فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به

باب
الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به
وقال الزهري في حديثه: الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على منكبيه.

وقالت أم هانئ: التحف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثوب، وخالف بين طرفيه على عاتقيه.

حديث أم هانئ قد خرجه البخاري في هذا الباب، وإنما مراده هنا: تفسير الالتحاف المذكور فيه، وقد حكى عن الزهري أنه فسره بالتوشح، وذكر أن التوشح والالتحاف والاشتمال بالثوب المأمور به في الصلاة: هو أن يطرح الثوب على منكبيه، ويرد طرفيه على عاتقيه، فإن لم يردهما فهو السدل المنهي عنه، كما سنذكره - أن شاء الله تعالى.

وقد فسر يعقوب بن السكيت التوشح، فقال: هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره.

وفرق الأخفش بين التوشح والاشتمال، فقال: التوشح: هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى، فيلقيه على منكبه الأيمن، ويلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر.

قال: والاشتمال: أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدميه، يرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر.

خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
حديث عمر بن أبي سلمة، وخرجه من طرق:
فخرجه أولا:
[ قــ :350 ... غــ :354 ]
- عن عبيد الله بن موسى: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه.

وبدأ بهذه الطريق لعلوها؛ فإنه رواه عن عبيد الله بن موسى - وهو: العبسي الكوفي -، عن هشام بن عروة سمعه منه.

وقد قيل: أنه لم يرو عنه في ( ( كتابه) ) بغير واسطة غير هذا الحديث، وهذا
وهم؛ فإنه روى عنه - أيضا - بغير واسطة أول حديث في ( ( كتاب الإيمان) ) ، وهو حديث: ( ( بني الإسلام على خمس) ) .

ثم قال:


[ قــ :351 ... غــ :355 ]
- ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثني أبي، عن عمر ابن أبي سلمة، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقيه.

ويحيى هو: القطان، وفي هذه الرواية: زيادة تصريح هشام بسماعه له من أبيه، ورؤية عمر بن أبي سلمة لذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم قال:


[ قــ :35 ... غــ :356 ]
- ثنا عبيد بن إسماعيل: ثنا أبو إسامة، عن هشام، عن أبيه، أن عمر بن أبي سلمة أخبره، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة، واضعا طرفيه على عاتقيه.

ففي هذه الرواية: تصريح عروة بسماعه له من عمر بن أبي سلمة، وفيه - أيضا -: رؤية عمر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي كذلك، وفيه تسمية ذلك اشتمالا، وتفسيره بوضع طرفي الثوب على عاتقيه.

وفي رواية خرجها مسلم في ( ( صحيحه) ) : ( ( متوشحا به) )
وأظن البخاري من هذه الوجوه الثلاثة عن هشام ليبين أن من رواه: عن هشام، عن أبيه، عن عَبْد الله بن عَبْد الله بن أبي أمية المخزومي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد وهم؛ فإن إسحاق رواه، عن هشام كذلك.

خرجه من طريقه الإمام أحمد.

وخرجه - أيضا - من طريق أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة كذلك، وهو وهم - أيضا.

وممن جزم بأنه وهم: علي بن المديني، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
وممن رواه عن هشام، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: شعبة، ومالك، وحماد بن زيد وغيرهم.




[ قــ :353 ... غــ :357 ]
- ثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني مالك، عن أبي النظر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب اخبره، أنه سمع أم هانئ قالت: ذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره.
قالت: فسلمت عليه، فقال: ( ( من هذه؟) ) قلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب.
فقال: ( ( مرحبا بأم هانئ) ) ، فلما فرغ من غسله قام، فصلى ثمان ركعات ملتحفا فِي ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أبي، أنه قاتل رجلا قد أجرته: فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) ) .
قالت: وذلك ضحى.

وخرجه مسلم من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي مرة، عن أم هانئ، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في بيتها عام الفتح ثمان ركعات، في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه.

وأول الحديث قد سبق في ( ( كتاب الغسل) ) ، ويأتي الكلام على باقيه في ( ( صلاة الضحى) ) وفي ( ( الجهاد) ) في ( ( أمان المرأة) ) - أن شاء الله تعالى.




[ قــ :354 ... غــ :358 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن
المسيب، عن أبي هريرة، أن سائلا سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أو لكلكم ثوبان؟) ) .

وقد رواه ابن عيينة والأوزاعي عن الزهري، كما رواه مالك.

ورواه يونس وعقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة.

قال أبو حاتم الرازي: كلاهما صحيح.

ورواه الأوزاعي، [و] في روايته: قال: ( ( ليتوشح به، ثم ليصل فِيهِ) ) .

وقيل: أنه تفرد بهذه اللفظة عن الزهري.

وقوله: ( ( أو لكلكم ثوبان؟) ) إشارة إلى أن منهم من لا يجد سوى ثوب
واحد، فلو لَمْ يصل احد فِي ثوب واحد لشق ذَلِكَ عَلَى بعض النَّاس أو كثير منهم، والحرج مرفوع عَن هذه الأمة بقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] ، وقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .

فدلت أحاديث هذا الباب كلها على أنه يجوز أن يصلي الرجل في ثوب واحد، يشتمل به على منكبيه، ويخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو أفضل من الاتزار به، وعقده على قفاه، فإنه إنما يتزر به ويعقد عند ضيقه.

هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم، وسيأتي من حديث جابر التصريح بهذا المعنى.

وكان كثير من الصحابة يصلي كذلك ويأمر به، منهم: علي، وجابر، وخالد بن الوليد.

وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على خلاف ذلك، وان الاتزار بالثوب الواحد في الصلاة أولى من الاشتمال.

وروى وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن واقد قال: صليت إلى جنب ابن عمر وأنا متوشح، فأمرني بالأزرة.

وعن عون بن صالح، عن حيان البارقي، قال: قال ابن عمر: لا تلبب كتلبب اليهود - يعني: في التوشح.

وفي ( ( سنن أبي داود) ) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أو قال عمر -: ( ( إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب فليتزر، ولا يشتمل اشتمال اليهود) ) .

وقد سبق أنه حديث مختلف في رفعه وفي وقفه على عمر بن الخطاب، وقد روي موقوفا على ابن عمر من قوله.

وفي رواية مرفوعة خرجها الحاكم وصححها: ( ( إذا لم يجد أحدكم إلا ثوبا واحدا فليشده على حقويه، ولا يشتمل اشتمال اليهود) ) .

قال الأثرم في هذا الحديث: ليس كل احد يرفعه، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه خلافه - يشير إلى الالتحاف والاتشاح بالثوب، كما تقدم.

وإن صح حديث ابن عمر فهو محمول على ما إذا لم يرده على عطفيه، فإن ذلك هو السدل المكروه، وبذلك فسر السدل الإمام أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة.

وممن كره السدل في الصلاة: علي، وابن مسعود، قال أحمد: صح عن علي أنه كرهه، وجعله من فعل اليهود، واختلفوا فيه عن ابن عمر.

وفي كراهته أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال.

وعن أحمد، أنه لا يكره، إلا إذا لم يكن تحته قميص.

وكان الحسن وابن سيرين يسدلان على قميصهما، ورخص النخعي في السدل على القميص، وكرهه على الإزار، وحكي نحوه عن أحمد.

وفسر آخرون السدل بما ذكرنا، وزادوا: أن يكون مسبلا تحت الكعبين، وهذا هو المروي عن الشافعي، وهو الذي ذكره أكثر أصحابه، وبعض أصحابنا، وقاله الخطابي وغيره، وجعلوا حكمه حكم إسبال الإزار تحت الكعبين: أن كان خيلاء حرم ذلك، وإن لم يكن خيلاء ففيه الاختلاف المشهور.

والصحيح: أن ذلك ليس بشرط في السدل، وان الاختلاف في كراهة السدل إذا لم يعطف أحد طرفي ثوبه على الآخر وإن لم يكن مسبلا.
والله أعلم.

قال يزيد بن أبي حكيم: رايت سفيان الثوري يصلي مرخيا رداءه في الأرض، قد اشتمله وكشف عن بطنه وصدره، غير أنه زر طرفي الثوب، ممسكا عليها عند موضع الأزرة، فسأله: أسدل هذا؟ قال: لا، حتى يرخيه ولا يمسكه.

وكذلك روى إسحاق بن منصور، أنه رأى أحمد يصلي سادلا، وطرفا ثوبه
بيده، فإذا قام من الركوع خلى عنهما.