فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، وما يصدق النساء في الحيض والحمل، فيما يمكن من الحيض

باب
إذا حاضتْ في شهرٍ ثلاثَ حيضٍ، وما يصدقُ النساءُ
في الحيضِ والحملِ فيها يمكنُ منَ الحيضِ
لقول الله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}
[البقرة: 228] .

ويذكر عَن علي وشريح: إن جاءت ببينة مِن بطانة أهلها - ممن يرضى دينه - أنها حاضت ثلاثاً في شهر؛ صدقت.

وقال عطاء: أقراؤها كانت.

وبه قالَ إبراهيم.

وقال عطاء: الحيض يوم إلى خمسة عشر.

وقال المعتمر، عَن أبيه: سألت ابن سيرين عَن المرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.

أمَّا قول الله - عز وجل -: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}
[البقرة: 228] ، فإنه يدل على أن المرأة مؤتمنة على الإخبار بما في رحمها، ومصدقة فيهِ إذا ادعت مِن ذَلِكَ ممكناً.

روى الأعمش، عَن مسلم، عَن مسروق، عَن أبي بنِ كعب، قالَ: إن مِن الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها.
وقد اختلف المفسرون مِن السلف فَمِن بعدهم في المراد بقولِهِ تعالى: { مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ} ، ففسره قوم بالحمل، وفسره قوم بالحيض.

وقال آخرون: كل منهما مراد، واللفظ صالح لهما جميعاً.
وهذا هوَ المروي عَن أكثر السلف، مِنهُم: ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، والضحاك.

وأما ما ذكره عَن علي وشريح:
فقالَ حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هوَ: ابن راهويه -: ثنا عيسى بنِ يونس، عَن إسماعيل بنِ أبي خالد، عَن الشعبي، أن امرأة جاءت إلى علي بنِ أبي طالب، فقالت: إني طلقت، فحضت في شهر ثلاث حيض؟ فقالَ علي لشريح: قل فيها، فقالَ: أقول فيها وأنت شاهد! قالَ: قل فيها، قالَ: إن جاءت ببطانة مِن أهلها ممن يرضى دينهن وأمانتهن فقلن: إنها حاضت ثلاث حيض طهرت عند كل حيضة؛ صدقت.
فقالَ علي: قالون.
قالَ عيسى: بالرومية: أصبت.

قالَ حرب: وثنا إسحاق: أبنا محمد بن بكر: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عَن قتادة، عَن عزرة، عَن الحسن العرني، أن امرأة طلقها زوجها، فحاضت في خمس وثلاثين ليلة ثلاث حيض، فرفعت إلى شريح فلم يدر ما يقول فيها، ولم يقل شيئاً، فرفعت إلى علي بن أبي طالب، فقالَ: سلوا عنها جاراتها، فإن كانَ هكذا حيضها فَقد انقضت عدتها، وإلا فأشهر ثلاث.
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع؛ فإن الحسن العرني لَم يدرك علياً -: قاله أبو حاتم الرازي.

وأما الإسناد الذِي قبله، فإن الشعبي رأى علياً يرجم شراحة ووصفه.
قالَ يعقوب بنِ شيبة: لكنه لَم يصحح سماعه منهُ.

وأما ما ذكره البخاري عَن عطاء والنخعي:
فروى ابن المبارك، عَن ابن لهيعة، عَن خالد بنِ يزيد، عَن عطاء، في امرأة طلقت، فتتابعت لها ثلاث حيض في شهر: هل [حلت] ؟ قالَ: أقراؤها ما كانت.

وروي نحوه عَن النخعي، كَما حكاه البخاري، وحكاه عَنهُ إسحاق بن
راهويه.

فهؤلاء كلهم يقولون: إن المرأة قَد تنقضي عدتها بثلاثة أقراء في شهر واحد، وَهوَ قول كثير مِن العلماء، مِنهُم: مالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.

وهذا ينبني على أصلين:
أحدهما: الاختلاف في الأقراء: هل هي الأطهار، أو الحيض؟ وفيه قولان مشهوران.

ومذهب مالك والشافعي: أنها الأطهار، ومذهب أحمد - الصحيح عَنهُ -، وإسحاق: أنها الحيض، وستأتي المسألة مستوفاةً في موضع آخر مِن الكِتابِ - إن شاء الله تعالى.
والثاني: الاختلاف في مدة أقل الحيض وأقل الطهر بين الحيضتين.

فأما أقل الحيض: فمذهب الشَافِعي وأحمد - المشهور عَنهُ - وإسحاق: أنَّهُ يوم وليلة.

وأما أقل الطهر بين الحيضتين: فمذهب الشافعي وأحمد - في رواية عَنهُ -: أنَّهُ خمسة عشر يوماً، وَهوَ قول كثير مِن أصحاب مالك.

والمشهور عَن أحمد: أن أقله ثلاثة عشر يوماً.

وعند إسحاق: أقله عشرة أيام -: نقله عَنهُ حرب.

وَهوَ رواية ابن القاسم، عَن مالك.

واختلفت الرواية عَن مالك في ذَلِكَ.

فعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فيمكن انقضاء العدة بثلاثة قروء في تسعة وعشرين يوماً.

وعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر خمسة عشر فلا تنقضي العدة في أقل مِن ثلاثة وثلاثين يوماً.

وأما على قول مِن يقول: الأقراء الأطهار: فإن قيل: بأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر؛ فأقل ما تنقضي فيهِ العدة بالأقراء ثمانية وعشرون يوماً.

وإن قيل: أقل الطهر خمسة عشر؛ فاثنان وثلاثون يوماً.

فأما مالك وأصحابه، فقالَ ابن القاسم: سألت مالكاً، إذا قالت: قَد حضت ثلاث حيض في شهر؟ قالَ: تسأل النساء عَن ذَلِكَ، فإن كن يحضن كذلك ويطهرن
لَهُ؛ كانت مصدقة.

وهذا هوَ مذهب مالك المذكور في ( ( المدونة) ) ، واختاره الأبهري مِن أصحابه، وبناه على أن الحيض لا حد لأقله، بل أقله دفقة وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر.
ومن المالكية مِن قالَ: يقبل في أربعين يوماً، فاعتبر أقل الطهر وخمسة أيام مِن كل حيضة.
ومنهم مِن قالَ: تنقضي في ستة وثلاثين يوماً، فاعتبر أقل الطهر وثلاثة أيام للحيضة.

فلم يعتبر هَذا ولا الذِي قبله الحيض ولا أكثره.

وقد ينبني الذِي نقله ابن القاسم، عَن مالك، على قولُهُ: إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين، بل هوَ على ما تعرف المرأة مِن عادتها.

وَهوَ رواية منصوصة عَن أحمد، اختارها أبو حفص البرمكي مِن أصحابنا، وأورد على نفسه: أنَّهُ يلزم على هَذا أنها إذا ادعت انقضاء العدة في أربعة أيام قبل منها: فأجاب: أنَّهُ لا بد مِن الأقراء الكاملة، وأقل ما يُمكن في شهر.

كذا قالَ.

ونقل الأثرم عَن أحمد، أنَّهُ لا توقيت في الطهر بين الحيضتين، إلا في موضع واحد: إذا ادعت انقضاء عدتها في شهر؛ فإنها تكلف البينة.

ونقل ابن عبد البر: أن الشَافِعي قالَ: أقل الطهر خمسة عشر، إلا أن يعلم طهر امرأة أقل مِن خمسة عشر، فيكون القول قولها.

ومذهب أبي حنيفة: لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل مِن ستين يوماً، واختلف عَنهُ في تعليل ذَلِكَ:
فنقل عَنهُ أبو يوسف: أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً، وتجعل كل حيضة خمسة أيام، والأقراء عندهم: الحيض.

ونقل عَنهُ الحسن بنِ زياد: أنَّهُ اعتبر أكثر الحيض - وَهوَ عشرة أيام عندهم - وأقل الطهر - وَهوَ خمسة عشر - وبدأ بالحيض.
وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين يوماً، بناء على أقل الحيض، وَهوَ عندهم ثلاثة، وأقل الطهر، وَهوَ خمسة عشر.

وقال سفيان الثوري: لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً، وَهوَ أقل ما تحيض فيهِ النساء وتطهر.
وهذا كقول أبي يوسف ومحمد.

وعن الحسن بنِ صالح: لا تصدق في أقل مِن خمسة وأربعين يوماً -: نقله عَنهُ الطحاوي.

وقال حرب الكرماني: ثنا إسحاق: ثنا أبي، قالَ: سألت ابن المبارك فقالَ: أرأيت قول سفيان: تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر، كيف هَذا؟ وما معناه؟ فقالَ: جعل ثلاثاً حيضاً، وعشراً طهراً، وثلاثاً حيضاً، كذا قالَ.

وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف لَهُ على مذهبه رواية ابن المبارك هَذهِ عَن سفيان: أنها لا تصدق في أقل مِن تسعة وثلاثين يوماً، وعزاها إلى الطحاوي، ووجهها بأن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل الطهر خمسة عشر.
قالَ: ورواية المعافى والفريابي عَن سفيان، أنها لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً.
قالَ: وهما بمعنى واحد.

وأما إسحاق بنِ راهويه، فإنه حمل المروي عَن علي في ذَلِكَ على أنَّهُ جعل الطهر عشرة أيام، والحيض ثلاثة، لكن إسحاق لا يرى أن أقل الحيض ثلاث.
ولم يذكر أكثر هؤلاء أن قبول دعواها يحتاج إلى بينة، وَهوَ قول الخرقي مِن أصحابنا.

والمنصوص عَن أحمد: أن دعوى انقضاء العدة في شهر لا تقبل بدون بينة، تشهد بهِ مِن النساء، ودعوى انقضائها في زيادة على شهر تقبل بدون بينة؛ لأن المرأة مؤتمنة على حيضها كَما قالَ أبي بن كعب وغيره، وإنما اعتبرنا البينة في دعواها في الشهر خاصة للمروي عَن علي بن أبي طالب، كَما تقدم.

ومن أصحابنا مِن قالَ: إن ادعته في ثلاثة وثلاثين يوماً قبل بغير بينة؛ لأن أقل الطهر المتفق عليهِ خمسة عشر يوماً، وإنما يحتاج إلى بينة إذا ادعته في تسعة وعشرين؛ لأنه يُمكن؛ فإن أقل الطهر ثلاثة عشر في رواية.

ومنهم مِن قالَ: إنما يقبل ذَلِكَ بغير بينة في حق مِن ليسَ لها عادة مستقرة، فأما مِن لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح، كذا قاله صاحب ( ( الترغيب) ) .

وقال ابن عقيل في ( ( فنونه) ) : ولا تقبل معَ فساد النساء وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة في أربعين ولا خمسين [يوماً] ، إلا ببينة تشهد أن هَذهِ عادتها، أو أنها رأت الحيض على هَذا المقدار، وتكرر ثلاثاً.

وقال إسحاق وأبو عبيد: لا تصدق في أقل مِن ثلاثة أشهر، إلا أن تكون لها عادة معلومة قَد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن فيعمل بها حينئذ، ومتى لَم يكن كذلك فَقد وقعت الريبة، فيحتاط وتعدل الأقراء بالشهور، كَما في حق الآيسة والصغيرة.

وأما ما حكاه البخاري عَن عطاء، أن الحيض يوم إلى خمسة عشر، فهذا معروف عَن عطاء.

وقد اختلف العلماء في أقل الحيض وأكثره:
فأما أقله:
فمنهم مِن قالَ: يوم، كَما روي عَن عطاء.
ومنهم مِن قالَ: يوم وليلة، وروي - أيضاً - عَن عطاء.

وروي - أيضاً - مثل هذين القولين عَن الأوزاعي والشافعي وأحمد، فقالَ كثير مِن أصحابهم: إنهما قولان لَهُم، ومن أصحابنا وأصحاب الشَافِعي مِن قالَ: إنما مراد الشَافِعي [وأحمد] يوم معَ ليلته؛ فإن العرب تذكر اليوم كثيراً ويريدون: معَ ليلته.
وممن قالَ: أقله يوم وليلة: إسحاق وأبو ثور.

وقالت طائفة: لا حد لأقله، بل هوَ على ما تعرفه المرأة مِن نفسها، وَهوَ المشهور عَن مالك، وقول أبي داود وعلي بنِ المديني، وروي عَن الأوزاعي - أيضاً.

ونقل ابن جرير الطبري عَن الربيع، عَن الشَافِعي، أن الحيض يكون يوماً
[وأقل] وأكثر.
قالَ الربيع: وآخر قولي الشَافِعي: أن أقله يوم وليلة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: أقله ثلاثة أيام.

وروي ذَلِكَ عَن ابن مسعود وأنس مِن قولهما، وروي - مرفوعاً - مِن طرق، والمرفوع كله باطل لا يصح، وكذلك الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد مِن أئمة الحفاظ.

وقالت طائفة: أقله خمسة أيام، وروي عَن مالك.

ولم يصح عند أكثر الأئمة في هَذا الباب توقيت مرفوع ولا موقوف، وإنما رجعوا فيهِ إلى ما حكي مِن عادات النساء خاصة، وعلى مثل ذَلِكَ اعتمد الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وأما أكثر الحيض.

فقالَ عطاء: هوَ خمسة عشر يوماً.
وحكي مثله عَن شريك والحسن بنِ صالح، وَهوَ قول مالك والشافعي وأحمد - في المشهور عَنهُ - وإسحاق وداود وأبي ثور وغيرهم.

ومن أصحابنا والشافعية مِن قالَ: خمسة عشر يوماً بلياليها، قالَ بعض الشافعية: وهذا القيد لا بد مِنه، لتدخل الليلة الأولى، والاعتماد في ذَلِكَ على ما حكي مِن حيض بعض النساء خاصة.

وأما الرواية عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّهُ قالَ في نقصان دين النساء: ( ( تمكث شطر عمرها لا تصلي) ) فإنه لا يصح، وقد طعن فيهِ ابن منده والبيهقي وغيرهما مِن الأئمة.

وقالت طائفة: أكثره سبعة عشر، حكي عَن عبد الرحمن بنِ مهدي وعبد الله بن نافع صاحب مالك.

وَهوَ رواية عَن أحمد واختارها أبو بكر عبد العزيز، ومن أصحابنا - كأبي حفص البرمكي - مِن قالَ: لا يصح عَن أحمد، إنما حكى ذَلِكَ أحمد عَن غيره ولم يوافقه.

وحكي عَن بعضهم: أكثره ثلاثة عشر، وحكي عَن سعيد بنِ جبير.
وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه: أكثره عشرة أيام، واعتمدوا في ذَلِكَ على أحاديث مرفوعه وآثار موقوفة عَن أنس وابن مسعود وغيرهما كَما سبق.

والأحاديث المرفوعة باطلة، وكذلك الموقوفة على الصحابة -: قاله الإمام أحمد في رواية الميموني وغيره.

وقد روي - أيضاً - عَن الحسن وخالد بنِ معدان، وأنكره الإمام أحمد عَن خالد.

وروي عَن الحسن: أكثره خمسة عشر.

وحكي عَن طائفة: [أن] أكثره سبعة أيام:
[قالَ مكحول: وقت الحائض سبعة أيام] .

وعن الضحاك، قالَ: تقعد سبعة أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي.

وعن الأوزاعي في المبتدأة: تمكث [أعلى] أقراء النساء سبعة أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي كَما تفعل المستحاضة.

وحكى الحسن بنِ ثواب، عَن أحمد، قالَ: عامة الحيض ستة أيام إلى سبعة.

[قيل لَهُ: فإن امرأة مِن آل أنس كانت تحيض خمسة عشر؟ قالَ: قَد كانَ ذَلِكَ، وأدنى الحيض: يوم، وأقصاه - عندنا -: ستة أيام إلى سبعة] ، ثُمَّ ذكر حديث: ( ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ) .

وكلام أحمد ومن ذكرنا معه في هَذا إنما مرادهم بهِ - والله أعلم - أن السبعة غالب الحيض وأكثر عادات النساء؛ لا أنَّهُ أقصى حيض النساء كلهن.
وقالت طائفة: لا حد لأكثر الحيض، وإنما هوَ على حسب ما تعرفه كل امرأة مِن عادة نفسها، فلو كانت المرأة لا تحيض في السنة إلا مرة واحدة وتحيض شهرين متتابعين فَهوَ حيض صحيح، وري نَحوَ ذَلِكَ عَن ميمون بن مهران والأوزاعي، ونقله حرب عَن إسحاق وعلي بن المديني.

ويشبه هَذا: ما قاله ابن سيرين: النساء أعلم بذلك، كَما حكاه البخاري عَنهُ - تعليقاً - مِن رواية معتمر بنِ سليمان، عَن أبيه، أنه سأل ابن سيرين عَن امرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.

ومراد ابن سرين - والله أعلم -: أن المرأة أعلم بحيضها واستحاضتها، فما اعتادته حيضاً وتبين لها أنَّهُ حيض جعلته حيضاً، وما لَم تعتده ولم يتبين لها أنَّهُ حيض فَهوَ استحاضة.

وقد ذكر طائفة مِن أعيان أصحاب الشَافِعي: أن مِن لها عادة مستمرة على حيض وطهر أقل مِن يوم وليلة وأكثر مِن خمسة عشر أنها تعمل بعادتها في ذَلِكَ، مِنهُم: أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي حسين والدارمي وأبو عمرو بنِ الصلاح، وذكر أنه نص الشَافِعي -: نقله عَنهُ صاحب ( ( التقريب) ) .

وما نقله ابن جرير عَن الربيع، عَن الشَافِعي، كَما تقدم، يشهد لَهُ - أيضاً.

خرج البخاري في هَذا الباب حديثاً، فقالَ:
[ قــ :323 ... غــ :325 ]
- ثنا أحمد بنِ أبي رجاء: ثنا أبو أسامة، قالَ: سمعت هشام بنِ عروة، قالَ: أخبرني أبي، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالَ: ( ( لا، إن ذَلِكَ عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثُمَّ اغتسلي وصلي) ) .

هَذا الحديث استدل بهِ مِن ذهب إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها إلى قدر الأيام التي كانت تحيضها، والأيام جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

وأجاب مِن خالفهم عَنهُ بجوابين:
أحدهما: أن المراد بالأيام: الأوقات، لأن اليوم قَد يعبر بهِ عَن الوقت قل أو
كثر، كَما قالَ تعالى: { أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] ، والمراد: وقت مجيء العذاب، وقد يكون ليلاً ويكون نهاراً، وقد يستمر وقد لا يستمر، ويقال: يوم الجمل، ويوم صفين، وكل منهما كانَ عدة أيام.

والثاني: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد امرأة واحدةً إلى عادتها، والظاهر: أن عادتها كانت أياماً متعددة في الشهر، إمَّا ستة أيام أو سبعة، فليس فيهِ دليل على أن كل حيض امرأة يكون كذلك.

واستدل الإمام أحمد بقولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها) ) على أن الحيض قَد يكون أكثر مِن عشرة أيام؛ لأنه لو كانَ الزائد على العشرة استحاضة لبين لها ذَلِكَ.

ولكن قَد يُقال: في الزيادة على الخمس عشرة كذلك - أيضاً.

والظاهر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يعلم أن حيض هَذهِ المرأة أقل مِن ذَلِكَ، فلذلك ردها إلى أيامها.