فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة على النفساء وسنتها
باب
الصلاةِ على النفساءِ وسنتها
خرج فيهِ:
[ قــ :329 ... غــ :332 ]
- من حديث: شعبة، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، عن سمرة ابن جندب، أن امرأة ماتت في بطن، فصلى عليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام وسطها.
لم يخرج البخاري في أحكام النفساء سوى هذا الحديث، كأنه لم يصح عنده في أحكام النفاس حديث على شرطه.
وليس في هذا الحديث سوى الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها.
وقد اعترض الإسماعيلي على البخاري في ذَلِكَ، وقال: ليس في الحديث إلا أنها ماتت في بطن، والمراد: أنها ماتت مبطونة، فلا مدخل للحديث في النفاس بالكلية.
وهذا الذي قاله غير صحيح؛ فإنه قد خرجه البخاري في ( ( الجنائز) ) ، ولفظه: ( ( صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها) ) .
وخرجه مسلم كذلك - أيضاً.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن [دم] النفاس وإن كانَ يمنع النفساء، من الصلاة فلا يمنع من الصلاة عليها إذا ماتت فيهِ، وكذلك دم الحيض، فإنه يصلى على الحائض والنفساء إذا ماتتا في دمهما، كما يصلى على الجنب إذا مات، وكل منهم يغسل ويصلى عليهِ، إلا أن يكون شهيداً في معركة.
فإن استشهد في معركة وكان عليهِ غسل جنابة أو حيض أو نفاس، فهل يغسل أم لا؟ فيهِ روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه يغسل.
وعلى هذا: فلو استشهدت من هي حائض أو نفساء في دمها قبل انقطاعه، ففي غسلها وجهان، بناهما الأصحاب على أن الموجب لغسل الحيض والنفاس: هل هوَ خروج الدم، أو انقطاعه؟
ولو خرج البخاري هاهنا حديث: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن أبي بكر بالشجرة أن تغتسل وتهل، لكان حسناً؛ فإنه يدل على أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج.
وقد خرجه مسلم من حديث جابر وعائشة، إلا أن حديث جابر ليس هوَ على شرط البخاري.
ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد من العلماء، منهم: ابن جرير وغيره.
واختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره:
أما أقله:
فأكثرهم على أنه لا حد لهُ، وأنها لو ولدت ورأت قطرة من دم كانت نفاساً، وهو قول عطاء، والشعبي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور، ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن أبي حنيفة رواية: أقله خمسة وعشرون يوماً.
وعن أبي يوسف، أقله أحد عشر يوماً.
وعن الثوري رواية: أقله ثلاثة أيام، كالحيض عنده، وحكي عن أحمد رواية كذلك: أن أقله ثلاثة أيام، وحكي عنه رواية: أن أقله يوم.
وعن المزني: أقله اربعة أيام.
وعن الحسن: أقله عشرون يوماً.
وأما أكثره:
فأكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً، وحكاه بعضهم إجماعاً من الصحابة.
قالَ إسحاق: هوَ السنة المجمع عليها.
قالَ: ولا يصح في مذهب من جعله إلى شهرين سنة، إلا عن بعض التابعين.
قالَ الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، إنما قاله بعض من بعدهم.
وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد.
وممن روي عنه توقيته بالأربعين من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة.
وممن ذهب إلى هذا: الثوري، وابن المبارك، والليث، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والمزني، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الحديث، وحكاه الترمذي عن الشافعي، وهو غريب عنه.
وحكى الترمذي عن الحسن: أن أكثره خمسون يوماً.
وعن عطاء والشعبي: أكثره ستون يوماً.
وقد اختلف فيهِ عن عطاء والحسن، وروي عنهما: أكثره أربعون يوماً.
وممن قالَ بالستين: الشعبي، والعنبري، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وحكي رواية عن أحمد.
وحكى الليث عن بعض العلماء: أن أكثره سبعون يوماً.
وقيل: لا حد لأكثره، وإنما يرجع إلى عادات النساء، وحكي عن الأوزاعي، وهو رواية عن مالك، ونقل ابن القاسم أن مالكاً رجع إلى ذَلِكَ.
وحكي عن ربيعة: أكثره ثلاثة أشهر.
وقيل: أكثره من الغلام ثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون يوماً -: قاله مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، وحكاه الأوزاعي عن أهل دمشق.
وقيل: أكثره من الغلام خمسة وثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون -: رواه الخشني عن الأوزاعي.
وحكي عن الضحاك: أكثره أربع عشرة ليلة.
وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف.
ومن أجودها: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث مسة الأزدية، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوماً.
وخرجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: ( ( كانت المرأة من نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النفاس) ) .
وصححه الحاكم، وفي متنه نكارة؛ فإن نساء النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلد منهن أحد بعد فرض الصَّلاة؛ فإن خديجة - عليها السلام - ماتت قبل أن تفرض الصلاة.
ومتى انقطع الدم قبل بلوغ أكثره فهي طاهرة، تصوم وتصلي.
وهل يكره وطؤها، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنه يكره، وهو مروي عن طائفة من الصحابة، وأن النفساء لا توطأ إلا بعد الأربعين، وإن انقطع دمها قبل ذَلِكَ، منهم: علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة، وهو ظاهر مذهب أحمد، وروي - أيضاً - عن مالك، وسعيد بن عبد العزيز.
وحكي عن أحمد تحريمه.
وقال آخرون: لا يكره ذَلِكَ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة: لا يكره، إلا أن ينقطع دمها لدون عادتها، فلا توطأ حتى تذهب أيام عادتها.
وقال إسحاق: يكره احتياطا، إلا أن ينقطع لعادة كانت لها فلا يكره؛ لأن احتمال عوده حينئذ بعيد جداً، فهي كحائض انقطع دمها لعادتها لدون أكثر الحيض.
[ قــ :330 ... غــ :333 ]
- من حديث: سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شداد، قالَ: سمعت خالتي ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها كانت تكون حائضاً لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي على خمرتة، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
في هذا الحديث دلالة على طهارة ثياب الحائض التي تلبسها في حال حيضها، وأن المصلي إذا أصابه شيء من ثيابها في تلك الحال لم تفسد صلاته.
وقد سبق هذا المعنى مستوفى في ( ( باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟) ) .
والظاهر: أن مراد ميمونة في هذا الحديث مسجد بيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كانَ يصلي فيهِ من بيته؛ لأن ميمونة لا تفترش إلا بحذاء هذا المسجد، ولم ترد - والله أعلم - مسجد المدينة.
وتأتي باقي فوائد الحديث في ( ( كتاب الصلاة) ) - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث منبوذ، عن أمه، عن ميمونة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن، وهي حائض، وتقوم إحدانا بخمرته، إلى المسجد فتبسطها وهي حائض.
والظاهر: حمله - أيضاً - على مسجد البيت.
ويشهد لهُ: أن الإمام أحمد خرجه بلفظ آخر، عن ميمونة، قالت: كانت إحدانا تقوم وهي حائض فتبسط لهُ خمرةً في مصلاه، فيصلي عليها في بيتي.
وكذلك: ما خرجه مسلم من حديث عائشة، قالت: قالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ناوليني الخمرة من المسجد) ) .
قلت: إني حائض؟ قالَ: ( ( إن حيضتك ليست في يدك) ) .
ومساجد البيوت لا يثبت لها أحكام المساجد عندَ جمهور العلماء، فلا يمنع الجنب والحائض منها، خلافاً لإسحاق في ذَلِكَ.
ومن حمل حديث ميمونة وعائشة على مسجد المدينة، استدل بحديثهما: على أن الحائض لها أن تمر في المسجد لحاجة إذا أمنت تلويثه.
وحكي ذَلِكَ عن طائفة من السلف، منهم: ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وقتادة، وهو قول الشافعي وأحمد.
واختلف أصحابنا: هل يباح لها الدخول لأخذ شيء ووضعه، أم لا يباح إلا للأخذ خاصة؟ على وجهين.
ونص أحمد: على أنه لا يباح إلا للأخذ خاصة في رواية حنبل.
وقال إسحاق: هما سواء.
وحديث ميمونة فيهِ الدخول لبسط الخمرة، وهو دخول لوضع.
وكل من منع الجنب من المرور في المسجد لغير ضرورة منع منه الحائض،
وأولى، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، وإسحاق.
ومنهم: من أباحه للجنب دون الحائض، كالأوزاعي، ومالك في رواية؛ لأن حدث الحيض أفحش من الجنابة وأغلظ، وحكى ابن عقيل وجهاً لأصحابنا بمثل ذَلِكَ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب قول الله - عز وجل -: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] خرج فيه حديثين : الحديث الأول :
[ قــ :331 ... غــ :333 ]
- قال:ثنا عبدا لله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض إسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - أنقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: إلا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس معهم ماء.
فجاء أبو بَكْر ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه عَلَى فخذي قَدْ نام، فَقَالَ: حبست رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس مَعَهُ ماء قَالَتْ عَائِشَة: فعاتبني أبو بَكْر،.
وَقَالَ مَا شاء الله أن يَقُول، وجعل يطعنني بيده فِي خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فخذي، فنام حَتَّى أصبح عَلَى غير ماء، فانزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ماهي بأول بركتكم ياال أبي بكر، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
قيل: إن الرواية هنا: ( ( فقام حتّى أصبح) ) .
ورواه في التفسير بلفظ: ( ( فنام حتّى أصبح) ) وهو لفظ مسلم، وكذا في ( ( الموطأ) ) .
هذا السياق سياق عبد الرحمان بن القاسم لهذا الحديث عن أبيه، عن عائشة.
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا يضر.
وقد خرجه البخاري في موضع أخر وفي بعض ألفاظه اختلاف على عروة – أيضا.
ومما خالف فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارت قلادة من أسماء فسقطت، وان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت أية التيمم.
وفي رواية: أنهما صليا بغير وضوء.
وهذا يمكن الجميع بينه وبين حديث القاسم، عن عائشة بان القلادة لما سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي، فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه، وفقد الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء.
وفي حديث هشام: أن ذلك كان ليلة الابواء.
وفي رواية عنه: أن ذلك المكان كان يقال له: الصلصل.
وروى ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال، وهو بلد لا ماء به - وذلك من السحر، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت - وذكر بقية الحديث.
خرجه الأمام أحمد.
وقد روي هذا الحديث من حديث عمار بن ياسر –أيضا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فتيمم المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد أبو داود - وهذه لفظه - والنسائي وابن ماجه، وفي إسناده اختلاف.
والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت أية المائدة؛ فإن البخاري خرج هَذَا الحَدِيْث فِي التفسير من ( ( كتابه) ) هَذَا من حَدِيْث ابن وهب، عَن عَمْرِو، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم،.
وَقَالَ فِي حديثه: فَنَزَلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} هذه الآية [المائدة:6] .
وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة عائشة أو عقدها كان لغزوة المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس، وهو الذي ذكره أبن سعد عن جماعة من العلماء، قالوا: وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك.
وقد ذكر الشافعي: أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق، وقال: أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم.
فإن قيل: فقد ذكر غير واحد، منهم: ابن عبد البر: أنه يحتمل أن يكون الذي نزل بسبب قصة عائشة الآية التي في سورة النساء؛ فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين، وسورة المائدة من أواخر ما نزل من القران، حتى قيل: إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع، وأية النساء نزولها متقدم.
وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنها نزلت فيه لما ضربه رجل قد سكر بلحي بعير، ففزر أنفه.
وفي ( ( سنن أبي داود) ) والنسائي وأبن ماجه، عن علي، أن رجلا صلى وقد شرب الخمر، فخلط في قراءته، فنزلت أية النساء.
فقد تبين بهذا: أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر حرمت بعد غزوة أحد، ويقال: إنها حرمت في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير وآية النساء فيها ذكر التيمم، فلو كانت قد نزلت قبل قصة عائشة لما توقفوا حينئذ في التيمم، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه.
قيل: هذا لا يصح؛ لوجوه: أحدها: سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها، وهذا غير السبب الذي أتففت الروايات عليه في قصة عائشة، فدلّ على أن قصة عائشة نزل بسببها آية غير آية النساء، وليس سوى آية المائدة.
والثاني: أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقاً بل عند حضور الصلاة، وهذا كان قبل أحد، وقصة عائشة كانت بعد غزوة أحد بغير بخلاف، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية.
وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته؛ فإن الوضوء كان شرع قبل ذَلكَ بكثير، كما سبق تقريره في أول ( كتاب الضوء) ، وإنما كان تمهيداً للانتقال عنه إلى التيمم عند العجز عنه، ولهذا قالت عائشة: فنزلت آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء.
والثالث: أنه قد ورد التصريح بذلك في ( ( صحيح البخاري) ) كما ذكرناه.
وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت أية المائدة مع سبق نزول التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم – أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة، لان فقدهم للماء أنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه مع أمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت أية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم أية النساء.
ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة دون الإسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخول في عموم قوله، ويدل ذلك على جواز التيمم في سفر التجارة وما أشبهه من الإسفار المباحة، وهذا مما يستأنس به من يقول: أن الرخص لا تستباح في سفر المعصية.
وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح؛ فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير، وقد صح أن المقداد قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر.
والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد، فقال فيهما: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] .
فقوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والمراد به عند جمهور العلماء: ما كان استعمال الماء معه يخشى منه الضرر.
والثاني: السفر، واختلفوا: هل هو شرط للتيمم مع ( عدم) الماء، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالباً، فإن عدم الماء في الحضر قليل أو نادر، كما قال الجمهور في ذكر السفر في آية الرهن، أنة إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم الكاتب، وليس بشرط للرهن.
والجمهور: على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم الماء، وأنه يجوز الرهن في الحضر، والتيمم مع عدم الماء في الحضر.
وقالت الظاهرية: السفر شرط في الرهن والتيمم.
وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة، وحكي رواية عن أبي حنيفة، وعن طائفة من أصحاب مالك.
وعلى هذا: فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح عندهم وقوله: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] .
قد قيل أن ( ( أو) ) هنا بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون ومن وافقهم؛ فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم، وهما التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر مَا يستباح مِنْهُ الصَّلاة بالتيمم وَهُوَ الحدث، فإن التيمم يبيح الصَّلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء، وهو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد وأصحابه، ولهذا قالوا يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل العبادات منه من الأحداث.
وقالت طائفة: بل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً بعدم القدرة على استعمال الماء، وربما أستدل بعضهم بهذه الآية، وقالوا: إنما أمر الله بالتيمم مع وجود الحدث، ولو كان التيمم واجباً لكل صلاة أو لوقت كل صلاة – كما يقوله من يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث، على اختلاف بينهم في ذلك – لما كان لذكر الحدث معنى.
والأظهر – والله أعلم -: أن ( ( أو) ) هاهنا ليست بمعنى الواو، بل هي على بابها، وأريد بها: التقسيم والتنويع، وأن التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث، واثنتان منهما مظنتان، وهما: المرض والسفر، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء، والسفر مظنة عدم الماء، فإن وجدت الحقيقة في هاتين المظنتين جاز التيمم، وألا فلا.
ثم ذكر قسماً ثالثاً، وهو وجود الحقيقة نفسها، فذكر أن من كان محدثاً ولم يجد ماءً فليتيمم، وهذا يشمل المسافر وغيره، ففي هذا دليلٌ على أن التيمم يجوز لمن لم يجد الماء، مسافراً كان أو غير مسافر.
واللهُ أعلم.
وقد ذكر سبحانه حدثين: أحدهما: الحدث الأصغر، وهو المجيء من الغائط، وهو كنايةٌ عن قضاء الحاجة والتخلي، ويلتحق به كل ما كان في معناه، كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذَلكَ.
والثاني: ملامسة النساء، واختلفوا: هل المراد بها الجماع خاصة، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما سيأتي ذكره – أشاء الله تعالى -، أو المراد بالملامسة مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة لشهوة، أو مطلق التقاء البشرتين، وعلى هذين القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر.
وقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} متعلق بمن أحدث، سواءٌ كان على سفر أو لم يكن، كما سبق تقريره، دون المرض، لان المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء، هذا هو الذي عمل به الأمة سلفا وخلفا.
وحكي عن عطاء والحسن: أن فقد الماء شرطٌ للتيمم مع المرض - أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وأن خشي التلف.
وهذا بعيد الصحة عنهما، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له.
وقوله: { فَتَيَمَّمُوا} أصل التيمم في اللغة القصد، ثم صار علما على هذه الطهارة المخصوصة.
وقوله: { صَعِيداً} اختلفوا في المراد بالصعيد، فمنهم من فسره بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصة.
وقوله: { طَيِّباً} فسره من قال: الصعيد: ما تصاعد على وجه الأرض، بالطاهر.
ومن فسره بالتراب، قال: المراد بالصعيد التراب المنبت، كقوله تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وقول ابن عباس: الصعيد الطيب تراب الحرث.
وقوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} .
كقوله في الوضوء { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
وقد ذكرنا فيما سبق في ( ( أبواب الوضوء) ) أن كثيراً من العلماء أوجبوا استيعاب مسح الرأس بالماء، وخالف فيه آخرون، وأكثرهم وافقوا هاهنا، وقالوا: يجب استيعاب الوجه والكفين بالتيمم، ومنهم من قال: يجزئ أكثرهما، ومنهم من قال: يجزئ مسح بعضهما كالرأس – أيضا.
وقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار: ( ( إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك) ) يرد ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما.
وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما – إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: { مِنْهُ} يستدل به من قَالَ: لا تيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد، فإن قوله: { مِنْهُ} يقتضي أن يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد، ولا يمكن ذلك إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به، ومن خالف في ذلك جعل ( ( من) ) هاهنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض وهو يأباه سياق الكلام.
والله تعالى أعلم.
الحديث الثاني:
[ قــ :33 ... غــ :334 ]
- من طريق: هشيم: أبنا سيارٌ: ثنا يزيد الفقير: أبنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ) .
هشيم: مدلس، وقد صرح هنا بالسماع من سيار، وهو: أبو الحكم، وصرح سيار بالسماع من يزيد الفقير، وصرح يزيد بالسماع من جابر، فهذا إسناد جليل متصل.
وهذه الخمس اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنبياء، وليس في الحديث أنه لم يختص بغيرها، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر، وقد دلت النصوص الصحيحة الكثيرة على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس، وسنشير إلى بعض ذلك – إنشاء الله تعالى.
فأما ( ( الرعب) ) : فهو ما يقذفه الله في قلوب أعداءه المشركين من الرعب، كما قال تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران:151] وقال في قصة يوم بدر: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:1] .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي، أنه قال عام غزوة تبوك: ( ( لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي: إما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا) ) – وذكر بقية الحديث.
وقوله: ( ( أعطيت الليلة خمسا) ) ، لم يرد أنه لم يعطها قبل تلك الليلة، فإن عامتها كان موجودا قبل ذاك، كنصره بالرعب، وتيممه بالتراب، فإن التيمم شرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال، ولعله أراد أنه أعلم بأن هذه الخمس الخصال اختص بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة.
والله أعلم.
وروينا بإسناد فيه ضعف عن السائب بن يزيد، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( فضلت على الناس بخمس) ) - ذكر منها - ( ( ونصرت بالرعب شهرا من إمامي وشهرا من خلفي) ) .
وأما جعل الأرض له مسجدا وطهورا: فقد ورد مفسرا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم) ) - وذكر بقية الحديث.
خرجه الإمام أحمد.
وفي ( ( مسند البزار) ) من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء: جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه) ) - وذكر الحديث.
وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بان الأرض كلها جعلت مسجدا له ولأمته أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة لصلاتهم كما كان من قبلهم، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض وهذا لا ينافي أن ينهي عن الصلاة في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختص بها، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، وفي المقبرة والحمام، وسيأتي ذلك مستوفى في مواضع أخر - أن شاء الله تعالى.
وفي ذكره التيمم في الأرض من خصائصه ما يشعر أن الطهارة بالماء ليست مما اختص به عن الأنبياء، وقد سبق في ( ( كتاب: الوضوء) ) ذكر ذَلكَ.
واستدل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ) من يقول: أن التيمم يجوز بجميع أجزاء الأرض من التراب والرمل والنورة والزرنيخ والجص وغير ذلك، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
واستدل من قَالَ: لا يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض – كما يقوله الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه – بما في ( ( صحيح مسلم) ) عن حذيفة، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) ) ، وذكر خصلة أخرى.
فخص الطهور بتربة الأرض بعد أن ذكر أن الأرض كلها مسجد، وهذا يدل على اختصاص الطهورية بتربة الأرض خاصة؛ فإنه لو كانت الطهورية عامة كعموم المساجد لم يحتج إلى ذلك.
وقد خرج مسلم حديث جابر الذي خرجه البخاري هاهنا، وعنده: ( ( وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا) ) .
وهذا يدل على اختصاص الطهورية بالأرض الطيبة، والطيبة: هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] .
وروينا من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحٌميد، عن أنس، قَالَ: رسول الله: ( ( جُعلت لي كل ُ أرضٍ طيبةً مسجداً وطهوراً) ) .
ولكن قد دلت نصوص أٌخرُ على عموم كون الأرض مسجداً، فتبقى طهوريتها مختصة بالأرض المنبتة.
وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( أُعطيتُ أربعاً لم يُعطهن ِّأحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح الأرض، وسُمَّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم) ) .
وقد ظن بعضهم: أن هذا من باب المطلق والمقيد، وهو غلط، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتربة لقب، مختلف في ثبوت المفهوم له، والأكثر ون يأبون ذَلكَ.
لكن أقوى ما أستدل به: حديث حذيفة الذي خرجه مسلم، فإنه جعل الأرض كلها مسجداً وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان الاختصاص،فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحة) ) ، ولفظه: ( ( وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) ) .
ومعنى قوله: ( ( طهوراً) ) : أي مطهراً، كما قَالَ: ( ( الماء طهور لا ينجسه شيء) ) .
وفيه دليل لمن قَالَ: إن التيمم يرفع الحدث كالماء رفعا مؤقتا، ودليل على أن الطهور ليس بمعنى الطاهر كما يقوله بعض الفقهاء؛ فإن طهارة الأرض مما لم تختص به هذه الأمة، بل اشتركت فيه الأمم كلها، وإنما اختصت هذه الأمة بالتطهر بالتراب، فالطهور هو المطهر.
والتحقيق: أن ( ( طهورا) ) ليس معدولا عن طاهر، ولأن ( ( طاهرا) ) لازم و ( ( طهورا) ) متعد، وإنما الطهور اسم لما يتطهر به، كالفطور والسحور والوجور والسعوط ونحو ذلك.
وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصة، فقد روي أن من كان قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ: ( ( وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها) ) .
وفي ( ( الصحيحين) ) عن أبي هُريرةَ، قَالَ: ( ( غزا نبي من الأنبياء؛ فجمع الغنائم، فجاءت نار لتأكلها فلم تطعمها، فقال: أن فيكم غلولا،فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثُمَّ أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) ) .
وفي الترمذي عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار فتأكلها) ) .
وفي كتاب ( ( السيرة) ) لسليمان التيمي: أن من قبلنا من الأمم كانوا إذا أصابوا شيئا من عدوهم جمعوه فأحرقوه وقتلوا كل نفس من إنسان أو دابة.
وفي صحة هذا نظر، والظاهر أن ذوات الأرواح لم تكن محرمة عليهم، إنما كان يحرم عليهم ما تأكله النار.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: الإمام أحمد إلى أن الغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما له حرمة من حيوان أو مصحف.
وورد في ذلك أحاديث تذكر في موضع أخر – أن شاء الله تعالى.
وقد قال طائفة من العلماء: أن المحرم على من كان قبلنا هو المنقولات دون ذوات الأرواح، واستدلوا بأن إبراهيم - عليه السلام - كانت له هاجر أمة، والإماء إنما يكتسبن من المغانم، ذكر هذا ابن عقيل وغيره.
وفي هذا نظر؛ فإن هاجر وهبها الجبار لسارة، فوهبتها لإبراهيم، ويجوز أن يكون في شرع من قبلنا جواز تملك ما تملكه الكفار باختيارهم دون ما يغنم منهم.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الكافر إذا أهدى إلى آحاد المسلمين هدية فله أن يتملكها منه، ويختص بها دون غيره من المسلمين.
وقال القاضي إسماعيل المالكي: إنما اختصت هذه الأمة بإباحة المنقولات من الغنائم، فأما الأرض فإنها فيء، وكانت مباحة لمن قبلنا، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل فرعون.
وهذا بناء على أن الأرض المأخوذة من الكفار تكون فيئا، سواء أخذت بقتال أو غيره، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه.
ومن الناس من يقول: إنما حرم على من كان قبلنا الغنائم المأخوذة بقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال.
قالوا: وهاجر كانت فيئا لا غنيمة؛ لان الجبار الكافر وهبها لسارة باختياره.
وقد قَالَ طائفة من العلماء: أن ما وهبه الحربي لمسلم يكون فيئا.
وزعم بعضهم: أن المحرم على من كان قبلنا كان من خمس الغنيمة خاصة، كانت النار تأكله، ويقسم أربعة أخماس بين الغانمين، وهذا بعيد جدا.
واستدلوا: بما خرجه البزار من رواية سالم أبي حماد، عن السدي، عن عكرمة، عن أبي عباس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي) ) – فذكر الحديث، وقال فيه: ( ( وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أنا أن أقسمه في فقراء أمتي) ) .
وسالم هذا: قال فيه أبو حاتم الرازي: مجهول.
وأما الشفاعة التي اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بين الأنبياء، فليست هي الشفاعة في خروج العصاة من النار؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء والمؤمنون – أيضا -، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع: أحدها: شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم.
والثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة.
والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: أن هذه يختص هو بها.
والرابع: كثرة من يشفع له من أمته؛ فإنه وفر شفاعته وأدخرها إلى يوم القيامة.
وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث، ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن نبي كان قبلي) ) - فذكر الحديث، إلى أن قَالَ: ( ( والخامسة هي ما هي: قيل لي سل؛ فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله) ) .
وخرج – أيضا – من حديث أبي موسى، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد كان قبلي) ) – فذكره، وقال في آخره: ( ( وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا قد سأل شفاعته، وإني أخرت شفاعتي، جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) ) .
وفيه - أيضا – من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( لم يكن نبي إلا له دعوة ينجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وأنا سيد ولد ادم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت لوائي) ) .
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد، عن النبي، قال: ( ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي ولا فخر) ) .
وفي ( ( الصحيحين) ) عن أبي هُريرةَ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لكل نبي دعوة قد دعا بها أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
وفيه - أيضا – نحوه من حديث أنس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث عبد الرحمان بن أبي عقيل: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطاها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة، فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
خرجه البزار وغيره.
وفي ( ( المسند) ) عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( إن الله أيقظني فقال: إني لم أبعث نبيا ولا رسولا إلا وقد سألني مسالة أعطيتها إياه، فسل يا محمد تعط؟ فقلت: مسألتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الشفاعة التي اختبأت عندك؟ قال: ( ( أقول: يارب، شفاعتي التي اختبأت عندك، فيقول الرب تبارك وتعالى: نعم، فيخرج ربي تبارك وتعالى بقية أمتي من النار، فينبذهم في الجنة) ) .
والمراد من هذه الأحاديث - والله أعلم -: أن كل نبي أعطي دعوة عامة شاملة لأمته، فمنهم من دعا على أمته المكذبين له فهلكوا، ومنهم من سأل كثرتهم في الدنيا كما سأله سليمان - عليه السلام -، واختص النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ادخر تلك الدعوة العامة الشاملة لأمته شفاعة لهم يوم القيامة.
وقد ذكر بعضهم: شفاعة خامسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة المختص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
وسيأتي ما يدل عليه - أن شاء الله تعالى.
وأما بعثته إلى الناس عامة، فهذا مما اختص به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنبياء.
وفي ( ( المسند) ) من حديث أبي ذر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي) ) - فذكر منها -: ( ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود) ) .
وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخرا، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود) ) .
وفي ( ( مسند البزار) ) من حديث ابن عباس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطها نبي) ) - فذكر منها -: ( ( وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والأنس) ) - وذكر الحديث.
وقال: لفظ: ( ( الجن والأنس) ) لا نعلمه إلا في هذا الحديث، بهذا الإسناد.
قلت: وقد سبق أن في إسناده سالما أبا حماد، وأن أبا حاتم قَالَ: هو مجهول.
ولكن روي ذكر الجن في حديث آخر، ذكره ابن أبي حاتم في ( ( تفسيره) ) تعليقا، وفي إسناده رجل لم يسم، عن عبادة بن الصامت، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عليهم فقال: ( ( أن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعمة الله التي أنعم بها عليك، وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أنه بعثني إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأمدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعين مقنعي رؤسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة، فليس فوقي إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم) ) ، عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( فضلت على الناس بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ) .
وقوله: ( ( إلى الخلق كافة) ) يدخل فيه الجن بلا ريب.
وفي ( ( صحيح ابن خزيمة) ) عن حذيفة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( فضلت على الناس بثلاث) ) - فذكر الثالثة، قَالَ: ( ( وأعطيت هذه الآيات من أخر سورة البقرة من كنْز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي ولا أحد بعدي) ) .
وهذه الخصلة الثالثة لم تسم في ( ( صحيح مسلم) ) ، بل فيهِ: ( ( وذكر خصلة أخرى) ) كما تقدم.
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن الأنبياء لا تنحصر في خمس، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره في كل وقت بحسبه.
والله أعلم.
الصلاةِ على النفساءِ وسنتها
خرج فيهِ:
[ قــ :329 ... غــ :332 ]
- من حديث: شعبة، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، عن سمرة ابن جندب، أن امرأة ماتت في بطن، فصلى عليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام وسطها.
لم يخرج البخاري في أحكام النفساء سوى هذا الحديث، كأنه لم يصح عنده في أحكام النفاس حديث على شرطه.
وليس في هذا الحديث سوى الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها.
وقد اعترض الإسماعيلي على البخاري في ذَلِكَ، وقال: ليس في الحديث إلا أنها ماتت في بطن، والمراد: أنها ماتت مبطونة، فلا مدخل للحديث في النفاس بالكلية.
وهذا الذي قاله غير صحيح؛ فإنه قد خرجه البخاري في ( ( الجنائز) ) ، ولفظه: ( ( صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها) ) .
وخرجه مسلم كذلك - أيضاً.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن [دم] النفاس وإن كانَ يمنع النفساء، من الصلاة فلا يمنع من الصلاة عليها إذا ماتت فيهِ، وكذلك دم الحيض، فإنه يصلى على الحائض والنفساء إذا ماتتا في دمهما، كما يصلى على الجنب إذا مات، وكل منهم يغسل ويصلى عليهِ، إلا أن يكون شهيداً في معركة.
فإن استشهد في معركة وكان عليهِ غسل جنابة أو حيض أو نفاس، فهل يغسل أم لا؟ فيهِ روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه يغسل.
وعلى هذا: فلو استشهدت من هي حائض أو نفساء في دمها قبل انقطاعه، ففي غسلها وجهان، بناهما الأصحاب على أن الموجب لغسل الحيض والنفاس: هل هوَ خروج الدم، أو انقطاعه؟
ولو خرج البخاري هاهنا حديث: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن أبي بكر بالشجرة أن تغتسل وتهل، لكان حسناً؛ فإنه يدل على أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج.
وقد خرجه مسلم من حديث جابر وعائشة، إلا أن حديث جابر ليس هوَ على شرط البخاري.
ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد من العلماء، منهم: ابن جرير وغيره.
واختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره:
أما أقله:
فأكثرهم على أنه لا حد لهُ، وأنها لو ولدت ورأت قطرة من دم كانت نفاساً، وهو قول عطاء، والشعبي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور، ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن أبي حنيفة رواية: أقله خمسة وعشرون يوماً.
وعن أبي يوسف، أقله أحد عشر يوماً.
وعن الثوري رواية: أقله ثلاثة أيام، كالحيض عنده، وحكي عن أحمد رواية كذلك: أن أقله ثلاثة أيام، وحكي عنه رواية: أن أقله يوم.
وعن المزني: أقله اربعة أيام.
وعن الحسن: أقله عشرون يوماً.
وأما أكثره:
فأكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً، وحكاه بعضهم إجماعاً من الصحابة.
قالَ إسحاق: هوَ السنة المجمع عليها.
قالَ: ولا يصح في مذهب من جعله إلى شهرين سنة، إلا عن بعض التابعين.
قالَ الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، إنما قاله بعض من بعدهم.
وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد.
وممن روي عنه توقيته بالأربعين من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة.
وممن ذهب إلى هذا: الثوري، وابن المبارك، والليث، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والمزني، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الحديث، وحكاه الترمذي عن الشافعي، وهو غريب عنه.
وحكى الترمذي عن الحسن: أن أكثره خمسون يوماً.
وعن عطاء والشعبي: أكثره ستون يوماً.
وقد اختلف فيهِ عن عطاء والحسن، وروي عنهما: أكثره أربعون يوماً.
وممن قالَ بالستين: الشعبي، والعنبري، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وحكي رواية عن أحمد.
وحكى الليث عن بعض العلماء: أن أكثره سبعون يوماً.
وقيل: لا حد لأكثره، وإنما يرجع إلى عادات النساء، وحكي عن الأوزاعي، وهو رواية عن مالك، ونقل ابن القاسم أن مالكاً رجع إلى ذَلِكَ.
وحكي عن ربيعة: أكثره ثلاثة أشهر.
وقيل: أكثره من الغلام ثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون يوماً -: قاله مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، وحكاه الأوزاعي عن أهل دمشق.
وقيل: أكثره من الغلام خمسة وثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون -: رواه الخشني عن الأوزاعي.
وحكي عن الضحاك: أكثره أربع عشرة ليلة.
وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف.
ومن أجودها: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث مسة الأزدية، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوماً.
وخرجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: ( ( كانت المرأة من نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النفاس) ) .
وصححه الحاكم، وفي متنه نكارة؛ فإن نساء النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلد منهن أحد بعد فرض الصَّلاة؛ فإن خديجة - عليها السلام - ماتت قبل أن تفرض الصلاة.
ومتى انقطع الدم قبل بلوغ أكثره فهي طاهرة، تصوم وتصلي.
وهل يكره وطؤها، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنه يكره، وهو مروي عن طائفة من الصحابة، وأن النفساء لا توطأ إلا بعد الأربعين، وإن انقطع دمها قبل ذَلِكَ، منهم: علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة، وهو ظاهر مذهب أحمد، وروي - أيضاً - عن مالك، وسعيد بن عبد العزيز.
وحكي عن أحمد تحريمه.
وقال آخرون: لا يكره ذَلِكَ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة: لا يكره، إلا أن ينقطع دمها لدون عادتها، فلا توطأ حتى تذهب أيام عادتها.
وقال إسحاق: يكره احتياطا، إلا أن ينقطع لعادة كانت لها فلا يكره؛ لأن احتمال عوده حينئذ بعيد جداً، فهي كحائض انقطع دمها لعادتها لدون أكثر الحيض.
[ قــ :330 ... غــ :333 ]
- من حديث: سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شداد، قالَ: سمعت خالتي ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها كانت تكون حائضاً لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي على خمرتة، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
في هذا الحديث دلالة على طهارة ثياب الحائض التي تلبسها في حال حيضها، وأن المصلي إذا أصابه شيء من ثيابها في تلك الحال لم تفسد صلاته.
وقد سبق هذا المعنى مستوفى في ( ( باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟) ) .
والظاهر: أن مراد ميمونة في هذا الحديث مسجد بيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كانَ يصلي فيهِ من بيته؛ لأن ميمونة لا تفترش إلا بحذاء هذا المسجد، ولم ترد - والله أعلم - مسجد المدينة.
وتأتي باقي فوائد الحديث في ( ( كتاب الصلاة) ) - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث منبوذ، عن أمه، عن ميمونة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن، وهي حائض، وتقوم إحدانا بخمرته، إلى المسجد فتبسطها وهي حائض.
والظاهر: حمله - أيضاً - على مسجد البيت.
ويشهد لهُ: أن الإمام أحمد خرجه بلفظ آخر، عن ميمونة، قالت: كانت إحدانا تقوم وهي حائض فتبسط لهُ خمرةً في مصلاه، فيصلي عليها في بيتي.
وكذلك: ما خرجه مسلم من حديث عائشة، قالت: قالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ناوليني الخمرة من المسجد) ) .
قلت: إني حائض؟ قالَ: ( ( إن حيضتك ليست في يدك) ) .
ومساجد البيوت لا يثبت لها أحكام المساجد عندَ جمهور العلماء، فلا يمنع الجنب والحائض منها، خلافاً لإسحاق في ذَلِكَ.
ومن حمل حديث ميمونة وعائشة على مسجد المدينة، استدل بحديثهما: على أن الحائض لها أن تمر في المسجد لحاجة إذا أمنت تلويثه.
وحكي ذَلِكَ عن طائفة من السلف، منهم: ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وقتادة، وهو قول الشافعي وأحمد.
واختلف أصحابنا: هل يباح لها الدخول لأخذ شيء ووضعه، أم لا يباح إلا للأخذ خاصة؟ على وجهين.
ونص أحمد: على أنه لا يباح إلا للأخذ خاصة في رواية حنبل.
وقال إسحاق: هما سواء.
وحديث ميمونة فيهِ الدخول لبسط الخمرة، وهو دخول لوضع.
وكل من منع الجنب من المرور في المسجد لغير ضرورة منع منه الحائض،
وأولى، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، وإسحاق.
ومنهم: من أباحه للجنب دون الحائض، كالأوزاعي، ومالك في رواية؛ لأن حدث الحيض أفحش من الجنابة وأغلظ، وحكى ابن عقيل وجهاً لأصحابنا بمثل ذَلِكَ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب قول الله - عز وجل -: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] خرج فيه حديثين : الحديث الأول :
[ قــ :331 ... غــ :333 ]
- قال:ثنا عبدا لله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض إسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - أنقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: إلا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس معهم ماء.
فجاء أبو بَكْر ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه عَلَى فخذي قَدْ نام، فَقَالَ: حبست رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس مَعَهُ ماء قَالَتْ عَائِشَة: فعاتبني أبو بَكْر،.
وَقَالَ مَا شاء الله أن يَقُول، وجعل يطعنني بيده فِي خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فخذي، فنام حَتَّى أصبح عَلَى غير ماء، فانزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ماهي بأول بركتكم ياال أبي بكر، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
قيل: إن الرواية هنا: ( ( فقام حتّى أصبح) ) .
ورواه في التفسير بلفظ: ( ( فنام حتّى أصبح) ) وهو لفظ مسلم، وكذا في ( ( الموطأ) ) .
هذا السياق سياق عبد الرحمان بن القاسم لهذا الحديث عن أبيه، عن عائشة.
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا يضر.
وقد خرجه البخاري في موضع أخر وفي بعض ألفاظه اختلاف على عروة – أيضا.
ومما خالف فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارت قلادة من أسماء فسقطت، وان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت أية التيمم.
وفي رواية: أنهما صليا بغير وضوء.
وهذا يمكن الجميع بينه وبين حديث القاسم، عن عائشة بان القلادة لما سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي، فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه، وفقد الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء.
وفي حديث هشام: أن ذلك كان ليلة الابواء.
وفي رواية عنه: أن ذلك المكان كان يقال له: الصلصل.
وروى ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال، وهو بلد لا ماء به - وذلك من السحر، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت - وذكر بقية الحديث.
خرجه الأمام أحمد.
وقد روي هذا الحديث من حديث عمار بن ياسر –أيضا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فتيمم المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد أبو داود - وهذه لفظه - والنسائي وابن ماجه، وفي إسناده اختلاف.
والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت أية المائدة؛ فإن البخاري خرج هَذَا الحَدِيْث فِي التفسير من ( ( كتابه) ) هَذَا من حَدِيْث ابن وهب، عَن عَمْرِو، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم،.
وَقَالَ فِي حديثه: فَنَزَلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} هذه الآية [المائدة:6] .
وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة عائشة أو عقدها كان لغزوة المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس، وهو الذي ذكره أبن سعد عن جماعة من العلماء، قالوا: وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك.
وقد ذكر الشافعي: أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق، وقال: أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم.
فإن قيل: فقد ذكر غير واحد، منهم: ابن عبد البر: أنه يحتمل أن يكون الذي نزل بسبب قصة عائشة الآية التي في سورة النساء؛ فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين، وسورة المائدة من أواخر ما نزل من القران، حتى قيل: إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع، وأية النساء نزولها متقدم.
وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنها نزلت فيه لما ضربه رجل قد سكر بلحي بعير، ففزر أنفه.
وفي ( ( سنن أبي داود) ) والنسائي وأبن ماجه، عن علي، أن رجلا صلى وقد شرب الخمر، فخلط في قراءته، فنزلت أية النساء.
فقد تبين بهذا: أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر حرمت بعد غزوة أحد، ويقال: إنها حرمت في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير وآية النساء فيها ذكر التيمم، فلو كانت قد نزلت قبل قصة عائشة لما توقفوا حينئذ في التيمم، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه.
قيل: هذا لا يصح؛ لوجوه: أحدها: سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها، وهذا غير السبب الذي أتففت الروايات عليه في قصة عائشة، فدلّ على أن قصة عائشة نزل بسببها آية غير آية النساء، وليس سوى آية المائدة.
والثاني: أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقاً بل عند حضور الصلاة، وهذا كان قبل أحد، وقصة عائشة كانت بعد غزوة أحد بغير بخلاف، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية.
وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته؛ فإن الوضوء كان شرع قبل ذَلكَ بكثير، كما سبق تقريره في أول ( كتاب الضوء) ، وإنما كان تمهيداً للانتقال عنه إلى التيمم عند العجز عنه، ولهذا قالت عائشة: فنزلت آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء.
والثالث: أنه قد ورد التصريح بذلك في ( ( صحيح البخاري) ) كما ذكرناه.
وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت أية المائدة مع سبق نزول التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم – أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة، لان فقدهم للماء أنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه مع أمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت أية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم أية النساء.
ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة دون الإسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخول في عموم قوله، ويدل ذلك على جواز التيمم في سفر التجارة وما أشبهه من الإسفار المباحة، وهذا مما يستأنس به من يقول: أن الرخص لا تستباح في سفر المعصية.
وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح؛ فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير، وقد صح أن المقداد قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر.
والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد، فقال فيهما: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] .
فقوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والمراد به عند جمهور العلماء: ما كان استعمال الماء معه يخشى منه الضرر.
والثاني: السفر، واختلفوا: هل هو شرط للتيمم مع ( عدم) الماء، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالباً، فإن عدم الماء في الحضر قليل أو نادر، كما قال الجمهور في ذكر السفر في آية الرهن، أنة إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم الكاتب، وليس بشرط للرهن.
والجمهور: على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم الماء، وأنه يجوز الرهن في الحضر، والتيمم مع عدم الماء في الحضر.
وقالت الظاهرية: السفر شرط في الرهن والتيمم.
وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة، وحكي رواية عن أبي حنيفة، وعن طائفة من أصحاب مالك.
وعلى هذا: فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح عندهم وقوله: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] .
قد قيل أن ( ( أو) ) هنا بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون ومن وافقهم؛ فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم، وهما التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر مَا يستباح مِنْهُ الصَّلاة بالتيمم وَهُوَ الحدث، فإن التيمم يبيح الصَّلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء، وهو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد وأصحابه، ولهذا قالوا يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل العبادات منه من الأحداث.
وقالت طائفة: بل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً بعدم القدرة على استعمال الماء، وربما أستدل بعضهم بهذه الآية، وقالوا: إنما أمر الله بالتيمم مع وجود الحدث، ولو كان التيمم واجباً لكل صلاة أو لوقت كل صلاة – كما يقوله من يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث، على اختلاف بينهم في ذلك – لما كان لذكر الحدث معنى.
والأظهر – والله أعلم -: أن ( ( أو) ) هاهنا ليست بمعنى الواو، بل هي على بابها، وأريد بها: التقسيم والتنويع، وأن التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث، واثنتان منهما مظنتان، وهما: المرض والسفر، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء، والسفر مظنة عدم الماء، فإن وجدت الحقيقة في هاتين المظنتين جاز التيمم، وألا فلا.
ثم ذكر قسماً ثالثاً، وهو وجود الحقيقة نفسها، فذكر أن من كان محدثاً ولم يجد ماءً فليتيمم، وهذا يشمل المسافر وغيره، ففي هذا دليلٌ على أن التيمم يجوز لمن لم يجد الماء، مسافراً كان أو غير مسافر.
واللهُ أعلم.
وقد ذكر سبحانه حدثين: أحدهما: الحدث الأصغر، وهو المجيء من الغائط، وهو كنايةٌ عن قضاء الحاجة والتخلي، ويلتحق به كل ما كان في معناه، كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذَلكَ.
والثاني: ملامسة النساء، واختلفوا: هل المراد بها الجماع خاصة، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما سيأتي ذكره – أشاء الله تعالى -، أو المراد بالملامسة مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة لشهوة، أو مطلق التقاء البشرتين، وعلى هذين القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر.
وقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} متعلق بمن أحدث، سواءٌ كان على سفر أو لم يكن، كما سبق تقريره، دون المرض، لان المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء، هذا هو الذي عمل به الأمة سلفا وخلفا.
وحكي عن عطاء والحسن: أن فقد الماء شرطٌ للتيمم مع المرض - أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وأن خشي التلف.
وهذا بعيد الصحة عنهما، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له.
وقوله: { فَتَيَمَّمُوا} أصل التيمم في اللغة القصد، ثم صار علما على هذه الطهارة المخصوصة.
وقوله: { صَعِيداً} اختلفوا في المراد بالصعيد، فمنهم من فسره بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصة.
وقوله: { طَيِّباً} فسره من قال: الصعيد: ما تصاعد على وجه الأرض، بالطاهر.
ومن فسره بالتراب، قال: المراد بالصعيد التراب المنبت، كقوله تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وقول ابن عباس: الصعيد الطيب تراب الحرث.
وقوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} .
كقوله في الوضوء { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
وقد ذكرنا فيما سبق في ( ( أبواب الوضوء) ) أن كثيراً من العلماء أوجبوا استيعاب مسح الرأس بالماء، وخالف فيه آخرون، وأكثرهم وافقوا هاهنا، وقالوا: يجب استيعاب الوجه والكفين بالتيمم، ومنهم من قال: يجزئ أكثرهما، ومنهم من قال: يجزئ مسح بعضهما كالرأس – أيضا.
وقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار: ( ( إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك) ) يرد ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما.
وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما – إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: { مِنْهُ} يستدل به من قَالَ: لا تيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد، فإن قوله: { مِنْهُ} يقتضي أن يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد، ولا يمكن ذلك إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به، ومن خالف في ذلك جعل ( ( من) ) هاهنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض وهو يأباه سياق الكلام.
والله تعالى أعلم.
الحديث الثاني:
[ قــ :33 ... غــ :334 ]
- من طريق: هشيم: أبنا سيارٌ: ثنا يزيد الفقير: أبنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ) .
هشيم: مدلس، وقد صرح هنا بالسماع من سيار، وهو: أبو الحكم، وصرح سيار بالسماع من يزيد الفقير، وصرح يزيد بالسماع من جابر، فهذا إسناد جليل متصل.
وهذه الخمس اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنبياء، وليس في الحديث أنه لم يختص بغيرها، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر، وقد دلت النصوص الصحيحة الكثيرة على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس، وسنشير إلى بعض ذلك – إنشاء الله تعالى.
فأما ( ( الرعب) ) : فهو ما يقذفه الله في قلوب أعداءه المشركين من الرعب، كما قال تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران:151] وقال في قصة يوم بدر: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:1] .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي، أنه قال عام غزوة تبوك: ( ( لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي: إما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا) ) – وذكر بقية الحديث.
وقوله: ( ( أعطيت الليلة خمسا) ) ، لم يرد أنه لم يعطها قبل تلك الليلة، فإن عامتها كان موجودا قبل ذاك، كنصره بالرعب، وتيممه بالتراب، فإن التيمم شرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال، ولعله أراد أنه أعلم بأن هذه الخمس الخصال اختص بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة.
والله أعلم.
وروينا بإسناد فيه ضعف عن السائب بن يزيد، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( فضلت على الناس بخمس) ) - ذكر منها - ( ( ونصرت بالرعب شهرا من إمامي وشهرا من خلفي) ) .
وأما جعل الأرض له مسجدا وطهورا: فقد ورد مفسرا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم) ) - وذكر بقية الحديث.
خرجه الإمام أحمد.
وفي ( ( مسند البزار) ) من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء: جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه) ) - وذكر الحديث.
وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بان الأرض كلها جعلت مسجدا له ولأمته أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة لصلاتهم كما كان من قبلهم، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض وهذا لا ينافي أن ينهي عن الصلاة في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختص بها، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، وفي المقبرة والحمام، وسيأتي ذلك مستوفى في مواضع أخر - أن شاء الله تعالى.
وفي ذكره التيمم في الأرض من خصائصه ما يشعر أن الطهارة بالماء ليست مما اختص به عن الأنبياء، وقد سبق في ( ( كتاب: الوضوء) ) ذكر ذَلكَ.
واستدل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ) من يقول: أن التيمم يجوز بجميع أجزاء الأرض من التراب والرمل والنورة والزرنيخ والجص وغير ذلك، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
واستدل من قَالَ: لا يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض – كما يقوله الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه – بما في ( ( صحيح مسلم) ) عن حذيفة، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) ) ، وذكر خصلة أخرى.
فخص الطهور بتربة الأرض بعد أن ذكر أن الأرض كلها مسجد، وهذا يدل على اختصاص الطهورية بتربة الأرض خاصة؛ فإنه لو كانت الطهورية عامة كعموم المساجد لم يحتج إلى ذلك.
وقد خرج مسلم حديث جابر الذي خرجه البخاري هاهنا، وعنده: ( ( وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا) ) .
وهذا يدل على اختصاص الطهورية بالأرض الطيبة، والطيبة: هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] .
وروينا من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحٌميد، عن أنس، قَالَ: رسول الله: ( ( جُعلت لي كل ُ أرضٍ طيبةً مسجداً وطهوراً) ) .
ولكن قد دلت نصوص أٌخرُ على عموم كون الأرض مسجداً، فتبقى طهوريتها مختصة بالأرض المنبتة.
وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( أُعطيتُ أربعاً لم يُعطهن ِّأحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح الأرض، وسُمَّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم) ) .
وقد ظن بعضهم: أن هذا من باب المطلق والمقيد، وهو غلط، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتربة لقب، مختلف في ثبوت المفهوم له، والأكثر ون يأبون ذَلكَ.
لكن أقوى ما أستدل به: حديث حذيفة الذي خرجه مسلم، فإنه جعل الأرض كلها مسجداً وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان الاختصاص،فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحة) ) ، ولفظه: ( ( وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) ) .
ومعنى قوله: ( ( طهوراً) ) : أي مطهراً، كما قَالَ: ( ( الماء طهور لا ينجسه شيء) ) .
وفيه دليل لمن قَالَ: إن التيمم يرفع الحدث كالماء رفعا مؤقتا، ودليل على أن الطهور ليس بمعنى الطاهر كما يقوله بعض الفقهاء؛ فإن طهارة الأرض مما لم تختص به هذه الأمة، بل اشتركت فيه الأمم كلها، وإنما اختصت هذه الأمة بالتطهر بالتراب، فالطهور هو المطهر.
والتحقيق: أن ( ( طهورا) ) ليس معدولا عن طاهر، ولأن ( ( طاهرا) ) لازم و ( ( طهورا) ) متعد، وإنما الطهور اسم لما يتطهر به، كالفطور والسحور والوجور والسعوط ونحو ذلك.
وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصة، فقد روي أن من كان قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ: ( ( وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها) ) .
وفي ( ( الصحيحين) ) عن أبي هُريرةَ، قَالَ: ( ( غزا نبي من الأنبياء؛ فجمع الغنائم، فجاءت نار لتأكلها فلم تطعمها، فقال: أن فيكم غلولا،فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثُمَّ أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) ) .
وفي الترمذي عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار فتأكلها) ) .
وفي كتاب ( ( السيرة) ) لسليمان التيمي: أن من قبلنا من الأمم كانوا إذا أصابوا شيئا من عدوهم جمعوه فأحرقوه وقتلوا كل نفس من إنسان أو دابة.
وفي صحة هذا نظر، والظاهر أن ذوات الأرواح لم تكن محرمة عليهم، إنما كان يحرم عليهم ما تأكله النار.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: الإمام أحمد إلى أن الغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما له حرمة من حيوان أو مصحف.
وورد في ذلك أحاديث تذكر في موضع أخر – أن شاء الله تعالى.
وقد قال طائفة من العلماء: أن المحرم على من كان قبلنا هو المنقولات دون ذوات الأرواح، واستدلوا بأن إبراهيم - عليه السلام - كانت له هاجر أمة، والإماء إنما يكتسبن من المغانم، ذكر هذا ابن عقيل وغيره.
وفي هذا نظر؛ فإن هاجر وهبها الجبار لسارة، فوهبتها لإبراهيم، ويجوز أن يكون في شرع من قبلنا جواز تملك ما تملكه الكفار باختيارهم دون ما يغنم منهم.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الكافر إذا أهدى إلى آحاد المسلمين هدية فله أن يتملكها منه، ويختص بها دون غيره من المسلمين.
وقال القاضي إسماعيل المالكي: إنما اختصت هذه الأمة بإباحة المنقولات من الغنائم، فأما الأرض فإنها فيء، وكانت مباحة لمن قبلنا، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل فرعون.
وهذا بناء على أن الأرض المأخوذة من الكفار تكون فيئا، سواء أخذت بقتال أو غيره، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه.
ومن الناس من يقول: إنما حرم على من كان قبلنا الغنائم المأخوذة بقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال.
قالوا: وهاجر كانت فيئا لا غنيمة؛ لان الجبار الكافر وهبها لسارة باختياره.
وقد قَالَ طائفة من العلماء: أن ما وهبه الحربي لمسلم يكون فيئا.
وزعم بعضهم: أن المحرم على من كان قبلنا كان من خمس الغنيمة خاصة، كانت النار تأكله، ويقسم أربعة أخماس بين الغانمين، وهذا بعيد جدا.
واستدلوا: بما خرجه البزار من رواية سالم أبي حماد، عن السدي، عن عكرمة، عن أبي عباس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي) ) – فذكر الحديث، وقال فيه: ( ( وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أنا أن أقسمه في فقراء أمتي) ) .
وسالم هذا: قال فيه أبو حاتم الرازي: مجهول.
وأما الشفاعة التي اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بين الأنبياء، فليست هي الشفاعة في خروج العصاة من النار؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء والمؤمنون – أيضا -، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع: أحدها: شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم.
والثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة.
والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: أن هذه يختص هو بها.
والرابع: كثرة من يشفع له من أمته؛ فإنه وفر شفاعته وأدخرها إلى يوم القيامة.
وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث، ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ، قَالَ: ( ( أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن نبي كان قبلي) ) - فذكر الحديث، إلى أن قَالَ: ( ( والخامسة هي ما هي: قيل لي سل؛ فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله) ) .
وخرج – أيضا – من حديث أبي موسى، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد كان قبلي) ) – فذكره، وقال في آخره: ( ( وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا قد سأل شفاعته، وإني أخرت شفاعتي، جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) ) .
وفيه - أيضا – من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( لم يكن نبي إلا له دعوة ينجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وأنا سيد ولد ادم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت لوائي) ) .
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد، عن النبي، قال: ( ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي ولا فخر) ) .
وفي ( ( الصحيحين) ) عن أبي هُريرةَ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لكل نبي دعوة قد دعا بها أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
وفيه - أيضا – نحوه من حديث أنس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث عبد الرحمان بن أبي عقيل: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطاها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة، فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) .
خرجه البزار وغيره.
وفي ( ( المسند) ) عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( إن الله أيقظني فقال: إني لم أبعث نبيا ولا رسولا إلا وقد سألني مسالة أعطيتها إياه، فسل يا محمد تعط؟ فقلت: مسألتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الشفاعة التي اختبأت عندك؟ قال: ( ( أقول: يارب، شفاعتي التي اختبأت عندك، فيقول الرب تبارك وتعالى: نعم، فيخرج ربي تبارك وتعالى بقية أمتي من النار، فينبذهم في الجنة) ) .
والمراد من هذه الأحاديث - والله أعلم -: أن كل نبي أعطي دعوة عامة شاملة لأمته، فمنهم من دعا على أمته المكذبين له فهلكوا، ومنهم من سأل كثرتهم في الدنيا كما سأله سليمان - عليه السلام -، واختص النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ادخر تلك الدعوة العامة الشاملة لأمته شفاعة لهم يوم القيامة.
وقد ذكر بعضهم: شفاعة خامسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة المختص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
وسيأتي ما يدل عليه - أن شاء الله تعالى.
وأما بعثته إلى الناس عامة، فهذا مما اختص به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنبياء.
وفي ( ( المسند) ) من حديث أبي ذر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي) ) - فذكر منها -: ( ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود) ) .
وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخرا، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود) ) .
وفي ( ( مسند البزار) ) من حديث ابن عباس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( أعطيت خمسا لم يعطها نبي) ) - فذكر منها -: ( ( وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والأنس) ) - وذكر الحديث.
وقال: لفظ: ( ( الجن والأنس) ) لا نعلمه إلا في هذا الحديث، بهذا الإسناد.
قلت: وقد سبق أن في إسناده سالما أبا حماد، وأن أبا حاتم قَالَ: هو مجهول.
ولكن روي ذكر الجن في حديث آخر، ذكره ابن أبي حاتم في ( ( تفسيره) ) تعليقا، وفي إسناده رجل لم يسم، عن عبادة بن الصامت، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عليهم فقال: ( ( أن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعمة الله التي أنعم بها عليك، وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أنه بعثني إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأمدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعين مقنعي رؤسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة، فليس فوقي إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم) ) ، عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( فضلت على الناس بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ) .
وقوله: ( ( إلى الخلق كافة) ) يدخل فيه الجن بلا ريب.
وفي ( ( صحيح ابن خزيمة) ) عن حذيفة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( فضلت على الناس بثلاث) ) - فذكر الثالثة، قَالَ: ( ( وأعطيت هذه الآيات من أخر سورة البقرة من كنْز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي ولا أحد بعدي) ) .
وهذه الخصلة الثالثة لم تسم في ( ( صحيح مسلم) ) ، بل فيهِ: ( ( وذكر خصلة أخرى) ) كما تقدم.
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن الأنبياء لا تنحصر في خمس، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره في كل وقت بحسبه.
والله أعلم.