فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا

باب
إذا لم يجد ماء ولا ترابا
خرج فيه:
[ قــ :333 ... غــ :336 ]
- حديث: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله تعالى آية التيمم.
فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا.

قد سبق: أن رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة لهذا الحديث تخالف رواية عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة؛ فإن عبد الرحمان ذكر في روايته: أن عقدا لعائشة انقطع، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام على التماسه، وأنه نام حتّى أصبح على غير ماء، فنزلت آية التيمم.

وأما عروة، فذكر في روايته: أن قلادة لأسماء استعارتها عائشة فهلكت – يعني: أنهم فقدوها -، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلت آية التيمم.

وفي حديث ابن القاسم، عن أبيه: أنهم بعثوا البعير، فوجدوا العقد تحته.

وفي حديث ابن عروة، عن أبيه: أن الذين أرسلهم في طلبها وجدوها.

فزعم بعض الناس أن عائشة كان لها عقد انقطع وقلادة فقدت، فأرسل في طلب القلادة وأقاموا على التماس العقد، وفي هذا نظر.
والله أعلم.

ورجحت طائفة رواية مالك، عن ابن القاسم، عن أبيه على رواية هشام، عن أبيه، ومنهم: القاضي إسماعيل المالكي، وقال: بلغني عن يحيى القطان أنه كان ينكر أشياء حدث بها هشام في آخر عمره لما ساء حفظة.

وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام، عن أبيه على أن من لم يجد ماء ولا ترابا أنه يصلي على حسب حاله، فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يأمرهم بإعادة الصَّلاة.

وزعم بعضهم: أن رواية القاسم، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو ولا من معه، وهذا في غاية الضعف.

وقد قررنا في ما تقدم: أن آية سورة النساء التي فيها ذكر التيمم كان نزولها سابقا لهذه القصة، وأن توقفهم في التيمم إنما كان لضنهم أن من فوت الماء لطلب مال له لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك.

والظاهر: أن الجميع صلوا بالتيمم ولكن حصل لهم شك في ذلك، فزال ذلك عنهم بنزول آية المائدة.
والله أعلم.

واختلف العلماء في حكم من لم يجد ماءا ولا ترابا على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يصلي بحسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو قول مالك وأحمد في رواية عنهما، وأبي ثور والمزني وغيرهم، وحكي قولا قديما للشافعي.

وعليه بوب البخاري، واستدل بحديث عائشة الذي خرجه هاهنا؛ فإنهم شكو ذَلكَ إلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذكر أنه أمرهم بقضاء صلاتهم؛ ولأن الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه، كاستقبال القبلة وستر العورة.

والثاني: يصلي ويعيد، وهو قول مالك في رواية، والشافعي، وأحمد في رواية عنه نقلها عنه أكثر أصحابه.

والثالث: لا يصلي ويعيد صلاته، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة، وهو قول قديم للشافعي.

واستدلوا: بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ) .

ويجاب عنه: بان ذلك مع القدرة، كما في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ) ، ولا خلاف أنه لو عدم الماء وصلى بالتيمم قبلت صلاته.

والرابع: أنه لا يصلى ولا إعادة عليه، وهو رواية عن مالك، وقول بعض الظاهرية، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور.

وهو أردأ الأقوال وأضعفها، ويرده قول الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ) .

وليس هذا كالحائض؛ فإن الحائض ليست من أهل الطهارة، ولا يصح منها لو فعلتها، وهذا من أهلها وهو عاجز عنها.

وأما قول أسيد بن حضير لعائشة - رضي الله عنها -: ( ( جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين خيرا) ) .

فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، وقد تقدم أن بعض أهل السير ذكر أن هذه القصة كانت هي وقصة الإفك في سفرة واحدة، وهذا يشكل عليه قول أسيد بن حضير هذا؛ فإن الفرج الذي حصل من قضية الإفك إنما وقع بعد قدومهم المدينة بمدة، وظاهر سياق حديث عائشة يدل على أن أسيد بن حضير قَالَ ذَلكَ عقيب نزول آية التيمم.

وقد زعم بعضهم: أن هذا قاله أسيد بن حضير بعد نزول الآيات في قصة
الإفك، وبعد نزول آية التيمم، وهو مخالف لظاهر هذه الرواية.
والله أعلم.

وقد استحب الثوري وأحمد: حمل التراب للمسافر كما يستحب له حمل الماء للطهارة، ومن المتأخرين من أنكره، وقال: هو بدعة.