فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر
36 - فصل
قال البخاري:
خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
وقال إبراهيم التميمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] .
مراد البخاري بهذا الباب: الرد عل المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي مادام مؤمنا.
فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وهذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ولفظه: " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا " .
ومعناه: أن المؤمن يصف الإيمان بقوله، وعمله نقص عن وصفه، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله، كما روي عن حذيفة أنه قال: المنافق: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وعن عمر قال: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: وكيف يكون المنافق عليما؟ قال: يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال بالمنكر .
وقال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخشون النفاق قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا، نعم شديدا نعم شديدا .
وكان قد أدرك عمر.
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري .
وأما التابعون: فكثير، قال ابن سيرين: ما علي شيء أخوف من هذه الآية { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة 8] .
وقال أيوب: كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي.
وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا ؟ .
وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا.
وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم.
قال زيد بن الزرقاء، عن سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث:
نقول الإيمان قول وعمل، وهو يقولون: الإيمان قول ولا عمل
ونقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق .
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: قد خاف عمر على نفسه النفاق ( 208 – أ / ف) قال : فقلت للأوزاعي: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع.
وقال الإمام أحمد – في رواية هانيء وسئل: ما يقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ ، - فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟ .
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر: في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [الأنعام: 110] .
والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة: هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه .
وفي الصلت ضعف.
وفي بعض الروايات: عنه، عن ابن أبي مليكة قال: أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.
وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن: فقال: ويذكر عن الحسن قال: ما خاف إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق، فهذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه.
والعجب من قوله في هذا: ويذكر، وفي قوله في الذي قبله: وقال ابن أبي مليكة – جزما .
قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له: حدثنا مؤمل قال: سمعت حماد بن زيد قال: ثنا أيوب قال: سمعت الحسن يقول: والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق.
حدثنا روح بن عبادة قال: ثنا هشام قال: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق.
وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان، عن معلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن.
قال: وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق .
وعن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق .
والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة.
وقول البخاري بعد ذلك: " وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] : فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر.
وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ك " ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ".
وأقماع القول: الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه.
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر فقال وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] والمراد بالحنث: الذنب الموقع في الحنث وهو الإثم.
وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب ( 208 – ب / ف) أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال: ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله عز وجل يقول { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} .
ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} الآية [البقرة: 264] ، وقال { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب} الآية [البقرة: 266] .
وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله.
وصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من ترك صلاة العصر حبط عمله " .
وفي " الصحيح " – أيضا – أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله: " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " .
وقالت عائشة: أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يتوب.
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها.
وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح، فأنزل الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال ْ .
وبإسناده، عن الحسن في قوله { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال: بالمعاصي.
وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الكبائر.
وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها .
وعن السدي قال في هذه الآية يقول: لا تعصوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يأمركم به من القتال فتبطل حسناتكم.
وعن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أنها نزلت فشقت على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يؤمئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة، فلمت نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ما هذا الذي يبطل أعمالنا.
فبلغني – والله أعلم – أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار حتى جاءت الآية الأخرى { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه شيءِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] ، فقال ابن عمر: لما كانت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ورددنا إلى الله عز وجل، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه .
والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها.
حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة.
وخرجه البزار عنه مرفوعا .
( 209 - أ / ف) .
وعن عطاء قال: إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة.
وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، عنه: ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله.
وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال ولم يقف عل أقوال السلف الصالح في ذلك.
نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار.
وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك.
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
أحدهما: حديث:
[ قــ :48 ... غــ :48 ]
- شعبة، عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ".
فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخون الأعمال في الإيمان؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وهو قتال المسلمين، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وبعضها يسمى إيمانا.
وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث.
وأما أبو وائل فليس بمتهم؛ بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود – أيضا -: أبو عمر الشيباني، وأبو الأحوص وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ؛ لكن فيهم من وقفه.
ورواه – أيضا – عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعد بن أبي وقاص ، وغيره.
ومثل هذا الحديث: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرا وإيمانا مستوفى في مواضع.
قال أبو الفرج زين الدين بن رجب.
وقد ظهر لي في القرآن شاهد لتسمية القتال كفرا، وهو قوله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفدُوهُم ْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة: 83 - 85] .
والمعنى: أن الله حرم على أهل الكتاب أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرج بعضهم بعضا من داره، كان اليهود حلفاء الأوس والخزرج بالمدينة، فكان إذا وقع بين الأوس أوالخزرج وبين اليهود قتال ساعد كل فريق من اليهود بحلافه من الأوس والخزرج على أعدائهم فقتلوهم معهم وأخرجوهم معهم من ديارهم بعد أن حرم عليهم ذلك في كتابهم وأقروا به وشهدوا به، ثم بعد أن يوسر أولئك اليهود يفدوهم هؤلاء الذين قاتلوهم امتثالا لما أمروا به في كتابهم من افتداء الأسرى منهم، فسمى الله عز وجل فعلهم للافتداء لإخوانهم إيمانا بالكتاب وسمى قتلهم وإخراجهم من ديارهم كفرا بالكتاب؛ فدلت هذه الآية عل أن القتال والإخراج من الديار إذا كان محرما يسمى كفرا، وعل أن فعل بعض الطاعات يسمى إيمانا؛ لأنه سمى افتداءهم للأسارى إيمانا؛ وهذا حسن جدا، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض له، ولله الحمد والمنة.
الحديث الثاني:
[ قــ :49 ... غــ :49 ]
- عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان ( 09 – ب /ف) فرفعت فعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس ".
إنما خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب لذكر التلاحي.
والتلاحي: قد فسر بالسباب، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب.
ويؤيد هذا: أنه جاء في رواية في " صحيح مسلم ": " فجاء رجلان يحتقان " – أي: يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك.
فمن فسره بالسباب احتمل عنده إدخال البخاري للحديث في هذا الباب أن السباب تعجل عقوبته حتى يحرم المسلمون بسببه معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم.
وإنما رجا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون ذلك خيرا؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله، أو أوتاره في طلبها، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته.
ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها، فرفع ذلك بسبب التلاحي؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين.
وقال ابن سيرين: ما اختلف في الأهل حتى قتل عثمان.
فكلما أحدث الناس ذنوبا أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم، وقد يكون في خفائه رخصة لمن ارتكبه وهو غير عالم بالنهي عنه، إذ لو علمه ثم ارتكبه لاستحق العقوبة.
ومن فسر التلاحي بالاختصام قال: مراد البخاري بإدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن التلاحي من غير سباب ليس بفسوق ولا يترتب عليه حكم الفسوق؛ لأنه كان سببا لما هو خير للمسلمين.
وهذا هو الذي أشار إليه الإسماعيلي؛ وفيه نظر، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون مراد البخاري: أن السباب ليس بمخرج عن الإسلام من كونه فسوقا؛ ولهذا قال في الحديث: " فتلاحى رجلان من المسلمين "، فسماههما مسلمين مع تلاحيهما.
وفي " مسند البزار " من حديث معاذ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن أول شيء نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان: شرب الخمر، وملاحاة الرجال " .
وفي إسناده عمروبن واقد الشامي وهو ضعيف جدا.
وإنما حرمت الخمر بعد الهجرة بمدة.
ولكن رواه الأوزاعي، عن عروة بن رويم مرسلا.
خرجه أبو داود في " مراسيله" .
قال البخاري:
خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
وقال إبراهيم التميمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] .
مراد البخاري بهذا الباب: الرد عل المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي مادام مؤمنا.
فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.
وهذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ولفظه: " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا " .
ومعناه: أن المؤمن يصف الإيمان بقوله، وعمله نقص عن وصفه، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله، كما روي عن حذيفة أنه قال: المنافق: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وعن عمر قال: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: وكيف يكون المنافق عليما؟ قال: يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال بالمنكر .
وقال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخشون النفاق قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا، نعم شديدا نعم شديدا .
وكان قد أدرك عمر.
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري .
وأما التابعون: فكثير، قال ابن سيرين: ما علي شيء أخوف من هذه الآية { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة 8] .
وقال أيوب: كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي.
وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا ؟ .
وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا.
وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم.
قال زيد بن الزرقاء، عن سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث:
نقول الإيمان قول وعمل، وهو يقولون: الإيمان قول ولا عمل
ونقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق .
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: قد خاف عمر على نفسه النفاق ( 208 – أ / ف) قال : فقلت للأوزاعي: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع.
وقال الإمام أحمد – في رواية هانيء وسئل: ما يقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ ، - فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟ .
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر: في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [الأنعام: 110] .
والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة: هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه .
وفي الصلت ضعف.
وفي بعض الروايات: عنه، عن ابن أبي مليكة قال: أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.
وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن: فقال: ويذكر عن الحسن قال: ما خاف إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق، فهذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه.
والعجب من قوله في هذا: ويذكر، وفي قوله في الذي قبله: وقال ابن أبي مليكة – جزما .
قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له: حدثنا مؤمل قال: سمعت حماد بن زيد قال: ثنا أيوب قال: سمعت الحسن يقول: والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق.
حدثنا روح بن عبادة قال: ثنا هشام قال: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق.
وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان، عن معلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن.
قال: وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق .
وعن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق .
والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة.
وقول البخاري بعد ذلك: " وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] : فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر.
وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ك " ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ".
وأقماع القول: الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه.
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر فقال وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] والمراد بالحنث: الذنب الموقع في الحنث وهو الإثم.
وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب ( 208 – ب / ف) أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال: ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله عز وجل يقول { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} .
ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} الآية [البقرة: 264] ، وقال { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب} الآية [البقرة: 266] .
وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله.
وصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من ترك صلاة العصر حبط عمله " .
وفي " الصحيح " – أيضا – أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله: " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " .
وقالت عائشة: أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يتوب.
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها.
وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح، فأنزل الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال ْ .
وبإسناده، عن الحسن في قوله { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال: بالمعاصي.
وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الكبائر.
وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها .
وعن السدي قال في هذه الآية يقول: لا تعصوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يأمركم به من القتال فتبطل حسناتكم.
وعن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أنها نزلت فشقت على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يؤمئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة، فلمت نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ما هذا الذي يبطل أعمالنا.
فبلغني – والله أعلم – أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار حتى جاءت الآية الأخرى { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه شيءِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] ، فقال ابن عمر: لما كانت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ورددنا إلى الله عز وجل، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه .
والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها.
حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة.
وخرجه البزار عنه مرفوعا .
( 209 - أ / ف) .
وعن عطاء قال: إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة.
وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، عنه: ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله.
وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال ولم يقف عل أقوال السلف الصالح في ذلك.
نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار.
وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك.
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
أحدهما: حديث:
[ قــ :48 ... غــ :48 ]
- شعبة، عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ".
فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخون الأعمال في الإيمان؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وهو قتال المسلمين، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وبعضها يسمى إيمانا.
وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث.
وأما أبو وائل فليس بمتهم؛ بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود – أيضا -: أبو عمر الشيباني، وأبو الأحوص وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ؛ لكن فيهم من وقفه.
ورواه – أيضا – عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعد بن أبي وقاص ، وغيره.
ومثل هذا الحديث: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرا وإيمانا مستوفى في مواضع.
قال أبو الفرج زين الدين بن رجب.
وقد ظهر لي في القرآن شاهد لتسمية القتال كفرا، وهو قوله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفدُوهُم ْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة: 83 - 85] .
والمعنى: أن الله حرم على أهل الكتاب أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرج بعضهم بعضا من داره، كان اليهود حلفاء الأوس والخزرج بالمدينة، فكان إذا وقع بين الأوس أوالخزرج وبين اليهود قتال ساعد كل فريق من اليهود بحلافه من الأوس والخزرج على أعدائهم فقتلوهم معهم وأخرجوهم معهم من ديارهم بعد أن حرم عليهم ذلك في كتابهم وأقروا به وشهدوا به، ثم بعد أن يوسر أولئك اليهود يفدوهم هؤلاء الذين قاتلوهم امتثالا لما أمروا به في كتابهم من افتداء الأسرى منهم، فسمى الله عز وجل فعلهم للافتداء لإخوانهم إيمانا بالكتاب وسمى قتلهم وإخراجهم من ديارهم كفرا بالكتاب؛ فدلت هذه الآية عل أن القتال والإخراج من الديار إذا كان محرما يسمى كفرا، وعل أن فعل بعض الطاعات يسمى إيمانا؛ لأنه سمى افتداءهم للأسارى إيمانا؛ وهذا حسن جدا، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض له، ولله الحمد والمنة.
الحديث الثاني:
[ قــ :49 ... غــ :49 ]
- عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان ( 09 – ب /ف) فرفعت فعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس ".
إنما خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب لذكر التلاحي.
والتلاحي: قد فسر بالسباب، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب.
ويؤيد هذا: أنه جاء في رواية في " صحيح مسلم ": " فجاء رجلان يحتقان " – أي: يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك.
فمن فسره بالسباب احتمل عنده إدخال البخاري للحديث في هذا الباب أن السباب تعجل عقوبته حتى يحرم المسلمون بسببه معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم.
وإنما رجا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون ذلك خيرا؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله، أو أوتاره في طلبها، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته.
ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها، فرفع ذلك بسبب التلاحي؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين.
وقال ابن سيرين: ما اختلف في الأهل حتى قتل عثمان.
فكلما أحدث الناس ذنوبا أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم، وقد يكون في خفائه رخصة لمن ارتكبه وهو غير عالم بالنهي عنه، إذ لو علمه ثم ارتكبه لاستحق العقوبة.
ومن فسر التلاحي بالاختصام قال: مراد البخاري بإدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن التلاحي من غير سباب ليس بفسوق ولا يترتب عليه حكم الفسوق؛ لأنه كان سببا لما هو خير للمسلمين.
وهذا هو الذي أشار إليه الإسماعيلي؛ وفيه نظر، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون مراد البخاري: أن السباب ليس بمخرج عن الإسلام من كونه فسوقا؛ ولهذا قال في الحديث: " فتلاحى رجلان من المسلمين "، فسماههما مسلمين مع تلاحيهما.
وفي " مسند البزار " من حديث معاذ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن أول شيء نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان: شرب الخمر، وملاحاة الرجال " .
وفي إسناده عمروبن واقد الشامي وهو ضعيف جدا.
وإنما حرمت الخمر بعد الهجرة بمدة.
ولكن رواه الأوزاعي، عن عروة بن رويم مرسلا.
خرجه أبو داود في " مراسيله" .