فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا رأت المستحاضة الطهر

باب
إذا رأتِ المستحاضةُ الطهرَ
قالَ ابن عباس: تغتسل وتصلي، ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلت؛ الصلاة أعظم.

هذا الأثر، ذكره أبو داود تعليقاً، فقالَ: روى أنس بن سيرين، عن ابن عباس في المستحاضة، قالَ: إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي.

وقد ذكره الإمام أحمد واستحسنه، واستدل به وذهب إليه.

وقال في رواية الأثرم وغيره: ثنا إسماعيل - هوَ: ابن علية -: ثنا خالد الحذاء، عن أنس بن سيرين، قالَ: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني، فسألت ابن عباس، فقالَ: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل.

قالَ أحمد: ما أحسنه.

والدم البحراني: قيل: هوَ الأحمر الذي يضرب إلى سواد.

وروي عن عائشة، أنها قالت: دم الحيض بحراني أسود.

خرجه البخاري في ( ( تاريخه) ) .
وقيل: البحراني هوَ الغليط الواسع الذي يخرج من قعر الرحم، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته.

وقول ابن عباس: ( ( إذا رأت الطهر ساعة من نهار فلتغتسل ولتصل) ) ، محمول على غير المستحاضة؛ فإن المستحاضة تصلي إذا جاوزت أيام حيضها، سواء انقطع دمها أو لم ينقطع، وإذا اغتسلت عندَ انقضاء حيضها وصلت، ثم انقطع دمها بعد ذَلِكَ؛ فلا غسل عليها عندَ انقطاعه، وإنما يصح حمل هذا على الدم الجاري في أيام الحيض، وأنه إذا انقطع ساعة فهي طاهر تغتسل وتصلي، وسواء كانَ بعد تمام عادة الحيض أو قبل تمام العادة.

وقد ذهب الإمام أحمد إلى قول ابن عباس في هذا، واستدل به، وعليه أكثر أصحابنا.
ومنهم من اشترط مع ذَلِكَ: أن ترى علامة الطهر مع ذَلِكَ، وهو القصة البيضاء، كما سبق ذكرها.

وعن أحمد: لا يكون الطهر في خلال دم الحيض أقل من يوم، وصحح ذَلِكَ بعض الأصحاب؛ فإن دم الحيض لا يستمر جريانه، بل ينقطع تارة ويجري تارة، فإذا كانَ مدة انقطاعه يوماً فأكثر فهوَ طهر صحيح، وإلا فلا.

وحكى الطحاوي الإجماع على أن انقطاع الدم ساعة ونحوها لا عبرة به، وأنه كالدم المتصل، وليس كما ادعاه.

ومن العلماء: من ذهب إلى أن مدة النقاء في أثناء خلال الدم وإن طالت، إذا عاد الدم بعد ذَلِكَ في مدة الحيض يكون حيضاً، لا تصلي فيهِ ولا تصوم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، وأحد قولي الشافعي، وروي ابن منصور عن أحمد نحوه.

وتعرف المسألة بمسألة التلفيق، ولها فروع وتفاصيل كثيرة جداً.

وحينئذ؛ ففي تبويب البخاري: ( ( المستحاضة إذا رأت الطهر) ) نظر، بل الأولى أن يقال: ( ( الحائض إذا رأت الطهر ساعة) ) .

وإنما اعتمد على لفظ الرواية عن ابن عباس، ولعل ابن عباس أراد أن المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود، فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها، فتغتسل وتصلي حينئذ.

وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا، فقالَ في رواية حرب - في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث: ( ( إذا كانَ دم الحيض، فإنه أسود يعرف) ) ، الحديث -، قالَ: وكذلك روي عن ابن عباس، أنه قالَ لامرأة مستحاضة: أما ما دامت ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة، فإذا جاوزت ذَلِكَ اغتسلت وصلت.

وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام ابن عباس على مثل هذا، وهو يرجع إلى أن المستحاضة تعمل بالتمييز، فتجلس زمن الدم الأسود، فإذا انقطع عنها ورأت حمرةً أو صفرةً أو كدرةً فإن ذَلِكَ طهرها، فتغتسل حينئذ وتصلي.
والله أعلم.

وأما ما ذكر البخاري، أنه يأتيها زوجها إذا صلت؛ الصلاة أعظم، فظاهر سياق حكايته يقتضي أن ذَلِكَ من تمام كلام ابن عباس، ولم نقف على إسناد ذَلِكَ عن ابن عباس، وليس هوَ من تمام رواية أنس بن سيرين في سؤاله لابن عباس عن المستحاضة من آل أنس.

وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر الرخصة في وطء المستحاضة من رواية ابن المبارك، عن أجلح، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ في المستحاضة: لا بأس أن يجامعها زوجها.

ويحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا الكلام من عندَ نفسه بعد حكايته لما قبله عن ابن عباس.

وهذا الكلام إنما يعرف عن سعيد بن جبير:
روى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، قالَ: سألت سعيد بن جبير عن المستحاضة يجامعها زوجها؟ قالَ: لا بأس به؛ الصلاة أعظم من الجماع.
وممن رخص في ذَلِكَ: ابن المسيب والحسن وعطاء وبكر المزني وعكرمة وقتادة ومكحول، وهو قول الأوزاعي والثوري والليث وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، ورواية عن أحمد.

وقد تقدم أن أم حبيبة لما استحيضت كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وحمنة كانت تحت طلحة، وقد سألتا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم الاستحاضة فلم يذكر لهما تحريم الجماع، ولو كانَ حراماً لبينه.

وفي ( ( سنن أبي داود) ) عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش، أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها.
قالَ: وكانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها؛ ولأن لها حكم الطاهرات في الصلاة والصوم وسائر العبادات، فكذلك في الوطء.

وقالت طائفة: لا توطأ المستحاضة، وروي ذَلِكَ عن عائشة، من رواية سفيان، عن غيلان - هوَ: ابن جامع -، عن عبد الملك بن مسيرة، عن الشعبي، عن قمير - امرأة مسروق -، عن عائشة، أنها كرهت أن يجامعها زوجها.
خرجه وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن سفيان، به.

ورواه [شعبة] ، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، واختلف عليهِ فيهِ، فوقفه بعض أصحاب شعبة، عنه على الشعبي، وأسنده بعضهم عنه إلى عائشة كما رواه غيلان -: ذكر ذَلِكَ الإمام أحمد، ولم يجعل ذَلِكَ علة في وصله إلى عائشة، كما فعل البيهقي وغيره.

وممن نهى عن وطء المستحاضة: ابن سيرين، والشعبي، والنخعي، والحكم، وسليمان بن يسار، ومنصور، والزهري، وروي - أيضاً - عن الحسن، وهو المشهور عن الإمام أحمد، إلا أنه رخص فيهِ إذا خشي الزوج على نفسه العنت.

وبدون خوف العنت، فهل النهي عنه للتحريم أو للكراهة؟ حكى أصحابنا فيهِ روايتين عن أحمد، ونقل ابن منصور وصالح عنه: لا يأتيها زوجها، إلا أن يطول.

ولعله أراد أنه إذا طالت مدة الاستحاضة شق على الزوج حينئذ ترك الوطء، فيصير وطؤه من خوف العنت؛ فإن العنت يفسر بالمشقة والشدة.

وقد قالَ أحمد في رواية حرب: المستحاضة لا يغشاها زوجها إلا أن لا يصبر.
وقال في رواية علي بن سعيد: لا يأتيها زوجها إلا أن يغلب ويجيء أمر شديد،
لا يصبر.

وقال أبو حفص البرمكي: معنى قول أحمد: ( ( لا يأتيها زوجها إلا أن يطول) ) ، ليس مراده أنه يباح إذا طال ويمنع منه إذا قصر، ولكن أراد: إذا طال علمت أيام حيضها من استحاضتها يقيناً، وهذا لا تعلمه إذا قصر ذَلِكَ.

وكذلك روى حرب عن إسحاق بن راهويه، قالَ: الذي نختار في غشيان المستحاضة: إذا عرفت أيام أقرائها ثم استحيضت ولم يختلط عليها حيضها، أن يجامعها زوجها، وتصلي وتصوم، وإذا اختلط عليها دم حيضها من استحاضتها، فأخذت بالاحتياط في الصلاة بقول العلماء، وتحرت أوقات [حيضها] من استحاضتها ولم تستيقن بذلك أن لا يغشاها زوجها حتى تكون على يقين من استحاضتها.

فهذا قول ثالث في وطء المستحاضة، وهو: إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيها، وإن لم تكن على يقين من ذَلِكَ لم توطأ؛ لاحتمال وطئها في حال حيضها.

ومذهب الشافعي وأصحابه: أن المتحيرة الناسية لعادتها ولا تميز لها تغتسل لكل صلاة، وتصلي أبداً، ولا يأتيها زوجها؛ لاحتمال مصادفته الحيض.

ونقض أصحابنا ذَلِكَ عليهم في المعتادة، والمبتدأة بعد الشهر الأول؛ فإن زيادة الحيض ونقصه، وتقدمه وتأخره ممكن - أيضاً.

واستدل من نهى عن وطء المستحاضة مطلقاً بقول الله عز وجل: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ودم الاستحاضة أذى؛ ولهذا حرم الوطء في الدبر؛ لأنه محل الأذى.

وروى حرب بإسناد جيد، عن مرثد بن عبد الله اليزني، قالَ: سمعت عقبة بن عامر يقول: والله، لا أجامع امرأتي في اليوم الذي تطهر فيهِ حتى يصير لها يوم.

وهذا محمول على التنزه والاحتياط خشية عود دم الحيض.
والله أعلم.
واختلفوا في الحائض المعتادة: إذا طهرت لدون عادتها: هل يكره وطؤها أم لا؟ على قولين:
أحدهما: يكره، وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وأحمد في رواية،
وإسحاق؛ لأن عود الدم لا يؤمن.

والثاني: لا يكره، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

ثم خرج البخاري في هذا الباب:
[ قــ :328 ... غــ :331 ]
- حديث: هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) ) .

وقد سبق هذا الحديث والكلام عليهِ.

وإنما خرجه هاهنا؛ لأنه يرى أن إقبال الحيض وإدباره المراد به التميز، فإقبال الحيضة: إقبال الدم الأسود.
وإدباره: انفصال الأسود وانتقاله إلى غيره، فيكون ذَلِكَ موافقاً لما أفتى به ابن عباس، على ما حمل كلامه عليهِ أحمد وإسحاق، كما سبق.
والله أعلم.