارتفاع فرعها في السماء هو علو هذه الكلمة وبسوقها وأنها تحرق الحجب ولا تتناهى دون العرش، وإتيانها أكلها كل حين: هو ما يرفع بسببها للمؤمن كل حين من القول الطيب والعمل الصالح، فهو ثمرتها.
وجعل النبي صلي الله عليه وسلم مثل المؤمن أو المسلم كمثل النخلة .

وقال طاوس: مثل ( الإسلام) كشجرة أصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا وكذا، وثمرها: الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع فيه .
ومعلوم أن ما دخل في مسمى الشجرة والنخلة من فروعها وأغصانها وورقها وثمرها إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها، ولكن يقال: هي شجرة ناقصة، وغيرها أكمل منها، فإن قطع أصلها وسقطت لم تبق شجرة، وإنما تصير حطبا، فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل في مسماه مع بقاء أركان بنيانه لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلية، وإن كان قد سلب الاسم عنه لنقصه بخلاف ما انهدمت أركانه وبنيانه فإنه يزول مسماه بالكلية، والله أعلم