فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل من استبرأ لدينه

38 - فصل
خرج البخاري ومسلم من حديث:
[ قــ :52 ... غــ :52 ]
- النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه.
وهو حديث ( 213 - أ / ف) صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد أو متقارب.

وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس ؛ وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.

ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين:
أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين.
ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك.

القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم
أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى، كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس .
وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها م الحرام وبعدها عنه.
وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا؟ وما يشك في زوال ملكه عنه.
وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل فيبني عليه، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل ويقع التردد عند تساوي الأمرين.
وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات .
وغيرها من المكيلات، والموزونات والنقود.

فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها فتبعه فهو المصيب، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة، ومن اشتبهت عليه فلم يتقها؛ بل وقع فيها فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يواقعه.
وفي رواية: " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ".

ومعنى هذا: أن من وقع في الشبهات كان جديرا بأن يقع في الحرام بالتدريج؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة ( 213 - ب / ف) فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده؛ ولهذا جاء في رواية: " ومن خالط الريبة يوشك أن يجسر " يعني: يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه.

ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه، وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر.
وقوله: " ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه "، وفي رواية: " ألا وإن حمى الله محارمه " : ضرب مثل لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ويمنع الناس من الدخول إليه، فمن تباعد عنه فقد توقى سخط الملك وعقوبته، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك وعقوبته؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى؛ وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات كما يحرم الخلوة بالأجنبية وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكما يمنع من تحرك القبلة شهوته في صيامه من القبلة، وكما يؤمر من يباشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق إزار ما بين سرتها وركبتها، وكما يضمن من سيب دابته نهارا بقرب زرع غيره فتفسده، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم فصاد فيه فإنه يضمن في الصورتين على الأصح.

وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها.
وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير إلى ما أداه إليه اجتهادة وطلبه.

ثم ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح فلم تنبعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه فقنعت بالحلال عن الحرام.
وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها وانبعث في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه ولم تقنع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق، فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.

والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه.

وقد بوب البخاري على هذا ( 214 - أ / ف) الحديث: باب " فضل من استبرأ لدينه ".
والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن من اتقى الأمور المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام؟ فإنه مستبرىء لدينه بمعنى: أنه طالب له البراء والنزاهة مما يدنسه ويشينه؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرض دينه للدنس والشين والقدح، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيا نزها بريا، وتارة يكون دنسا متلوثا.
والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة، وتارة بالرقة والضعف، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن وتارة بأنه غير حسن، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى.

هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخص شخص، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو فإنه يوصف بالنزاهة.
قال أبو هريرة: الإيمان نزه، فإن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان.
خرجه الإمام أحمد في كتاب " الإيمان "
ومن كلام يحيى بن معاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.